Al Jazirah NewsPaper Thursday  29/03/2007 G Issue 12600
الرأي
الخميس 10 ربيع الأول 1428   العدد  12600
الشيخ محمد بن صالح الحديثي رحمه الله
صالح بن علي محمد اللحيدان/ مهد الذهب

جد أبنائي - والدي

فجر يوم الخميس 25-2-1428هـ والساعة تشير إلى السادسة صباحاً فجعت أسرتي وأسرة آل الحديثي من بني زيد ومجتمع القضاء ومجتمع البكيرية وعفيف والمويه وباللسمر وباللحمر بوفاة والد الجميع الشيخ محمد بن صالح بن محمد الحديثي رحمه الله وأسكنه فسيح جناته وجعل مثواه في الفردوس الأعلى.. إثر عملية جراحية بمستشفى الملك خالد الجامعي لإزالة عارض صحي، ولا راد لقضاء الله.

نشأته

اسمه الكامل هو محمد بن صالح بن محمد الحديثي، حيث تنتهي هذه الأسرة في نسبها إلى بني زيد من قحطان، وكان مولده في عام 1344هـ في البكيرية بمنطقة القصيم، إذ توفي والده وهو في الثامنة من عمره، ونشأ في حجر أمه، وتحت كفالتها، فربته تربية صالحة، ووجهته لحفظ القرآن الكريم منذ الصغر، وبدأ حفظه في البكيرية في مدرسة تعرف باسم مدرسة الشيخ محمد علي المحمود، إذ درس عليه فيها ثلاثة أجزاء من القرآن الكريم.

وقد فقد بصره وهو ابن خمسة عشر عاماً نتيجة لإصابته ببعض الأرماد. وفي سبيل طلب العلم انتقل إلى مدينة الرياض عام 1358هـ، والتحق في هذه السنة بمدرسة الشيخ محمد بن سنان، وعليه قرأ وحفظ خمسة عشر جزءاً من القرآن الكريم. وهذه المدرسة لها فضل على مسيرة التعليم في عهد الملك عبد العزيز وأوائل عهد الملك سعود رحمهما الله، إذ درس فيها عدد كبير من الأمراء والعلماء والمربين، وتولى كثير منهم مناصب مهمة في مختلف الجهات الحكومية. وفي عام 1360هـ عاد الشيخ الحديثي إلى البكيرية، وفيها أكمل حفظ القرآن الكريم على يد المعلم عبد الرحمن بن سالم الكريديس في مدرسة تعرف في ذلك الوقت باسمه، ثم عاد مرة أخرى إلى الرياض وفيها توسع في طلب العلم ودرس على الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية في عصره، وعلى أخيه الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم في متون العقيدة والتوحيد والفقه والأجرومية في النحو، ثم سافر إلى الطائف عام 1372هـ والتحق بدار التوحيد ودرس فيها سنة واحدة، وكان مديرها في ذلك الوقت هو الأستاذ عبد الملك الطربلسي من أهل المدينة المنورة، ومن مدرسيه فيها الأستاذ عبد المنعم النمر - رحمه الله - الذي تولى وزارة الأوقاف في مصر ثم عاد إلى الرياض والتحق بالمعهد العلمي ودرس فيه الصف الثاني الثانوي، وكانت مدة الدراسة فيه أربع سنوات للمرحلة المتوسطة والثانوية. وفي عام 1375هـ حصل على ثانوية المعهد، وأثناء دراسته في معهد الرياض انتقل من حي دخنة إلى أم قبيس في قصر للضيافة يعرف بقصر أم قبيس على شارع الوزير، وقد استمر المعهد العلمي في هذا القصر سنتين تقريباً، ثم انتقل بعدها إلى مبناه الواقع بين شارع الوزيرج

أعمال القضاء التي تولاها

عين عام 1380هـ قاضياً في بللحمر وباللسمر بمنطقة عسير، واستمر فيها ثلاث سنوات، ومنها نقل إلى المويه في عالية نجد على مقربة من الطائف على خط مكة القديم، واستمر فيها ثلاث سنوات. وفي عام 1386هـ نقل كقاضٍ إلى محكمة عفيف، ثم رئيس لهذه المحكمة، حيث اتسعت وزودت بعدد من القضاة في عهده، واستمر فيها إلى عام 1405هـ. وفي هذه السنة نقل بناء على طلبه قاضياً في المحكمة المستعجلة بالرياض، واستمر فيها إلى نهاية عام 1412هـ، حيث أحيل بناء على طلبه إلى التقاعد.

