أعرف أنني لست جوفياً بالانتماء.. فوالدي (يرحمه الله) لم يسكن (سكاكا) ولا (دومة الجندل) ولا حتى (الوادي)!! وأكاد أجزم أنه لم يمر حتى - مجرد مرور - ب(عذفاء) أو (قارا) واحدٌ من أجدادي.. ولم أعثر يوماً في صكوك أراضينا أننا نمتلك (حوطة) في (الشعيب) أو (القنيطرة) ولا حتى (الضلع) أو (الشلهوب)!!.. وبالتالي ليس لي جذور انتماء بالنسب للجوف، فهذا شرف لا أدَّعيه لنفسي.. لكن ما أستطيع أن أدَّعيه ويوثِّقه الجوفيون أنني جوفيٌّ بالعطاء والولاء.. فهنا قد غرست العطاء شموخاً.. وخضبت كفي برملٍ وطين.. وهنا قد شربت حليب النفوذ فأنشز عظماً قوياً مكين.. وهنا في الجوف دثرتني سجايا الرجال.. وطوَّق جيدي ندى الطيّبين.. ففي كل مشب بالجوف صديقٌ عزيزٌ ودودٌ بشوشٌ كريم اليمين.. فالجوف هي الأهل والصحب.. والعين والهدب والكنز والذهب والنبضُ والعصب والجدول العذب والقلب والحبّ.. الجوف هي التي عشت فيها حلو أيامي سعيداً.. بين (عذفا) و(الجماجم).. فكل بيت في ذرا الجوف وريدي، كل فرحٍ هو فرحي والمآتم.. فمن رمال الجوف أبدعت قصيدي ونسجت الحب من عطر المواسم.. وباختصار شديد: أنا أعرف أن الجوف ليس لي وطناً، لكنها بهواه العين تكتحل.. فأنا والجوف كالتوأمين توحّدا ببعضهما.. أموت لو شريانه عني ينفصل.. فالجوف خيمتي.. وديانها.. كثبانها.. أوتادها مزروعة في مهجتي.. وحداؤها وصهيلها نايي وبوح ربابتي.. ودمي الذي يجري بشرياني وأطراف الوريد.. هي كسرة الخبز المبلّل من جبيني واعتصارات الهجير.. هي ذلك الماضي المشرف كلما صافحت في دربي صديق..
|
فلا أروع من أن أخاطب الجوف بما خاطب به نزار قباني دمشق الفيحاء، فأقول لدومة الجندل الحبيبة:
|
حبيبتي أنت فاستلقي كأغنية |
على ذراعي ولا تستوضحي السببا |
ولا أروع من أن أخاطب الجوف بما خاطب به الدكتور أحمد بن عثمان التويجري الرياض، فأقول لحبيبتي سكاكا:
|
أنا أحبك ملء الكون أعلنها |
ولا أبالي إن طافت بي التهم |
لقد اختلف المؤرخون على أي وطن ينسب المرء، لكنني استناداً لرأي ابن حزم أعتبر نفسي جوفياً.. ولماذا لا أعتبر نفسي جوفياً وأعتز بهذا الانتماء برابطة العطاء والولاء؟! فالجوف بلاد ألفناها على كل حالة حتى أصبحنا نعدُّها وطناً:
|
ونعشق غير دار المهد داراً |
يطيب لنا بأعينها محلُّ |
ونفرح كلما ائتزرت سحاباً |
وخضب كفها مطرٌ وسيلُ |
وهبناها الشباب وكان غضاً |
كزهر الصبح إذ يغشاه طلُّ |
سمونا في العطاء وكان ثراً |
نهارٌ كان يشغلنا وليلُ |
فأعطتنا كما تعطي بنيها |
وكحل طرفنا ثمرٌ وظلُّ |
كل هذه المشاعر تزاحمت في عقلي ووجداني والحشا وأنا أزور الجوف بعد انقطاع ثمانِ سنوات ونيِّف في زيارة عمل لمركز جمعية الأطفال المعوقين بعد إقامة فيها امتدت زهاء سبعة عشر عاماً.. يحسب المرء إن ودَّع أنه غير ملاقٍ.. وإن هاجر أنه غير عائدٍ.. لكن الإنسان قد يلتقي مع الإنسان طال أو قصر الزمان.. وهذا ممكن حتى لو نأى بهما المكان.. إنما المستحيل أن يلتقي الجبلان..
|
لقد تغيّرت الجوف.. ثمة تطور ولمسات فنية وجمالية هنا وهناك.. إنها تبدو كورشة عمل.. مشروعات.. حركة.. واستعدادات تفوح عطراً وولاءً وتمور دفئاً وحبوراً احتفاءً بمقدم خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز - يحفظه الله - عقب موسم الحج بإذن الله.
|
كانت الزيارة فرصة للقاء الأصدقاء الأوفياء الموسومين بالأصالة.. الذين أجبروني - سامحهم الله - أن أجرب المجرب.. ليثبتوا أن عقلي (كما يقول المثل) مُخَرَّب.. فأنا أعرف أكثر من غيري كرم الجوفيين وسخاءهم.. فلا عجب أن يُسمّي معالي الأمير عبد الرحمن بن أحمد السديري (يرحمه الله) منطقة الجوف في مؤلفه التاريخي عن المنطقة الذي تشرَّفت بالمشاركة فيه ب(الجوف.. وادي النفاخ).
|
وبالمناسبة أودّ أن أشير هنا إلى أن كرم الجوفيين وسخاءهم لا ينطبق عليه المفهوم الذي قد يربط بالسخاء فيما قاله الإمام الشافعي:
|
وإن كثرت عيوبك في البراري |
وسرك أن يكون لها غطاء |
تستَّر بالسخاء فكل عيب |
يغطيه كما قيل السخاء |
فسخاء أهل الجوف سخاء أصيل، والجوفي لا يكرم لتغطية عيب، وإنما ليؤدي واجباً ويصون في هذا إرث آبائه وأجداده.
|
ما أجمل أن يجد الإنسان نفسه بعد انقطاع طويل بين أصدقاء قضى معهم زهرة شبابه؛ فالخسران والخسارة في فقد هذه النخبة من الأوفياء.. أو كما قال الشاعر:
|
لكل شيء عدمته عوضٌ |
وما لفقد الصديق من عوضِ |
وأنا في هذا حقيقة أتمثَّل قول ابن الرومي:
|
فكثِّر من الإخوان ما استطعت فإنهم |
بطون إذا استنجدتهم وظهور |
وليس كثيراً ألف خلّ وصاحب |
وإن عدواً واحداً لكثير |
والحمد لله أن أكثر الجوفيين إخواني وأصحابي، لكن الأمر قد لا يخلو من كدر أو استثناء.. وهذه حال الدنيا والناس، وأنا في ذلك أردِّد مع الشاعر ابن الرومي مقولته:
|
هم الناس والدنيا ولا بدَّ من قذى |
يلم العين أو يكدر مشربا |
وأطمئن القارئ الكريم أن المسألة لا تعدو كونها زعل قريب على قريبه، فأنا أعتبر نفسي ويعتبرني الجوفيون منهم.. وما دمنا أهلاً وأقرباء إذنْ فلا بدَّ أن يكون بيننا وبين بعض أقاربنا بالجوف أحياناً شيئاً من هذه الجفوة التي لا أرى لها مبرراً بين الأحبة على الأقل لو من باب الوفاء للعيش والملح، وكم أتألم لظلم بعض أقربائي الجوفيين.. فظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهنَّد.. وفي هذا يحضرني قول لجبران خليل جبران يقول فيه: (إذا أساء إليك امرؤ فأنت تقدر على نسيان الإساءة، لكنك إذا أسأت إليه فأنت تظلّ ذاكراً لهذه الإساءة أبداً)..
|
فما أجمل أن نكون عادلين إذا أحببنا.. عادلين إذا كرهنا.. هذا إذا كان هناك ما يوجب الكراهية أساساً التي لا أرى لها موجبات.. وأتمنى أن نتمثل جميعاً قول يحيى بن معاذ الذي جاء فيه: (ليكن حظ المؤمن منك ثلاث خصال لتكون من المحسنين: إحداها إن لم تنفعه فلا تضرّه، والثانية إن لم تسرّه فلا تغمّه، والثالثة إن لم تمدحه فلا تذمّه).
|
وعلى العموم لن أسهب في العتاب؛ فكل شيء قابل للتغيير، أو كما قال الحكيم العربي:
|
أقلل عتابي فالمقام قليل |
والدهر يعدل تارةً ويميل |
والجوفيون هم العشيرة والأهل والقبيلة، ولهم أن يعتبوا عليَّ؛ فالعتب على قدر المحبة، ولي أن أعتب عليهم أيضاً تأكيداً للود والمحبة بيننا، أو كما قال الشاعر:
|
إذا ذهب العتاب فليس ود |
ويبقى الود ما بقي العتاب |
وهذه حال الدنيا أينما وجدت قريباً كاشحاً تجد صديقاً مخلصاً:
|
لمودة ممن يحبك مخلصاً |
خير من الرّحم القريب الكاشح |
وأحياناً يصح في الأصدقاء قول الشاعر:
|
ومن العداوة ما ينالك نفعه |
ومن الصداقة ما يضرّ ويؤلم |
والجوف أبداً كانت وستظل صنو الكرم والأصالة.. وزائرها ليس في حاجة لقرع أبواب الجوفيين المشرعة.. والجوف يظل منازل الكرماء معموداً ومقصوداً، وفي هذا يقول الشاعر:
|
تسقط الطير حيث تلتقط الح |
ب وتغشى منازل الكرماء |
|
الأولى: إلى سعادة الأستاذ أحمد بن عبد الله بن محمد آل الشيخ وكيل إمارة منطقة الجوف رئيس اللجنة العليا لمركز الجمعية بالجوف: إن تواضعكم الجمّ سيدي وحماسكم المنقطع النظير للعمل الخيري عامة ولرسالة جمعية الأطفال المعوقين ومركزها بالجوف خاصة مسألة أصيلة في أسرتكم العريقة وشخصكم الكريم، والشيء من أهله لا يستغرب.. جعل الله كل ما قدمتموه وتقدمونه في موازين حسناتكم، وسدَّد على درب الخير خطاكم.
|
الثانية: إلى الدكتور عارف بن مفضي المسعر الأب الروحي للتعليم بمنطقة الجوف: تظل أيها الأديب المؤدب ربيعاً في كل فصولك، منارة في خلقك وسجاياك وطبعك.. ودار معارف العصر لن تكون آخر عطاءاتك للمنطقة؛ فمعينك وإرثك الثقافي ليس له حدود.. ومعينه لا ينضب.
|
الثالثة: إلى الابن العزيز بدر بن فهد بن حسن البليهد كبير جماعة العلي بالجوف: أنت أيها العزيز - إن شاء الله - خير خلف لخير سلف، ومن شابه أباه فما ظلم.. أنت وفيٌّ لرسالة أبيك الشيخ الصديق فهد - يرحمه الله - برعايتك لمتحفه الذي جمع فيه العلم مع الأصالة والوطنية في سيمفونية تراثية رائعة، وفيٌّ لرسالته كما كنت وفياً لأصدقاء الوالد يرحمه الله، فهذا يا ولدي من السنة، وفقك الله ورعاك.. لقد أتحفتني بزيارة هذا المتحف الفريد الذي جاء بمبادرة فردية من الفقيد وكنت أعيش مراحله أولاً بأول.
|
الرابعة: أشكر كل من أحاطني في هذه الزيارة بكريم رعايته، دمتم جميعاً بخير، وحفظ الله الجوف والجوفيين وهذا البلد الأمين تحت راية لا إله إلا الله محمد رسول الله في ظل قيادته الحكيمة المخلصة لدينها وشعبها وأمتها العربية الإسلامية.
|
* عضو الاتحاد العام للصحفيين |
مستشار الأمين العام لجمعية الأطفال المعوقين |
|
|
|