مفردة النقد كقيمة مبجلة ذات منحى تصويبي تتجاوز المعطيات المتجلية إلى سبر الأغوار وإضاءة الحيثيات المبهمة من أفعل الآليات البنائية التي تمليها اشتراطات النهوض كضرورة ملحة تفرضها سياقات الارتقاء بالوعي إلى مستوى شروط الفعالية الحضارية التي تتيح للأمة القدرة على تفادي المعوقات ومواجهة تحديات التدافع الأممي.
ومضامين نصوص الوحيين بحسبها مصدر القيم المعيارية العليا الضابطة لحركة الحياة والحاكمة عليها قد احتفت بهذا السلوك التصحيحي كمكون محوري من مكونات التقدم وحضّت على تجسيده كحقيقة مشخصة لها تشكلها الواقعي المؤثر في حركة التاريخ والفاعل المباشر في صيروراته الثرية.
تصاعد الحراك النقدي وديمومة حيويته ومباشرته بدرجة عالية من الفاعلية والجهد الذهني المركز وفي سياق تناغمي تغذيه التنافسية الداخلية المشدودة إلى الخيرية على نحو يفتح فرصة الإطلالة على أكثر من وجهة نظر في فهم الحقيقة هو الشأن الكفيل بتضئيل الهوة بين الواقع المتعين ومثاله المتعالي وهو الضامن لمبارحة الوضعية الغثائية ذات المنحى الكمي المفتقرة لكفاءة الكيف ومضمونه الثرائي.
الفاعلية الثقافية التي ينوء الفاعل النقدي كمتأمل نوعي بحملها هي التي تفرض مباشرة النقد التشخيصي المتماس مع متواري الكوابح الإعاقية, وتعرية المفردات المعمقة لبواعث القابلية للاستضعاف, والآيلة إلى انحسار أفق الطموح إلى أدنى مستوياته بفعل تقاطعها الضدي مع شروط المواكبة المنافسة في خضم التداول الكوني.
إزاحة الستار عن وجه الحقيقة والاهتداء إلى الأسرار الفعلية المفرزة لمفردات التقويض المنزوية خلف إطار المشهد المتجلي, والوقوف على امتداداتها, والقوى الداعمة لنهوضها, وتحسس مكامن الدمامة التي تعلو إفرازاتها الوجه الاجتماعي هي موضوع الوعي النقدي التي يباشر الفاعل الفكري إضاءة مفاصلها عبر الرؤى النقدية كمرآة عاكسة لخبايا الكينونة التي من خلال تسليط أشعة التصحيح يجري رسم الأفق الحيوي وتصحيح مسارها الحركي الذي يفضي بها إلى مراكز التصدر والقوامة الريادية.
إن سريان مفهوم العلاقة ذات الطابع الجدلي بين الممارسة النقدية والأفق التنموي في الوعي العام, وهيمنته على مناحي العقل الكلي, والعناية بتوطيد الروح النقدية وتعميق محوريتها بوصفها حالة راقية تتزامن مع نضج الوعي وتتجاوز به العقدة الأبوية هو ما يؤسس وعلى نحو جلي لفضاءات عقلية تتوافر على سوية عالية من رحابة امتداد مساحات الرؤية التي تحد من سلسلة الإشكاليات التي يفرزها عالم العولمة المهيمنة عبر قفزها بالمجتمع من شرنقة التخلف والدفع به تجاه الحراك الارتقائي.
يستحيل المجتمع النوعي إلى تجمع تراكمي أبله ويتزحزح إلى هوامش التبعية عندما يصاب بنضوب الفاعلية النقدية التي تؤول به وعلى نحو متسارع الخطى إلى المزيد من الانحسار والاضمحلال.
الملاحظ في المخيال العام أن الحس النقدي لا يحضر كعنصر بنائي متألق وكآلية ذات فعالية قصوى في تحديد مسارات التفوق وإنما بحسبه أحد أبرز الأدوات المضارعة لمفردات التقويض والإلغاء.