سيرته في المجتمع

عرف عنه - رحمه الله - البساطة في التعامل مع كل شرائح المجتمع، حيث يقدر الكبير ويعطف على الصغير، وكان باشاً في كل المواقف والظروف، ولين الجانب كريماً، وإن باب منزله مفتوح، ويزداد سروره عندما يطرق بابه ضيف من أي جهة.. حريصاً على تقصي كل صغيرة وكبيرة ومعرفتها عن معارفه وأصدقائه وجيرانه.. ولا تعلم شماله ما تنفق يمينه، وله أعمال ومشروعات خيرية لا يعرف حتى أبناؤه عن ذلك لحرصه على أن تظل هذه الأعمال في طي الكتمان رغبة في عمل الخير دون التفاخر أو التباهي، ولا يتردد في قبول الدعوة من أي شخص رغبة في الأجر والثواب، زاهداًَ في الدنيا في كل مناحي حياته مع حرصه على الهندام الخارجي الذي يظهره نقياً في ظاهره كباطنه، ناصع البياض. تفرغ في آخر حياته بعد تقاعده للانقطاع للعبادة، حيث لا تجده إلا ساجداً في كل ركن من المنزل للنوافل، ويسابق المؤذن للمسجد ويستغل وجوده بالتلاوة عن ظهر قلب واسترجاع حفظه حتى في أشد لحظات مرضه يطلب الذهاب به إلى المسجد. يذكر الله ويعظ من حوله ويحثهم على الصلاة، وفي كل وقت لا يقابلك إلا وهو يذكر الله بالقرآن الكريم الذي على لسانه في كل وقت أو التسبيح أو التهليل.. تحسبه مستسلماً للنوم، تفاجأ بآية من القرآن الكريم أو حديث أو ذكر للبارئ عز وجل. يحرص على استرجاع العلوم الشرعية مع بعض المشايخ الفضلاء في منزله العامر، وإن لم يجد أحداً، فصديقه إذاعة القرآن الكريم.. متابعاً لأغلب البرامج الدينية والإفتاء في كل الإذاعات.. تعجب لمتابعته الدقيقة لنشرات الأخبار، ويعرف موعد كل نشرة ويتابعها بتعمق وإنصات. يوظف هذه الأخبار لتذكير من حوله بالأمن والأمان في بلادنا الغالية. له آراء صائبة في أحوال المجتمع، ويحرص على طرح رأيه ومعرفة آراء الآخرين من أبنائه ومعارفه لتعويدهم على الطرح الجيد واستنباط الفكرة والرأي والجرأة في المشاركة.

المشاركة في خدمة المجتمع

تولى أعمال القضاء في أمكنة نائية مثل بللسمر وباللحمر والمويه وعفيف، فكانت له بصمات في تحقيق كثير من طلبات الخدمات والمشروعات التنموية والخيرية من خلال كتاباته المباشرة إلى أعلى سلطة في البلاد.. الذين يفرحون بمن ينقل إليهم حاجات الأهالي بأمانة، وكذلك أهل الخير الذين يحرصون على وضع زكواتهم في أهل الحاجة والحرص على إقامة المساجد في المواقع المحتاجة، ودعم الجمعيات والمؤسسات الخيرية معنوياً ومادياً.

يحرص على الصلح في مجالس القضاء برضى الطرفين قبل أن يلجأ للحكم الشرعي.

يسهم في الشفاعات للخير لإنهاء القضايا والمنازعات الفردية والقبلية. وكم من القضايا التي كان سبب خير في إنهائها، حتى إن تطلب الأمر أن يدفع من جيبه الخاص ابتغاء مرضاة الله.

سيرته مع الأبناء والأحفاد

اعتمد في تربية الأبناء على الحرص في تقوية أواصرهم بالله - سبحانه وتعالى - من خلال حثهم على أداء العبادات في أوقاتها، واستغلال كل جلسة في تذكيرهم بالله سبحانه وتعالى، وحثهم على التقرب لله ومساعدة الفقراء والمساكين وعدم التبذير والإسراف والبذخ في غير محله، والحرص على الروابط الاجتماعية مع الأقارب والجيران والمعارف وحضور المناسبات العائلية. لا يتدخل في شؤون الأبناء، ويترك لهم حرية اختيار الاتجاه والمستقبل؛ لإيمانه أن المسير هو الله. يزكي فيهم دائماً حب العمل والإخلاص لله ثم للوطن من خلال إيضاح عظم الأمانة والمسؤولية الملقاة على عاتق كل منهم.

أما الأحفاد فهم محل عطفه دائماً من خلال ملاطفة كل منهم بالدعاء له وحثهم على الفضائل، ويمسح بيده الحريرية على رأس الحفيد ليشعره بالأبوة والحنان الذي ينبض به قلبه الطاهر.

