Al Jazirah NewsPaper Monday  26/03/2007 G Issue 12597
تحقيقات
الأثنين 07 ربيع الأول 1428   العدد  12597

من داخل السجن بدأت رحلة الإصلاح
نزلاء تحولت حياتهم من الضياع إلى الطريق السوي

* جدة - أحمد حكمي:

بقدر الاندفاع الذي يعيشه الإنسان في غضبه يكون الرجوع ممزوجا بتناهيد بكاء الندم فتعيش النفس لحظاتها مستنيرة بكل إضاءات الصواب، فربما يكون ارتكاب المرء للخطأ مرة واحدة وربما مرات عديدة سببا في دخول غياهب السجن فيقضي فيه بضعة أشهر أو بضع سنين، فهل تكون هذه هي نهايته، ويستكين لما آل إليه حاله، ويرضى بمرارة السجن داخله، وبالضياع والتشرد بعد خروجه، فيعود لينخرط في سلك المجرمين، ويسير في نهج المنحرفين الضالين؟ كثيرون يمكن أن يحدث منهم هذا، ولكن آخرين اعتبروا السجن رحماً تعلّقوا بحباله السرية، فتابوا وأنابوا وعادوا إلى الله بقلوبهم، وأقبلوا على كتاب الله يحفظونه ليكون لهم نوراً وبرهاناً، وكأن لسان حالهم يردد بيت العقاد حينما خرج من السجن بعد أن قضى فيه تسعة أشهر:

وكنت جنين السجن تسعة أشهر

فها أنا في ساحة الخلد أولد

فهل هناك أحسن من رحم يتعلّم فيه الإنسان بكتاب الله؟..

في حلقات التحفيظ في السجن العام والإصلاحية قصص وحكايات، وجهود رجال مخلصين حملوا همّ إصلاح هؤلاء النزلاء ليخرجوا رجالا صالحين يخدمون مجتمعهم ودينهم. وفي هذا التحقيق حاولت الجزيرة ان تلقي الضوء على حلقات التحفيظ في السجن العام والإصلاحية.

بداية التقينا السجين (م . أ) سعودي 50 سنة، لم يمنعه كبر سنه ومرض السكر الذي أصاب أطرافه برعشة ظاهرة من حفظ كتاب الله، حيث استطاع أن يحفظ عشرة أجزاء في عام، كما حفظ الأربعين حديثاً النووية، ويؤكد أنه يشعر بالاطمئنان والسكينة مع كتاب الله (ألا بذكر الله تطمئن القلوب)، ويرى أن وجوده في السجن هيأ له الفرصة لحفظ كتاب الله، وعلى قدر ندمه على دخوله السجن على قدر سعادته؛ لأن هذه الأيام لم تذهب هباء، وإنما قضاها مع كتاب الله؛ ما سيجعله يخرج من السجن رافعاً رأسه غير خجول؛ لأنه من حفظة كتاب، ويشكر الجمعية التي توفر لهم المعلمين، وتقدم لهم الدعم المادي والمعنوي.

أحد النزلاء (ح . ت) باكستاني، التحق بحلقات التحفيظ ليستفيد من مكرمة خادم الحرمين الشريفين، ولكنه بعد أن بدأ في الحفظ تغلغل في أعماقه نور القرآن، وتوهجت مشاعره بفيض الإيمان، فأناب إلى ربه وتاب توبة صادقة، وأحس بألم الندم يعتصر قلبه.

دخل السجن بسبب تحويل عملة، فتحولت حياته من الضياع إلى الإصلاح والتقوى، واستطاع في سنة ونصف السنة أن يحفظ القرآن كاملاً، ويتعلم الكثير من أمور دينه التي كان على جهل تام بها، وحفظ كثيراً من الأحاديث النبوية وهو يداوم على أذكار الصباح والمساء.

أثر الأمر السامي على النزلاء

بدأنا مع الأستاذ عبدالمعطي الظاهر أقدم معلمي حلقات التحفيظ بقطاع السجون، الذي عاد بذاكرته للوراء كثيراً منذ أكثر من 24 عاماً، وبالتحديد في رمضان 1403هـ، ليحكي لنا بدايات حلقات التحفيظ في السجون، يقول الظاهر: كانت البداية في ذلك الوقت بعشرين طالباً يدرسون في حلقة واحدة في سجن الرويس، ثم وصلت خلال خمس سنوات إلى أربع حلقات قبل أن تشرف الجمعية على الحلقات، ثم بدأ الإشراف من قبل الجمعية منذ العام 1408هـ بعد صدور الأمر السامي الكريم والمتضمن إعفاء السجين الذي يتمكن من حفظ كتاب الله الكريم أثناء فترة السجن من نصف محكوميته.. بدأت الجمعيات الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم ومن بينها جمعية جدة في التسابق في إقامة الحلقات القرآنية في السجون. وكان لهذا الأمر السامي أكبر الأثر في التحاق النزلاء بحلقات التحفيظ.

مفهوم السجن

تحدث اللواء أحمد بن صالح الزهراني مدير عام سجون محافظة جدة، وقال: إن الهدف من السجن ليس حبس حرية الإنسان، وإنما الهدف هو إصلاحه، وإعادته إلى أسرته ومجتمعه رجلاً صالحاً، وهذا هو نهج المملكة وولاة أمرها - حفظهم الله - على تربية أبنائهم تربية حميدة سواء من جنحت بهم السبل ودخلوا السجن، أو من هم خارجه، وإعادتهم إلى مجتمعهم لبنة صالحة يخدمون وطنهم وأسرهم بعيداً عن الانحراف، وقد عملت المملكة بقيادة خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين على إنشاء حلقات تحفيظ للقرآن الكريم ومعاهد تدريب وأعانت من يريد الالتحاق بالجامعة عن طريق الانتساب بأن يؤدي الاختبارات في الأوقات المحددة، كما حرصت على تزويد مكتبات السجن بالكتب المتنوعة القيمة النافعة، لتثقيف النزيل وتنمية مهاراته، وحرصت على ممارسة النزيل لهواياته، وعملت على إنشاء مصانع مصغرة داخل السجن ليستفيد منها النزيل لكسب العيش الحلال، ويتعلم صنعة تنفعه بعد خروجه، فالسجن الحديث إصلاح وتأهيل وتأديب، ليس حبساً ومنعاً وتعذيباً.

علاقة وطيدة

وأضاف اللواء الزهراني مدير سجون جدة أن العلاقة بين جمعية تحفيظ القرآن الكريم بجدة والسجن علاقة قديمة بدأت منذ إنشاء الجمعية، وهي أول من بدأ بعمل حلقات للتحفيظ في السجون حتى صدور المكرمة الملكية، والتعاون مستمر بين الجمعية وإدارة السجون، فكلتاهما تصب في مصب واحد، حيث هناك عقبات تقابلهما معاً على إصلاح السجين وتوجيهه التوجه السليم، وإذا كانت هناك عقبات فإننا نقوم بالتعاون مع جمعية جدة بتذليلها، فالجمعية مشكورة توفر المعلمين، وتقدم لهم الدعم المادي والمعنوي، وتقيم الحفلات للنزلاء في أوقات مختلفة، وتقدم الأنشطة الهادفة التي يشارك فيها الحفظة.

جهود الجمعية

منذ إنشاء قطاع المرافق العامة الذي يشرف على حلقات السجون، والجمعية تقوم بدور فعّال في تطوير حلقات السجون، لتسهم في تصحيح مسار هؤلاء النفر الذين ضلوا الطريق، وفي جولتنا داخل السجن قص علينا الشيخ أحمد بن حمدان الشمراني مدير قطاع المرافق العامة بالجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم بجدة، الجهود التي بذلت لتطوير حلقات التحفيظ بالسجن، كما قامت الجمعية قبل سبع سنوات بإنشاء مكتب للإشراف داخل السجن ليكون همزة الوصل بين الجمعية وإدارة السجن، وكان من ثماره زيادة عدد الحلقات وعدد الطلاب في السجن العام والإصلاحية، وإعداد برامج لجذب الطلاب.

دروس في العقيدة والفقه

وتحدث الشيخ أحمد يعقوب المشرف بحلقات التحفيظ بالسجن العام و الإصلاحية: ابتداءً يتم تصنيف الطلاب فيتم اختبار الطالب في القراءة، فإن كان يجيدها أُلحق بإحدى حلقات التحفيظ، وإن كان لا يجيدها يلتحق بحلقة الأميين، حيث تقام له دورة لمدة أربعة أشهر يتعلم فيها القراءة والكتابة، وخلال هذه الفترة يكون قد حفظ جزء عمَّ. ومن ثم ينتقل إلى حلقات التحفيظ وفيها يحفظ من الناس إلى الكهف.. ومن الكهف إلى البقرة، وينتقل الطالب من حلقة إلى أخرى حتى يحفظ القرآن، وفي خلال ثلاثة أو أربعة أشهر يختم القرآن.

ويضيف: برنامج الدراسة في الحلقات لا يقتصر على حفظ القرآن الكريم، بل هناك برامج ونشاطات مصاحبة علمية، وتربوية، وثقافية، ورياضية، حيث يتم تدريس المواد العلمية المناسبة للنزلاء التي تمكنهم من التعرف على أمور دينهم وأداء عباداتهم، وتزكية نفوسهم، ففي العقيدة يدرس لهم (الأصول الثلاثة) للشيخ محمد بن عبدالوهاب، وفي الأخلاق يدرس (منهاج المسلم)، وهناك دروس في العبادات، والأذكار، إضافة إلى المحاضرات العامة، وهناك برنامج اليوم المفتوح كل أربعاء يتضمن المسابقات الثقافية والرياضية. والمراكز الصيفية السنوية، التي تقام فيها البرامج المختلفة.. وتهدف هذه الأنشطة والبرامج إلى تنمية مهارات النزلاء، تشجيعهم وتحفيزهم، وبث روح التنافس الشريف والاحترام المتبادل..