الوجود الاطرادي لهذا المفهوم هو ما يؤدي حتماً إلى إغلاق أفق أي تغيير فعلي ومن ثم يتعذر التحول الشمولي العميق ويتوانى مسير عجلة التقدم.
النقص والمحدودية والخطأ جانب فطري وجزء لا يتجزأ من ماهية الإنسان- المجتمع ولذا فهو بحاجة ماسة إلى النقد الذي يتيح له إمكانيات جديدة وينمي لديه دوافع للتقدم الأرحب نطاقاً, والحصيف اليقظ هو ذا البنية العقلية المتفتحة التي لا تأنف من التحوير والإضافة بل تستفيد من المراجعة وترنو إلى النقد من أفق الأبعاد الثرية التي تعمل على تصاعد الأفق الذهني باستمرار، للنقد وظيفة ذات ملامح إيقاظية ولكي يؤدي دوره التنويري ويؤتي أكله لابد من مراعاة الاعتبارات التالية:
أولاً: لابد من امتلاك الناقد للأدوات المعرفية, وتوسله للضوابط المنهجية التي تؤهله لترشيد القوالب النقدية، الإفتقار لهذا الشرط هو ما يحيل النقد إلى لون من العبث اللغوي ومجرد الاستهلاك الكلامي.
إن من الملاحظ أن ثمة بعد شهوي يتنامى في اللاشعور يولد لدى المسكون به اندفاعاً هيامياً نحو ممارسة النقد والاشتغال على تفعيل الطاقات الذهنية طمعاً في التسلل إلى الثغرات والنفاذ إلى مكامن الخلل استجابة لرغبة جامحة في إدانة فاعلها وربما يجري ذلك لأن النقد فيما يبدو يمنح صاحبه ضرباً من الامتلاء الشكلي ولوناً من الشعور الوهمي بالتفوق على ما عداه.
وهذا هو ما يدفع الكثيرين إلى المبادرة بتوجيه سهام النقد مع إفتقارهم للقدرات النقدية العليا, وعدم توافرهم على الشرط المنهجي، ولذا يظهر النقد هامشياً سوقياً في غاية التسطح والابتذال.
إن ممارسة النقد مع عدم امتلاك ما يؤهل له ليس -في أسمى حالاته- سوى تعبير عن شعور حاد بالنقص يستوطن ذاتاً مأزومة توحي لصاحبها وبآلية مخاتلة بأن تجلية المآخذ وكشف هنات الغير من خلال التتبع الاستقصائي هو السبيل المضمون إلى تحقيق الفرادة والتميز وهو الآلية المثلى لإبراز مدى الاتصاف بحس الملاحظة والتظاهر بمظهر الألمعي اللماح!, وهذا ما يفسر لنا الاندفاع البليد في سياق انتقاد بعض القيادات الدينية والشغب على شخوصهم إلى حد الإستعداء ووضع أعمالهم تحت المجهر ومقارنتها على نحو لا يتكئ على مستندات واقعية بقدر ما هو نتيجة حتمية للتلبس بداء الحسد المرضي بوصفه هو المحرك الخفي لهذا الوعي المغرم بإلتقاط المفردات السلبية كسبيل ذا أثر مضمون في نفي المباين ومصادرة حقوقه, ولذا يأتي النقد ليس أكثر من مشاحنة وصدى لمشاعر الحسد التي تعمي لفرط احتقانها عن تلمس مواطن الحق ورؤية وجوه الجمال.
هذه الوضعية المتوترة تتجذر بفعل معادلة قابعة في أغوار هذا الوعي -الفاقد لسكينته- مؤداها أن إثبات الأنا وتجلية فضائلها مرهون إلى حد كبير بالإطاحة بغيرها.
هذا الوعي الفاقد لوعيه لا يعي أن نجاحات الآخرين تفرض ذاتها ومن المتعذر إلغاؤها بكلمة عابرة أو بجرة قلم!
الثاني: إدراك منطق النسبية في القدرات الفكرية من يقظة المرء وسموه العقلي ولذا فهو يعتقد أن التصور المتموقع في وعيه على كبير قدر من الصوابية وسيظل يعمل على ضوئه وانطلاقاً مما تمليه موجباته حتى يتبلور لديه عبر معطيات معرفية أن ثمة موقفاً ذهنياً ما يتمتع بدرجة أعلى من المنطق الموضوعي.
إن لدى الإنسان نزوعاً جبلياً إلى حب الثناء وتسيطر عليه رغبة في سماع معاني الإطراء، وفي المقابل ثمة نفور فطري من النقد ولكن عندما يتعمق في وعي العاقل فكرة المحدودية في طاقاته وقصوره البشري فإن المخرجات الحتمية لهذا الوعي هو التعاطي الفاعل مع الصور النقدية البناءة التي توجه إليه ويتعامل بانفتاح مع المعاني والشفافية والمكاشفة بحسبها ضرورة من ضرورات تدشين بناء الذات ومصدراً غنياً لتوجيه المعرفة وإعادة صياغة الأولويات, والخليفة الراشد (عمر بن الخطاب) رضي الله عنه يقول: (رحم الله امرأ أهدى إليَّ عيوبي).
البعض قد يعترف بالمحدودية والنقص من الناحية النظرية لكن السلوك الفعلي على أرض الواقع لا يترجم ذلك الاعتراف بقدر ما يعكس قدراً عالياً من نرجسية الذات والاشتغال على مباركة سلوكياتها.
هذا الضرب يسعى لاهثاً لكي يبدو ذا شفافية رحبة وذا وعي نقدي مرن ولكنه يزْوَر منتهى الإزورار عندما تجري مكاشفته بشفافية فسيحة, وينأى بجانبه وخصوصاً عندما يشعر أنه قد ينجم عن ذلك قرارات عملية تهدد الموقع أو تشكل خطراً على الامتيازات.
الإزدواجية موغلة بعمق في هذا المساق فثمة إنتشاء يجتاحهم بشكل مفرط عندما يتناولون المباين بالنقد وتسليط الأضواء على مثالبه في الحين الذي يخالجهم شعور بالاكتفاء الموهوم ولَّد لديهم احتفاءً متكاملاً بكل ما يعزز متبنياتهم وفي المقابل يضيقون ذرعاً بمن يستهدفهم بأنوار الملكات النقدية لكشف ما يتدثرون به من غطاء ثقافي ويعتقدون أن هذا لا يعبر عن مثاقفة مثمرة وتفاكر فعال بقدر ما هو لون من الإقصاء والزحزحة الحدية عن الساحة الإجتماعية داء التكبر المقيت كأمارة سيمائية تشي بمدى تضخم الطغيان الأنوي هو الذي يمنح الرازح تحت وطأته حصانة تحفزه على التفاني في إظهار التأبي وعدم الاكتراث بالمنطق النقدي مع إضمار روح التحرج والتبرم والامتعاض.
ثالثاً: النقد رؤية اجتهادية مفتوحة على تلون الاحتمالات.
عندما يجري على هذا المنوال تعاطيه فلابد من توسل لغة نقدية هادئة ونائية عن الجزمية الحدية والقالب الوصائي المنطلق من لغة أبوية متعالية ومنبعثة من البعد الإطلاقي النهائي المغلق.
وصفوة القول أن خفوت الأنوار النقدية شأن يفضي إلى تشويه المركب العقلي للمجتمع الطامح بينما يشكل شيوعها كجزء من السلوك العام وكأداة تشييدية منصهرة في بوتقة المصلحة الكلية سبيلاً موضوعياً يسهم وبنجاح بالغ في تحديد مسارات الاشتغال الذهني وبلورة رؤاه.
abdallah-mhd@hotmail.com