Al Jazirah NewsPaper Thursday  01/02/2007 G Issue 12544
الرأي
الخميس 13 محرم 1428   العدد  12544
ولي في عيونهم عبرات..
محمد بن عبدالرحمن الحراش

يقول الله سبحانه وتعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ، أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}. سورة البقرة آية 155، 156، 157 .

وقال عمر رضي الله عنه: نعم العدلان، ونعم العلاوة: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ، أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}. وقوله تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ}.

وفي صحيح البخاري حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة، عن ثابت قال: سمعت أنساً رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصبر عند الصدمة الأولى).

الموت.. كلمة مرعبة.. بسيطة في اللفظ، عظيمة في المعنى تحاول أن تحرفها فلا تستطيع، تتناساها وهذا هو المستحيل، ما أن يذكر الموت إلا وترتعد منه الأبدان وتقشعر منه الأجساد، جعل القوي ضعيفا، والطاغية حقيراً، والملك عبداً، وهو الحقيقة التي لابد منها فهو لا يعرف ولا يجامل أحداً.. يباغت الإنسان دونما إنذار يحل ضيفا ثقيلاً، مخيفاً، في بعض الأوقات يحل ويسلب أغلى شيء وأنت تنظر لا تستطيع فعل شيء. يقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (34)سورة لقمان.

ولكن!! هل هي قصة حقيقية أم أنها نسج من خيال تفنن بها كاتب حاول أن يبدع برسم مآسي جديدة في عالمنا العربي؟! أصارع أفكاري وتمضي بي المأساة إلى عمق البحر المظلم، لحظات تعتريني.. يذوب منها القلب حزناً عجز لساني أن ينطق في وقت احتياجي له أغرورقت الأعين بالدموع، ورسمت الحزن بحرمانها، الدموع تائهة داخل العيون، والصوت قد تحشرج، مفرداتي تحيرني يحاول القلم الاستبسال معي، لقد ضاعت عباراتي ألملم القليل والقليل أحملها على عاتقي أمضي بها إلى كل نفس كانت في عبارة الموت 98، وتمضي السنين، تبحر الأيام وتحط في مواني الآمال، الأنفس تستنشق الأحلام عمراً مضى في الكد والبحث عن لقمة العيش غربة وطول انتظار وتلتقط الأنفاس لتسابق الزمن، حرب مع عقارب الساعة وكم هي طويلة هذه اللحظات، طويلة جدا حتى أرتمي في حضن الأهل والأحباب أمازحهم، أعود فأرى الابتسامة تعلو محياهم كانوا يحلمون بعد طول غربة وتعب ومشقة.. أن يبدؤوا بمشروع صغير يؤمن مستقبلهم.. أحلامهم وآمالهم وأمانيهم غرقت في مياه البحر الأحمر، غرقت مع عبارة الموت وغرقت معها قصص وأحلام، أماني وطموح غرقت لتصطدم بقاع البحر وتغرق كل شيء هكذا مآسي إخواننا في عبارة الموت 98.

في يوم الخميس 3-1-1427هـ بدأت قصة عبارة السلام 98 (عبارة الموت 98) وحان الوداع بين المسافرين والمودعين حملوا حقائب الأحلام، وحزموا امتعة الآمال وترامت داخلهم الأشواق وتسابقت الاتصالات على الأهل للاستقبال، والأهل تطير قلوبهم من شدة الفرح لذلك اللقاء الذي طال انتظاره، لكنهم لم يعلموا أنه الوداع الأخير لأكثرهم تحركت عبارة الموت 98 من ضباء إلى سفاجة.. محتضنة مئات من الناس غادرت بلا رجعة لتعلن عن بداية المأساة راحت تجوب أعماق النفوس البشرية، تمضي بهم في أعماق البحر الأحمر، تشق طريقها المظلم، وهي تئن من كبر سنها، لقد كانت الكارثة كالصاعقة على كثير من الناس كانت الصدمة قوية، فمنهم من كان يهم بالدخول في عش الحياة الزوجية ومنهم من ينتظر صرخة مولوده، ومنهم من يحلم بأن يجد الطريق في البحث عن لقمة العيش، وفي لحظات المساء المظلم، وعبارة الموت في الرمق الأخير تجوب البحار متكئة على عكاز الأمل في الوصول إلى مصر بأسرع وقت ممكن لأنها أحست بالإعياء فليس هناك اهتمام بها، ولا بسلامتها وسلامة ركابها، تركت لتغفو عيون الأمانة، وتغط في سبات طويل باتت تحلم بمن سيشيعها، مضت في ذكريات شبابها، تتذكر ذلك البحر الذي كان في أوله حمل الهم وفي آخره المأساة، تتنهد، تحاول الوصول إلى أقرب يابسة ترتاح فيها. لقد كان اهتمام المسؤولين عنها بوضع النقود في خزائن حديدية، متجاهلين أرواح الناس. بدأت العبارة تتأرجح من الحريق الذي أندلع لقد داهم الخوف أكثر من كان على عبارة الموت 98 حيث تصاعد الدخان وارتجفت القلوب بتزايده، ولم تعد تجدي كلمات المسؤولين في العبارة بأنهم سيطروا على الحريق، وينكشف من يحاولون خنق الحقيقة، إرادة الله وضعت في قلوب أحبتنا إحساساً بفاجعة ستحل بهم لقد داهمهم الخوف فجأة حين لاحظوا بوادر مصيبة مقبلة عليهم، يجهلون ما هي؟! ولكن هي كارثة متى وأين وكيف؟! لا يعلمون! فميلان العبارة يزداد والهلع يمتطي جواده اليهم بأقصى سرعة، وعقارب الساعة تمضي والنفوس ترتعد، والقلوب بلغت الحناجر والموت قد كشر عن أنيابه وظهر دخان عم أرجاء العبارة فهذا طاعن في السن مريض، وهذه امرأة قد احتضنت أطفالها على صدرها، والأطفال يبكون ورجال يجرون باتجاهات متعاكسة، علهم يدركون أهاليهم ويحمونهم بأنفسهم من أي مكروه، ولكن المصيبة أكبر من ذلك!

فهبوا إلى مساعدة الكل، وأعلن من قبل الركاب أن العبارة ستغرق لا محالة، وأن الموت يحاصرهم فاختلط كل شيء؛ الناس يجرون في كل اتجاه باحثين عن سبب من أسباب النجاة في الأطواق أو الستر أو القوارب، كانوا يتعثرون في بعضهم لقد دب الرعب في قلوبهم يحاولون تدارك الأوضاع صورة المأساة تعتصر الجميع، الكل في هلع وخوف والموت يجري بينهم، الفتاة كانت تنظر هي إلى الموت وهو يستل روح أخيها، تصرخ الفتاة وتقول (أخي مات أمامي) وآخر يموت أخوه بين يديه، يراه وقد تغير لونه قد فارق الحياة وهو يمسك بيد أخيه، مات أخوه وهو يحتضنه كوداع أخير، ومكلوم يسمع صوت أخواته ينادينه ويستنجدنه! ليكن نداء أخيرا في هذا الدنيا، حال الموت بينهما (جمعهم الله في الآخرة في جناة الفردوس الأعلى ومن معهم.. وجميع المسلمين.. آمين) دموع الأهالي حديث العيون والحزن عنوان آلامهم واحزانهم، احترقت العبارة وانطفأت الأنوار وحل الرعب والهلع فيهم ظلام حالك، وبحر هائج، وبرد قارص، وصراخ وعويل وكانت البداية لنهاية العبارة لقد بدأت في المضي تستأذن الركاب بدون حياء حيث رحلتها الأخيرة إلى قاع البحر كانت نهايتها تقريبا عند الساعة 2.30 صباحاً تاركة لهم ذكريات الحزن الأبدي والأحلام الضائعة، وغرقت لتلاقي زميلاتها القابعات في قاع البحر الأحمر، لتكون مسكنا جديداً للأحياء البحرية، وصرخة تنطلق من أحدهم يقول فيها - يا بحر انتظر إما أن تأخذني معهم أو اتركهم، اترك حياتهم وخذ حياتي، يا بحر ضيعتني! كثيرا من الناس قد كانوا وقودا للنار المشتعلة، وبعضهم يتدافعون نحو قوارب النجاة، فمن تلك القوارب ما صلح ومنها ما بقي لتجميل العبارة وهي في قاع البحر، والكثير سقطوا مع ستر النجاة في البحر وخرج القليل أما الكثير فخرج بعد أن طفا هو وسترته بجانبه بعدما فارق الحياة، وبعض من كانوا في قوارب النجاة، التي كانت تئن بكثرة الناس انقلب القارب بهم في البحر، وتقاذفت الأمواج بالناس، فتتأثرت الأبدان، وراحت الأيدي تتسابق لتمسك بحبل الأمل في الحياة والكثير التقطتهم ظلمة البحر وشدة سواده وأمواج الهلاك وشدة البرد وهلع الموت واللحظات الأخيرة، والخوف من الآتي، الموت قد حضر! فهم ما زالوا ينظرون إلى الموت في كل لحظة.