حظ وافر!

كما أضاف الشيخ أحمد يعقوب: عدد الذين أسلموا العام الماضي (42) نزيلاً في عام 1427هـ، ولله الحمد، وكرمناهم في المركز الصيفي، مع العلم بأن الطلاب يجذبون بعضهم البعض إلى الحلقات، بحيث تعتبر المدرسة ملتقى للمسلم وغير المسلم، ويتم إخبار شعبة الإرشاد والتوجيه بأعداد غير المسلمين، فيقومون مشكورين بجلب دعاة يتحدثون بحسب لغة غير المسلم ويدعونهم ويعرفونهم بالإسلام.. وكذلك جمعية القرآن تقدم لهم الهدايا التشجيعية، على الثبات في طريق الهداية وتستقبلهم استقبالا طيبا، وهناك فصل خاص بهم بالتنسيق مع مكتب الإرشاد.. فالجمعية لها حظ وافر في دعوتهم للدخول للإسلام. كذلك شعبة الإرشاد والتوجيه بالسجن التي يقوم عليها الرائد عائض عباس تقوم بجهد كبير ومشكور بالاهتمام بالمدرسة، ودعوة غير المسلمين للإسلام. والمحاضرات العامة التي تلقى على السجناء عموماً مسلمين وغير مسلمين .

الحلقات في تطور مستمر

الرائد عائض عباس مدير شعبة الإرشاد والتوجيه بالسجن العام والإصلاحية يؤكد أنه منذ بداية الحلقات في السجون منذ أكثر من 20 عاماً وكل عام يمر تتطور الحلقات ويزداد تأثيرها الإيجابي على السجناء كمّا وكيفاً، فيزداد عدد الحفّاظ ويزداد عدد الحلقات والملتحقين بها. ويرى أن السبب المباشر في ذلك يعود لمكرمة خادم الحرمين الشريفين التي كان لها أكبر الأثر في إقبال عدد كبير من السجناء على حفظ كتاب الله، كثير منهم يحاول الاستفادة من المكرمة فيكرمه الله ويصلح حاله ويهديه ببركة كتاب الله، ونلمس ذلك من تحسن سلوك النزلاء الملتحقين بالحلقات .

ويؤكد الرائد أن إدارة السجون لا تألو جهداً في حث النزلاء على الالتحاق بالحلقات، واستخدمنا في ذلك عدة طرق منها استدعاء بعض المشايخ لمحاضرتهم عن فضل القرآن وأهمية حفظه بالإضافة إلى تقديم بعض التسهيلات والحوافز للملتحقين بالحلقات مثل تسهيل الاتصال بأهليهم.

المرافق العامة من أولويات الجمعية

وتحدث رئيس الجمعية المهندس عبدالعزيز بن عبدالله حنفي فقال: إن قطاع المرافق العامة قد أولت الجمعية اهتمامها به فهو أحد القطاعات التي نحرص من خلاله على تقديم الخدمات الجليلة لأبنائها وبناتها الموجودين في بعض المرافق العامة المختلفة.

فعلى سبيل المثال لا الحصر أنشأت الجمعية حلقات لتحفيظ القرآن الكريم في دار الملاحظة ومستشفى الأمل وإدارة مكافحة التسول باعتبارها تضم الكثير من الشباب الذين هم بأمسّ الحاجة لمن يرشدهم ويوجههم الوجهة الصحيحة .

كما تقوم جمعية تحفيظ القرآن بجدة بالتعاون المستمر مع سجون جدة في تعليم وتحفيظ القرآن الكريم للنزلاء، وذلك من منطلق أن الهدف من السجن الإصلاح وليس العقاب فقط .

وأصبح عدد الحلقات الآن أكثر من عشرين حلقة يقوم بالتعليم فيها معلمون سعوديون تصل مكافأة المعلم منهم إلى ثلاثة آلاف ريال في الشهر، ولقد كان أثر هذه الحلقات في نفوس النزلاء بالغاً؛ وذلك لأن للقرآن تأثيرا عجيبا على النفوس، وسلطانا قويا على القلوب، بل إن القرآن تستبشر به النفوس، وتشرح له الصدور، وتقشعر به الجلود، وتستقيم وتصلح به الأحوال.. قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا}.

وقد تخرج من هذه الحلقات حفظة لكتاب الله، فكان السجن في حقهم منحة ولم يكن ابتلاءً ومحنة، بل تفضل الله تبارك وتعالى على بعضهم فأصبحوا أئمة ومؤذنين ومعلمين في حلقات الجمعية، نسأل الله - عز وجل - أن يوفق ولاة أمر هذه البلاد المباركة لما فيه خير الإسلام والمسلمين، وأن يجعل ما يقدمون في موازين حسناتهم.. إنه جواد كريم.

إضافة إلى أن الجمعية تشرف على الحلقات القرآنية في الشرطة العسكرية وحرس الحدود والحرس الوطني وقوة الطوارئ الخاصة وكل ذلك من منطلق أن من أولويات الجمعية خدمة المجتمع بكافة شرائحه.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد