دعت دراسة علمية إلى إقامة برامج متخصصة لمعلمي القرآن الكريم في الحلقات القرآنية، ومدارس تحفيظ القرآن الكريم، ومدارس التعليم العام، مؤكدة أهمية تقويم معلم القرآن الكريم في الحلقات القرآنية من قبل المشرفين على هذه الحلقات والمدارس في ضوء معايير تربوية وعلمية بصفة مستمرة.
جاء ذلك في دراسة للدكتور علي بن إبراهيم الزهراني الأستاذ بقسم التربية بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة بعنوان: (مهارات التدريس في الحلقات القرآنية).
وقد أكد الدكتور الزهراني في مستهل الدراسة أن التعليم التربوي في المدارس والحلقات القرآنية من أشرف الأعمال وأجلها وأفضلها؛ لتعلقه بكتاب الله تعالى، فهذه وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو أول من قام بمهمة تعليم القرآن، قال تعالى {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}، ولا ريب أن القيام بهذه المهمة الشريفة إحياء لأسوة الرسول صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}، وتنفيذاً لوصيته صلى الله عليه وسلم بهذا القرآن.
الإقبال على الحلقات
ولفتت الدراسة إلى أن الإقبال على حفظ كتاب الله وتعلمه زاد في عصرنا هذا، وأصبحت هذه الظاهرة الحسنة أمراً ملموساً ومشاهداً في كل بقاع الدنيا في ضوء هذه الصحوة المعاصرة، واليقظة المباركة؛ إذ أقبلت الأمة على كتاب الله تعالى صغارها، وكبارها، ذكورها، وإناثها، أقبلت على القرآن تعليماً، وحفظاً، وتدبراً، ونشراً، واستشفاء به، وما عنيت بشيء عنايتها بهذا الكتاب المبارك.
وقال: ومن عجائب العناية الربانية بهذا القرآن العظيم، أنه ما تكاد تجد ناحية من أرجاء المعمورة، تغفل اليوم عن كتاب الله، ونحن نشاهد اليوم نهضة قرآنية عامة، ففي بلاد الحرمين الشريفين نهضة شاملة للعناية بتعليم القرآن الكريم، تتمثل في مدارس تحفيظ القرآن الكريم للبنين والبنات التابعة لوزارة التربية والتعليم، وعلى مستوى التعليم الجامعي بإنشاء كليات خاصة بالقرآن الكريم وعلومه، وأقسام الدراسات الإسلامية والقراءات في جامعات المملكة، وجمعيات تحفيظ القرآن الكريم الخيرية التي تشرف عليها وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد.
ورصد فضيلته العناية الشاملة بالقرآن الكريم على مستوى العالم الإسلامي، فلا يكاد يخلو بلد يعيش فيه مسلمون إلا اهتموا بالقرآن، وحرصوا على تعلمه وتعليمه، وتربية أبنائهم على آدابه، مشيراً إلى أنه في بعض زياراته لعدد من البلاد الإسلامية، وغير الإسلامية، وجد الاهتمام الكبير بتعلم القرآن، وهذا يعكس اهتمام الأمة بكتاب ربها، ورغبتها الجادة في تربية الأجيال على آدابه وتعاليمه؛ الأمر الذي يبشر بمستقبل مشرق لهذه الأمة الإسلامية؛ إذ يحصل لمن يتعلم القرآن ويعمل به.
وأعرب الدكتور علي الزهراني عن تفاؤله بأن انتشار الحلقات والمدارس المتخصصة في تعليم القرآن الكريم، وعلومه، يعد بداية انتصار الأمة وعودة قيادة البشرية إليها كما كانت، وقال: لذلك ينبغي أن ننوع في وسائلنا التربوية، وأساليبنا التعليمية في تعليم كتاب الله تعالى من خلال المراجعة المستمرة؛ لتقويم المسيرة التربوية لهذه المدارس والحلقات القرآنية التي يتم فيها تربية الأجيال على هدي الكتاب العزيز.
ضرورة شرعية
وتوصل الباحث علي الزهراني في نهاية الدراسة إلى عدد من النتائج، من أبرزها أن إقامة الحلقات القرآنية في المجتمع ضرورة شرعية؛ فهي امتداد لتاريخ الأمة الإسلامية، وإحياء لأسوة الرسول صلى الله عليه وسلم، واستمرار لتلك السلسلة السماعية القرآنية التي تبدأ برب العالمين جل جلاله وعظم سلطانه في منهج التلقي القرآني، مؤكداً حاجة المعلمين في الحلقات القرآنية إلى اتباع الأسلوب النبوي في التلاوة والتأديب والتعليم، وبدون هذا الأسلوب لن تحقق الحلقات القرآنية أهدافها؛ لأن هذا المنهج الشمولي أصبح غائباً في مجال التعليم القرآني.
ولفت إلى عناية أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة بالقرآن حيث تنافسوا في تعلمه وتعليمه، ونشره للعالمين، فنقلوا هداية الله تعالى إلى خلقه في مشارق الأرض ومغاربها على امتداد الزمان والمكان، ففتحوا بالقرآن قلوب العباد والبلاد، وهذا يقدم للأجيال المعاصرة أنموذجاً فريداً في التأسي والاقتداء.
وشددت الدراسة على حاجة المجتمع الإسلامي إلى معلم القرآن الفعال المعد إعداداً شرعياً وتربوياً، مؤكدة أن المعلم الكفء في الحلقات القرآنية هو الذي يتصف بالصفات الأخلاقية، والمعرفية والمهنية؛ لأنه بدونها لن يصل إلى الغرض الذي أقيمت من أجله هذه الحلقات القرآنية، وسيظل تعليمه ناقصاً.
ودعت إلى مراعاة المهارات التدريسية والتربوية في الحلقات القرآنية سواء القديمة أو المعاصرة ومحاولة المزج بينهما في التعليم القرآني باعتبار أن لكل عصر وسائله وأساليبه؛ ما يقوي الدافع عند التلاميذ للتعلم والحفظ والمراجعة والتطبيق العلمي، والتحلي بالأخلاق الحسنة، وتعليم القرآن وآدابه.. لافتاً إلى أن معرفة المعلم بأحكام التلاوة لا تكفي للقيام بمهمة التعليم في الحلقات القرآنية؛ بل لا بد أن يضاف إلى ذلك علم التربية ليتمكن المعلم من دراسة طبيعة التلاميذ، عند تعليمه وتأديبه، فالتربية كالرياضة للمهر الصعب الذي يحتاج إلى سياسة ولطف وتأنيس حتى يرتاض ويقبل التعليم.
وتوصل الباحث من خلال الدراسة إلى أن للأنشطة التربوية المتنوعة والمناسبة لمجتمع الحلقات القرآنية مردوداً إيجابياً على نفوس التلاميذ، يتمثل في إقبالهم على الحلقات والاهتمام بالحفظ والمراجعة والانضباط داخل الحلقة وخارجها؛ لأن الأنشطة التربوية تعالج قضية الرتابة والملل الذي قد يتسرب إلى نفوس التلاميذ، وتدخل السرور على نفوسهم، وتحقق التوازن بين متطلبات الحلقة القرآنية ومطالب النفس وحقوقها.. كما أرشد إلى ذلك خير البشر صلى الله عليه وسلم بقوله لعبدالله بن عمرو رضي الله عنهما: (قم ونم وصم وأفطر، فإن لجسدك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقاً، وإن لزورك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً فأعط كل ذي حق حقه).
علم وفن
وأكدت الدراسة أن إدارة الحلقة القرآنية علم وفن ينبغي لمعلم القرآن أن يتعلمه ويتقنه جيداً؛ فإن نجاحه في تحقيق أهداف الحلقات القرآنية وتطلعات القائمين على هذه الحلقات والمشرفين عليها مرتبط بمعرفة المعلم بخطوات الإدارة التربوية لحلقته القرآنية، وأن إقامة الحلقات القرآنية في المجتمع والعناية بها من النصيحة لكتاب الله تعالى.
وأوصت الدراسة بإبراز المنهج النبوي في التعليم القرآني والدعوة إلى ضرورة إحياء المنهج السلفي في التعليم الذي رسمه عبدالله بن مسعود رضي الله عنه بقوله: (كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن)، داعياً إلى إقامة برامج تربوية متخصصة للدارسين في كليات القرآن الكريم يحصل المتعلم بعدها على شهادة تربوية تضاف إلى إجازته العلمية ويكون الحصول عليها من شروط التعليم في الحلقات القرآنية أو في مدارس تعليم القرآن الكريم أو مدارس التعليم العام.
كما دعت إلى إقامة دورات تربوية للقائمين على تعليم القرآن في الحلقات القرآنية حالياً وهو على رأس العمل بهدف الارتقاء بمستواهم المعرفي والتعليمي وإكسابهم بعض مهارات التدريس وقواعده التربوية، وإطلاعهم على الجديد في طرق التدريس، والوسائل التعليمية، والجوانب التربوية، وإنشاء كليات متخصصة لتدريس القرآن الكريم، في البلاد الإسلامية يشتمل برنامجها التربوي والتعليمي على كل ما يتعلق بكتاب الله تعالى، والإفادة من النماذج القائمة لهذه الكليات، ومنها كلية القرآن الكريم بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، والإفادة كذلك من المنجزات التقنية الحديثة في التعليم القرآني كمعامل الصوتيات، ومختبرات تعليم اللغات، وأجهزة الحاسوب.
معايير تربوية وعلمية
كما أوصت الدراسة بأن يتم تقويم معلم القرآن في الحلقات القرآنية من قبل المشرفين على هذه الحلقات في ضوء معايير تربوية وعلمية بصفة مستمرة، وتراعى تلك المهارات التدريسية والتربوية المتفق عليها تربوياً ومهنياً في حقل التربية والتعليم، وأن تقام دورات تدريبية للقائمين بالإشراف التربوي على الحلقات القرآنية حتى يستطيع المشرف التربوي توجيه المعلم في الحلقة القرآنية وإرشاده إلى الأفضل والعمل والقدرة على تقويمه وعلاج المشكلات التربوية والإدارية بالحلقة القرآنية إذا وجدت.
وشددت على أهمية توفير احتياجات الحلقات القرآنية وتهيئتها لتصبح بيئة تربوية متكاملة يجد التلاميذ فيها حاجاتهم المعرفية والتربوية والاجتماعية والنفسية، وإغناء معلم القرآن مالياً بما يسد حاجته حتى يتفرغ للعمل التعليمي والتربوي في الحلقة القرآنية، فإن الأجرة التي تقدم له إذا لم تف بمتطلبات حياته فسوف يبحث عن عمل آخر إلى جانب عمله؛ ما يجعله ينشغل به ربما أكثر من عمله في الحلقات القرآنية، وزيادة مدارس تحفيظ القرآن الكريم في المدن والقرى حيث ثبت علمياً تفوق الطلاب المتخرجين منها عن أقرانهم في المدارس الأخرى، مهيباً بأفراد المجتمع الإسهام بفعالية في رعاية الحلقات القرآنية وتشجيع افتتاحها ودعمها مادياً ومعنوياً.
دراسة الدكتور علي الزهراني احتوت على مقدمة، وتمهيد، وخمسة فصول، الفصل الأول عن: (الحلقات القرآنية تاريخها أهميتها - فضلها)، والفصل الثاني عن: (صفات معلم القرآن في الحلقات القرآنية)، والفصل الثالث عن: (مهارات التدريس في الحلقات القرآنية)، وفي الفصل الرابع: (المهارات التربوية في الحلقات القرآنية)، فيما تحدث في الفصل الخامس عن: (مهارات إدارة الحلقات القرآنية).