ويا كلمة الموت العظيمة، بدأ الموت يتخطف الكبير والصغير والذكر والأنثى، كلاً في موعده لا يتأخر عن أمر ربنا، فلا راد لقضاء الله عز وجل، فتجد الموت يمر من أمامهم ومن خلفهم وعن إيمانهم وشمائلهم يتخطاهم ويخطف من خلفهم ويسبقهم وينهي من أمامهم، ينتزع أرواحهم وأرواح أحبتهم بين أعينهم ومن بين أيديهم، لا يستأذن أحداً ولا يراعي أحداً كانوا يترقبون الموت متى يحل لهم، متى يكتم أنفاسهم، يتخطف من حوله الظلام حالك في كل مكان، والبحر هائج من كل اتجاه وصراخ الناس يعلو وهول المصيبة يحل ويغلو.

هي الدموع بل الدماء عنوان المأساة، تعبر عن الرعب الذي ملأ انفاسهم، يرى الموت ويسمع الصرخات تختفي شيئاً فشيئاً، رآهم وسط النيران، وعلى سطح البحر جث هامدة وأطواق النجاة خالية، لقد شاهد الكثير والكثير رجلا يواسي زوجته، وطفلا يرتمي في حضن أمه لعلها تفعل له شيئاً، ورجلا اغتال حياته بمضيه لمساعدة الغير يساعد هذا ويرمي بالأمل إلى هذا يحاول صنع شيء من لا شيء، الروح تغرغر وتنظر إلى ملك الموت قادم، لقد فاضت أرواح الأبرياء على ضفاف البحر الحزين، الذي بكت شواطئه، وتحطمت الآمال عليه استغاثات الهلاك تضرب بصداها مسامع الأمواج، تتلاطم معها آخر الأنفاس، كانوا ينظرون من حولهم إلى أناس يحاربون الموت وماتوا، يالهول المصيبة منظر الهلع عليهم والخوف لا يفارقهم، والبكاء حيلتهم، الكل منهم قطع الحزن أحشاءه، وضاعفت أحزانه أذاقه الصبر من الكأس حسراته.

هناك وعلى الجال الآخر، الناس ينتظرون وميض أمل لنجاة أحبتهم وماذا لو رأيتهم في تلك اللحظات الشوارع تموج الأهالي يتدافعون ويتسابقون إلى الناجين، هل هو معكم؟ هل رأيتموه؟ هل لبسوا ستر النجاة؟ هل وهل وهل؟! وتحولت مشاعر الحنين والاشتياق إلى ترقب أمل لحياتهم بعدما كانوا ينتظرون رجعتهم بفارغ الصبر يحاولون التعلق بأي شيء، وهناك تجد الدموع حفرت على وجوههم أخاديد للحزن تمضي لا تعرف عن أين تبدأ فتغفو آمالهم فجأة، وتغرس أحزانهم إلى الأبد، ليكتفوا بدموع الحزن الأكيد فهي تحكي الف كلمة وتترجم للبائس الف معنى لتكن المصيبة أن الضحايا مفقودين والأهالي محرومين.

رسالة قصيرة إلى كل من كان على عبارة الموت 98

إذا ضاقت بك الدنيا

ففكر في ألم نشرح

فعسرٌ بين يسرين

متى تذكرهما تفرح

توقيع:

نكره الحق لأننا نتذوق مرارة دوائه ولا نفكر في حلاوة شفائه، ونحب الباطل لأننا نستلذ بطعمه ولا نبالي بسمه.

M9SHAQRAA@HOTMAIL.COM


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد