قد تكون النهاية... يرتطم جسدي بقوة بأرض الشاحنة الباردة، ويُصَفقُ الباب ورائي بقسوة. عتمة، لا شيء سوى العتمة، تبتلع المكان والزمان والأشياء... وأشعر جسدي يابساً واهناً حتى الموت..
دوارْ، دوار مرٌّ يتشبث برأسي، وبهدوء ينسلُّ ذاك الكائن الدافئ المرُّ من جروحي المفتوحة، يعبر حلقي ورئتيِّ، يعتصرني الغثيان، وكأنني سألفظ خارج حدود الكون كله.
تنطلق الشاحنة تقطع بي الطريق المعتم حيث لا أدري... صوتها الوحشي، يزمجر، يطفئ الأصوات، وأدير رأسي لألمح ضوءاً وحيداً ضيقاً كخيط، ينسلُّ من أحد الشقوق، يُشعرني بأني ما زلت هنا، على وجه الكرة الأرضية.
لا.. لن أحاول... لأني لن أستطيع النهوض الآن... لابد أن القلب يرزح تحت أنقاض عظام مكسّرة، تحطّم جسدي كمعبد قديم، وعيناي بصعوبة تستجديان خيط ضوء عابث.
ربما تكون النهاية.. لا أدري في كل مرة كنت أقول هذا، لكنني ولا أعلم كيف! أجد نفسي مرمياً على قارعة طريق، تصفر الريح في داخلي، ألملم أجزائي المطحونة، أُغطي وجهي الممحي الملامح وأنهض وأتساءل؛ ما ذاك الذي يعتريني... ألمٌ.. حزنٌ... أم رغبة بالبكاء؟!.. أتراني أستحيل؟؟؟ أستحيل كائناً مشوهاً غريباً نائياً عن الأرض؟.
سجين أنا...، حيث لا ضوء، لا صوت، ولا روح تومض، عدم.. انتظار يائس للحظة ما، للحظةٍ يعود فيها شيء، يُبعثُ من جديد ربما...، أو ربما يهوي حيث لا انتظار بعد السقوط.
أنا لم أَسرقْ يوماً، ولم أقتل يوماً رجلاً حقيقياً، لم أنظر إلى امرأة قط إلا خلف حلم أخضر حزين، حزين حتى الجنون، حتى الجنون الذي لا ينطفئ.
وعلى دروبي الموحشة تعودني آلامي القديمة وأذكر، أذكر جيداً يوماً تشرينياً بارداً.... والسماء الحديدية اللون تمارس غضبها على روحي.. وأكوام الغيم الأسود تلتهم المدى وتزحف كالكابوس فوق الأرض. في ذلك اليوم اقتحم بيتنا الصغير رجالٌ دون وجوه، رجال كظلال شجر عارٍ... كسروا النوافذ والجرار، قلبوا السرير والطاولة... حطموا لوحات أبي، ثم أضرموا النار... اشتعلت في الخشب القديم. واحترق البيت، احترق حتى الثمالة.
بقينا خمسة في الخارج... ننزف بحزن، دماً، رماداً أسود تذروه الرياح.. وفي الصباح كنا كومة أجساد منهكة تحفر الأرض بأيديها المرتجفة وتطمر الأم المحترقة الأعين، منذ ذاك اليوم.. تاهت خطانا على الدروب المشتعلة، أصوات العويل لم تكن لتفارق سمعي، ومنظر الدماء أصبح عادة... ذاك الأحمر المبعثر هنا وهناك يَشِم الجدران والعشب، تراه منزرعاً في السماء، في قطرات المطر وفي الإغماضة الخاطفة كان لابد أن تعيش في كل لحظة، قسوة داخلك الدامي، قسوة ذاك الألم الذي قد لا تفكر للحظة أنه سينتهي. وشيئاً فشيئاً بدأت الأشياء بالتلاشي وانطفأ وجه أبي فجأة!!
أختي الكبرى ابتعدت ولم تعد، وبين يدي بقيت الصغيرة، خمس سنوات باكية تثقل قلبي... وفي ليلة وحشية وضعتُها كالنذل على شرفة منزل، وقلت إنيّ عائد.. نظرت من الشرفة إلى الأسفل.... ثم أغمضت عيني وقفزت... علّني أنتهي من ألواني المُعتِمة... من ظلمة روحي المتعبة، ولون عيني أختي الباكيتين.. وارتطمت، شعرت بالموت قربي يتنفس، لكني كنت ما زلت أسمع صوت بكائها المحموم يناديني بذعر... نعم - ما زلت حياً أرزق.... محطماً نهضت، رفعت رأسي للسماء، عتمة، ريح قارسة، ووجه حزين غارق بالدموع. تقف الشاحنة، صوت أقدام تقترب، ينفتح الباب، يدهمني ضوء، ويدنو ظل طويل، تمتد يد قوية ليهوي جسدي من جديد على أرض غير معبدة. أفتح عيني، ربما أستطيع النظر، لكن عصبة سوداء تطفئ النور... وأُساق.
هكذا كنت أحيا، عبثٌ، طريق لا أعلم أين تودي، عالم غريب يحوطني، حيث لا شيء يلامس القلب، جمادات وأصوات بعيدة تتداخل، ولم يكن سوى الألم ليعلن انكسار وجودي، يعلن أن ذاك الرجل خُلِقَ في لحظة بؤس، وبُصِق ببؤس. إلى الأرض قدماي عاجزتان عن الحراك، سحبتني اليد القوية من رأسي، تشد الجسد المتهالك من ورائها، رائحة نتنة.... لا بد أنه سجن... أنين... تأوّهٌ محموم.. نعم... سجن تعذيب ربما... تلكَ العصبة اللعينة، لو أستطيع أن أرى فقط أين سأكون.... يُفتح باب... ويُدْفَع جسدي إلى جدار قريب، أرتطِم، يطبق كل شيء، عيناي مطفأتان، ويداي مصلوبتان إلى الخلف.
نعم... هي النهاية.
آه... كم كنت أمشي وحيداً... أدور في الشوارع وأرقب.... ظلالٌ سود تفترش الأرض... وجوه كالأبالسة تلتهم الهواء، تضرم النار أينما اتجهتْ... تدمر البيوت الوادعة... وتمارس حبها الجنوني مع الجثث... أرقب الحصار بصمتْ... أجترُّ حزني، يغلي ذاك الحقد في دمي، وتعود إلى الذاكرة لوحات أبي، وجه أمي الباكي وصوت أختي الصغيرة يحفر داخلي، يرميني كل دقيقة من ألف ألف قدم... بصمت كنت أزرع الساحات المحترقة... أعضُّ على شفتيّ، أبحث بين الوجوه، عن وجه ما لم يَطأْهُ الموت.
كان يوم... وكنت قريباً جداً... حتى أني رأيتُ كل شيء... تقترب الحافلة من بعيد وتهوي فوقها كرة سوداء صغيرة، للحظةَ... يتوقف الزمن.... يغيب اللون، ويختفي أي صوت... ثم.... تنفجر الأرض، تهب النار كريح عاتية، تمتد ألسنة اللهب للأعلى، تنتشر بجنون في الجهات، وترقص بنشوة رقصتها القاتلة.
وأحسستُ عينيّ تتسعان وتتسعان... صرت أرى بوضوح خلف النار المشتعلة أجساداً ببزات خضراء تتلوى، وجوه بلون الليل تفتح أفواهها المحشوة باللهب، تصرخ بألم... وتعودني نظراتهم الكريهة.. قرب بيتنا المحترق، وجوههم التي طالما سخرت من حزني من دمي ونزيفي الباكي. إنها تحترق، تتقلص، تستحيل ورقاً يابساً كالموت... نشوة تعتري جسدي.. والنار قربي تنبعث من كل مكان كطوفان ثائر...
خلعت قميصي وحول الحافلة الملتهبة، صرت أرقص وأرقص... جسدي البدائي يندفع للأعلى وصوتي يموج عالياً في الفضاء، كنت أدور حول نفسي، غير آبهٍ بالشتائم، بالعصي التي انهالت على جسدي بقسوة..
السعادة... نعم ربما هي السعادة تلك التي غمرتني تلك اللحظة.... السعادة، هي ذاك الشيء الذي يقهر الألم... (فكرت بعد أن صحوت من غيبوبة حطامي)... ولم تكن.... سوى لفحة لهب تلتهم الوجوه الآثمة... ومنذ ذاك اليوم ماعدت أبكي، ماعدت أسمع ذاك النحيب... يخرق روحي، كان اللون المشتعل يملأ السماء، يضيء الدنيا، يبدّد العتمة والشر...
وخلف شجر العتمة، صرت أتبادل الكرات السود الصغيرة... مع شباب ملثمين، في داخلي يتحرّق اللهب العظيم للثورة، للخَلْقِ للانعتاق من الجسد... وعلى مفارق الدروب كنت أرتمي موقوتاً.... مشبوباً..... ليعلو صوت الانفجار، ولتنسفح النار على الوجوه الغريبة، وأسمع صوت الأرواح السود تصرخ، تصرخ بألمِ بيتنا الحزين الذي احترق.
لم تكن دموعاً تلك التي كانت تنهمر من عيني.... كانت شيئاً من تلك النشوة التي طالما حلمت بها، ثلاث سنوات، قُبض عليّ فيها عدة مرات... وفي كل مرة كنت أعتقد أنها ستكون الأخيرة... أنظر من خلف قضبان الشاحنة... أرنو للشجر مودعاً... وأرقب ابتعادي حيث اللا نهاية... لكنني اليوم لم أستطع حتى أن أودع شجر الطريق ربما لو بقيت طليقاً ثلاث سنوات أُخَرْ، ربما أضرمت ناريَ في البقية، ربما استطعت أن أبني مع الباقين بيوتاً غير التي احترقت... ربما وجدت أختي الصغيرة تلوّح لي من شرفة وردية تبسم لي بصفح، ويعود وجه أبي وأمي كوكبين حالمين يبددان الليل.
آهٍ.... إنه الألم... ينتشر في جسدي.... أشعر به قاسياً كما لو لم يكن من قبل، والقلب واهنٌ ربما صامت... ومن حيث لا أدري يتناهى لسمعي حفيف هادئ، صوت بحر بعيد، ريح تعبث، شيء من أنين، ووجوه كثيرة تومض في ذهني المتلاشي... أبٌ، أمٌ، إخوة، شموس تتراكض في السماء، خضرة نضرة تشق التربة... أطفال عراة يزرعون خطواتهم على الدروب المترامية... وبيوت تطل على المدى، تبسم بحبٌ للفصول.
إيه... يا عالمي الآخر...
يتضاءل الجسد الآن... ينكمش على بعضه، وشيئاً فشيئاً تبتلعه النقطة المركز، حيث منه انطلق في اتجاهاته البائسة نحو الحياة.. وها أنا أنعتق كنسمة، كموجة عتمة صغيرة.... وانظر... درب طويل، يمتد من حيث أرتمي، يخترق الجدار، ويصعد، وهناك في البعيد تمتد حمرة قانية، تصبغ المدى، تلهب السماء، وخلف اشتعالها الضاري... يطل وطن، وطن صغير يتلألأ.
*من منشورات اتحاد الكتاب العرب