* زيارة صقر الجزيرة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود لمصر، وكان السفر والإبحار عبر إدارة الكورنتينة بجدة يومئذ، قبل إنشاء ميناء جدة البحري بنحو خمس سنوات، وكان الصعود إلى البواخر، عبر السنابيك الشراعية وقليل منها لها محرك يدفعها .. ويومها وقف حسان جلالته الشاعر المكي الشيخ أحمد بن إبراهيم الغزاوي، يردِّد في ساحة إدارة الكورنتينة بصوته الجهوري بلا ميكرفون يكبر الصوت، والشيخ الغزاوي صاحب لفتات كما هي حال الخطباء والشعراء النابهين، ليلفت أبصار وأسماع الحاضرين .. وفجأة عند مقطع من الشعر أخذ يردِّد، ويتطلَّع الناس في عجل عما يريد أن يقول الخطيب أو الشاعر، وحتى صقر الجزيرة حينما أخذ الشاعر يردِّد صدر بيت من قصيدته، يدعو من في الموقف إلى سماع الإنشاد إلى ماذا سيقول، حتى الملك المغادر إلى أرض الكنانة شدَّه ترديد شاعره صدر بيت ينم عن مفاجأة في عجزه، وما عسى أن تكون؟ قال الشاعر الكبير رحمه الله: (ونخشى الذي نخشاه من مصر أنها) ولم يكمل، بل ظلَّ يردِّد هذا الصدر دون إكماله، كأنّ ثم مفاجأة من مفاجآت الشعراء النابهين وما أكثرها .. مما دعا الملك أن قال: قول يا أحمد، أي أكمل البيت، كأنّه يقول له: أرح الناس الذين شددتهم إليك شدّاً، فقال الشاعر الذكي الطلعة:
ونخشى الذين نخشاه من مصر أنها تشاركنا فيك الهوى فنضيع |
فسرَّ الملك وسفير مصر يومئذ وكبار مودِّعي الملك وحاشيته بهذه المفاجأة الشاعرية من شاعر لبق ذكي موهوب ..
* وكان من المواقف الرائعة في تاريخ الوحدة الإسلامية، زيارة الملك عبد العزيز آل سعود مصر، في تاريخ أول صفر عام 1365هـ، فأفاضت الصحف في البلاد العربية في وصف هذه الزيارة الميمونة، وامتلأت بالصور الناطقة، ولا أريد أن أنقل عنها فيما حفلت به، بل أكتفي بوصف دقيق ذكره الدكتور محمد رجب البيومي، إذ وجدت أسلوبه الواضح، يغني عن التعليق .. نشر ذلك في عام 1972م أيام كان ضمن هيئة التدريس في جامعة الإمام محمد بن سعود ..
* جاء في ذلك الحديث قوله: (لقد زار عاهل المملكة العربية السعودية المغفور له بإذن الله جلالة الملك عبد العزيز آل سعود الديار المصرية في أوائل صفر سنة 1365هـ، فخرجت الأُمّة لاستقباله حكومة وشعباً، وأقيمت لمقامه الزينات المتلألئة ابتهاجاً بمقدم بطل إسلامي، عمل على حراسة مقدّسات الدين الإسلامي وإقامة شرعه، ووطَّد الأمن ومهّد سبل الراحة في بلاد يقدِّسها المسلمون وتهوي إليها أفئدتهم الظامئة في اشتياق وحنين، وقد خف جلالة الملك فاروق ووزراء حكومته وعلية دولته إلى السويس لاستقبال الزائر العظيم مع رفقته الكرام من أهل بيته ورجال مملكته، فكانت لحظات سعيدة خلًّدت وحدة الإسلام ومجد العرب أجمل تخليد، وأقيم سرادق فخم بالسويس أمّه جمهور الشعب المصري محتفلاً برؤية الزائر الكريم محوطاً بأصحاب السمو من أنجاله وإخوانه وأفراد حاشيته، ثم حان موعد الذهاب إلى القاهرة فنهض العاهل إلى القطار الملكي الخاص بين دوي المدافع وهتاف المرحِّبين .. ووصفت الصحف المصرية ما كان من روعة الاستقبال وصفاً يجب أن يكون مصدراً من مصادر التاريخ الأخوي الوثيق بين المملكة العربية السعودية ومصر، ووصفت كيف أخذ القطار يمر على القرى قرية قرية، ليجد مئات المحتشدين يرحبون هاتفين، حتى وصل إلى محطة الإسماعيلية، فرأي الضيوف من زحام الحشود وروعة المتدافعين ما فاق كلّ وصف .. ثم تابع القطار سيره إلى مدينة الزقازيق .. ثم أخذ يتابع مروره على المحطات الرئيسية وفي كلِّ مدينة حشود وأعلام وهتاف، ولا تسل عن لحظات الوصول إلى القاهرة، فقد كانت من أمتع مشاهد الاحتفاء بما أقيم من نظام وتدفُّق من الناس، وظهر من حب وإجلال حتى استقر الركب بعابدين، فأقيمت حفلة اللقاء الرسمي، فأنشد فيها شاعر الأقطار العربية خليل مطران قصيدة من عيون الشعر الخالد .. ولم يكن خليل مطران هو الشاعر الوحيد الذي نظم قصيدة رائعة، بل تدفّقت قصائد الشعراء في الصحف والمجلات مرحِّبة بزيارة العاهل العظيم، ولا أستطيع الوقوف على كلِّ ما قيل من الشعر في هذه المناسبة، بل أكتفي ببعض القصائد، لأنّها بروعة أسلوبها وتدفُّق معانيها وقوة عاطفتها تسجِّل هذه الزيارة الكريمة، وهي سنّة مأثورة في الشعر العربي منذ القِدَم، فقد سجَّل أبو تمام والبحتري والمتنبي وغيرهم من كبار الشعراء أمثال هذه المواقف للخلفاء والملوك والأمراء، حتى أصبح الشعر العربي من مصادر الأحداث التاريخية بما قال هؤلاء الكبار، بل إنّ سيف الدولة الحمداني لم تشتهر وقائعه الحربية مع الروم إلاّ بما سجَّله أبو الطيب المتنبي عنها في ديوانه الحافل .. وسأبدأ بقصيدة مطران لأنّها أول ما سمع العاهل الكريم من الشعر في حفلات التكريم ..
|