تجربتي الشخصية معه

شرفت بمعرفته منذ أن كان عمري سبع سنوات 1389هـ حين كان والدي - أطال الله في عمره - موظفاً تحت إشرافه بمحكمة عفيف الشرعية، وحتى بعد انتقال عمل الوالد إلى الرئاسة العامة لتعليم البنات عام 1392هـ، وكان بمثابة الحنون العطوف الذي يسأل كلاً منا عن كل صغيرة وكبيرة مع كل أفراد أسرتي. عشت مع أبنائه، وكان يعاملني كأحدهم. يوجه ويراقب ويلوم كل وضع حسبما يتفق الحال معه. يحرص على وجودنا مع عائلته في المناسبات والأعياد، ويحث على العلم والتفوق والنبوغ والاستفادة من الوقت الثمين. استفدت من مجالسه العامرة ولقاءاته اليومية والأسبوعية مع ضيوفه من داخل عفيف وخارجها.. مجالس ذكر لله، ومجالس علوم رجال، ومجالس هموم اجتماعية، ومجالس فكاهة.

تطورت هذه العلاقات على مر الزمن حتى شرفت بالنسب منه عام 1407ه وتوطدت الروابط. وفي كل يوم أكتشف أنني أمام شيخ جليل تعجز الكلمات عن وصف مناقبه. مدرسة في الدين والعلم والأخلاق والتواضع والزهد.. كل هذه الصفات التي تتسابق، انعكست على أبنائي؛ (أحفاده وحفيداته) وفقهم الله.

كثيراً ما كان يسألني عن عملي، ويحثني على خدمة الناس والتيسير عليهم، ومعرفة أحوالهم الاجتماعية والاقتصادية، ويرغّبني في متابعة أعمال الخير والمشروعات الخيرية ومخاطبة الموسرين لمساعدة المحتاجين من أبناء البادية؛ لأنه يعرف أوضاعهم جيداً بحكم عمله سنوات طويلة بينهم.

شهود الله في أرضه

انتقل خبر الفاجعة برحيل رجل الخير بسرعة البرق إلى أقصى البلاد في أبها وبللحمر ثم عفيف والقصيم، وإلى كل بيت محب في العاصمة الرياض.. توالت رسائل الجوال ومكالماته بين مصدق ومفجوع. اكتظ المنزل صباحاً بالجيران والأحباب والأقارب، ثم كان الملأ في مسجد الراجحي بالرياض من الثانية ظهراً لأداء صلاة العصر في مشهد لفت أنظار المصلين، ولهجت الألسن بالدعاء للفقيد.. انتقل الجميع بعد الصلاة عليه إلى مقبرة النسيم حيث دفن جثمانه الطاهر، ووقفت جموع المعزين قرابة ساعتين ونصف الساعة في مشهد اختلط المحبون بالعلماء والقضاة والجيران والأقارب والأعيان ممن عرفه شخصياً وممن سمع عنه، وعن ورعه وخلقه الكريم على هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم. تقاطرت أفواج المعزين على منزله العامر طوال أيام الخميس والجمعة والسبت حتى الأحد من رجال ونساء، والكل يلهج بالدعاء له بالمغفرة والرحمة، ويتضرعون للمولى أن يسكنه فسيح جناته.

همسة

لا أملك تجاه أعزائي وأحبابي أم صالح وأم سعود وإخوتي صالح وراشد وأحمد وسعود وخالد وعبد الله وبدر ووليد وماجد وأخواتي أم فيصل وأم رياض وأم محمد وأم عبد الله وأم صالح وأم هالة وأحفاده كافة.. أقول لهم إن والدنا جميعاً (أبو صالح) خلّف لنا الارتباط الوثيق بالله - سبحانه وتعالى - في السراء والضراء، حيث جعله دائماً أمام عينيه في كل وقت.

كما أن مكارم أخلاقه وتواضعه وزهده وورعه وحبه للناس جميعاً هو كنز خلّفه لنا نسير عليه ونلتزم به إن أردنا رضاءه قرير العين.

اللبنات التي وضعها في التعامل معنا جميعاً من خلال التقدير والعطف والحرص على الألفة والمحبة والتراحم هي وصيته الخالدة التي ستجعل الجميع يحفظ له وجوده معنا بعد وفاته رحمه الله.

بعباراتي هذه لست أفضلكم، ولكنني أخوكم الذي لم تلده أمهاتكم. كنت قريباً منكم قبل النسب ولا زلت وفياً لكم.

هذه خواطري التي يعلم الله أنها صادرة عن القلب ابتغاء مرضاة الله ووفاء لوالدي (والدكم). جعل الله مثواه في الفردوس الأعلى.. إنه سميع مجيب.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد