أشفق دوماً من حالة الانبهار أو الإعجاب الشديد العاجز، يتطلع به فرد أو أفراد أو أمة متخلفة إلى أمة وشعب أو دولة متقدمة تضج بالحيوية فتقبل على العلم، وتبحث، وتنتج، وتغتني، وتزداد قوة إلى قوتها في كل يوم.. في الوقت الذي قد يزداد فيه المتخلف المنبهر المفتون تخلفاً وديوناً وفقراً ومرضاً وجهلاً، سواء بأسباب منه، أم بأسباب تتعلق بسرعة التقدم ومضمونه لدى الأمم الأخرى.
إن الإعجاب بالتقدم، والقوة، والصحة، والجمال، والغنى، والتعليم المقتدر، والتربية الماضية بشعبها إلى مواقع الحياة الطيبة والاحترام والمهابة، هذا الإعجاب لا يمكن انتزاعه من البشر، فإن يهفُ الناس لمثل ذلك فإنها فطرة مودعة، ولعلها من دواعي التقدم وحفظ الحضارات وتداولها في حياة البشرية.
أما الافتتان المؤدي (للخضوع الحضاري) للأقوى، والأغنى، والأعلم، فإنه يمكن أن يخلق حالة من التبعية والعبودية، قد تسلم إلى نوع من التسليم اليائس للأقوى، والعجز لا عن اللحاق به، بل عن مجرد تصور ذلك كما أنها قد تجهز من جانب آخر على دوافع العمل الجاد لإنشاء الحضارة الخاصة بأمة في الوقت الذي تضخم فيه جانب التقليد الهامشي لمنجزات الحضارة الغالية المفتتن بها، والانغماس في التحلي (برتوشها) وزخرفها واستيراد ملحقاتها الافتخارية من: ملبس، مأكل، مأوى، أدوات زينة، دون التغلغل في معرفة جوهر قوتها ومحاولة حيازته.
حينئذ يصبح ويمسي المتخلف وهو يولي قلبه وعقله شطر تلك العواصم القوية ويغشاه من الانبهار ما يجعله مشلولا نفسيا يائسا من اللحاق بالمتقدمين حتى لقد يذهب الظن بهؤلاء أن صناع هذه المدنية.. هم من طينة غير طينة البشر التي نعرف.. وأن هؤلاء المتخلفين ليسوا مؤهلين خلقيا أو خلقيا لمنافسة هؤلاء.
وقد يندفع هؤلاء في مقارنات غير متروية يحكمون بالنتائج ولا ينظرون في الحيثيات.. وقد يحدث أن يعجز شعب ما في ظروف وزمن ما - على سبيل المثال - عن تنظيم مرفق نقل في قلب مدينة تشبه المدن العصرية، ثم يرى الآخرين وهو يصوبون صواريخهم نحو كوكب بعيد مثل (نبتون) أو (المريخ).
يرتحل الصاروخ فيها سنين عدداً في أجواز الفضاء فما ينحرف عما وجه له من غاية وقد يصيبه العطب أثناء مسيرته فيتم اصلاح العطب بالتوجيه عن بعد.
وقد يخفق شعب في سد العجز في طعامه بينما شعوب أخرى تنتج جبالا من الزبد والحليب، فلا تتمكن من استهلاكها أو المتاجرة بها بسعر مربح، فتعمد لاستخدامها كوقود للمصانع.. حدث هذا ويحدث أكثر منه.
فكيف ينعكس هذا الإخفاق المرهق والنجاح المبين على الشعوب التي لم تسجل أهدافا بفريقها في مرمى التقدم؟
إن هذه الشعوب قد تتخافت بينها أو تجهر باليائس من القول، أن تقوم من رقدتها أو أن تلحق بركب المتقدمين.
وقد نلاحظ ثم نستغرب أن تنشأ مثل هذه الأحاسيس وتتضخم في أوساط بعض (المثقفين) و(المتعلمين) ثم تمتد عدواها منهم إلى الجهلة والأميين، بل قد يصيب هذا المرض اللعين طبقة المثقفين والمتعلمين في أمة أكثر مما يصيب الجهلة فيها.
لماذا؟ لأن المثقف يتلقى ويطلع ويتابع فهو أول من يتلقى صدمة التقدم، ولكنه أيضا قد تتلوى به سبل الثقافة وقد يعجز عن تجاوز المظهر إلى الجوهر والفروع إلى الأصول.
فيكون مثل الذي يطالع عن الأمراض وأعراضها وأهوالها وينظر إلى التكاثر المخيف في عالم الميكروبات وتنوعها وكيف ترتع حول الإنسان وفي داخله.. دون أن يعلم مكنون أسرار المقاومة في الجسد البشري، وجهاز المناعة وعلوم الطب والدواء والجراحة ومقاومة الأمراض المعدية، إن النتيجة الغالبة في نفس ذلك المثقف أحادي النظرة والفكر والمعلومة أن ييأس ويمتلئ صدره وعقله بالوساوس وتهاويل أكثر الأمراض إزمانا واستعصاء على الشفاء.
لذا فإن أكداس المعلومات يتضخم بها عقل مثل ذلك المثقف قد لا تألوه إلا خبالا وخيالا مريضا فلا تفيده ولا يستفيد منها مجتمعه وهو الذي أمل من ورائه خيراً.
إن المثقف لا تكون له رسالة يتمكن من حملها حتى يكون له عاصم من عقيدة ترده عن اليأس وتدفعه للأمل. عقيدة كعقيدة المريض الواثق من الشفاء بإذن الله.
وعقيدة الشفاء تجعل للجسد قدرة على تمثل الدواء وهضمه، ودون هذه العقيدة قد يتسرب أثر الدواء كما يتسرب الماء إلى المجاري، أو كما تنهمر الأمطار على سطح صلد لا ينبت نباتا مما ينفع الناس فيمكث في الأرض.
وتلك هي (الروح المعنوية) أو (الثقة) والأمل لا تستغني عنها أمة متخلفة تريد أن تتقدم.. أو متقدمة تطمح في مزيد وهي التي يقول عنها القادة العسكريون إنها بالنسبة للسلاح تساوي 3: 1 أي أن الروح المعنوية تمد الجيوش بثلاثة أضعاف قوة السلاح بين يديها.. وهي التي ربما عناها الكتاب الكريم في معرض التفوق بسبب الصفات التي ترتكز على عقيدة المقاتل {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ} (65) سورة الأنفال. وقد نرى اليوم بين أظهرنا في عالم نعايشه.. أمة من عشرين مليونا تنتج أكثر من أمة أخرى تعدادها مائتي مليون..
فهي تتفوق على الأخرى الأكثر عدداً بالرغبة في الإنتاج والصبر والدقة والابتكار والنفور من الكسل والتواكل وخيانة الإتقان والمواصفات.
ولا عبرة هنا بالتراث النظري المسطور والمذاع أو المحفوظ في الخزائن، وإنما بما يقر في القلب ويصدقه العمل.
والله الهادي إلى سواء الصراط.
|