عمري خمس سنين
أدفن رأسي
من خوفي، في صدر محزون
أسمع دقات فؤاد
بالخوف يموج
يا صدر الأم الحاني:
بدد خوفي
فالخوف جنون
***في ليلة صيف قمراء
نسمات باردة في الأرجاء
جاء الجيران فصاحوا: هيا
وحملنا أمتعة البيت، ومضينا!
كانت أمي تحمل (بقشة)
تعلو شفتيها الرعشة
وأنا في يدها كالقشة
أضحك، أضحكُ،
الدنيا زحمة.
هذي الطرقات امتلأت
والناس كنحلٍ مذعور
وأنا اضحك
لم أشهد من قبلُ لنا رحلة
لم نخرج يوماً للفرجة
فلتكن اليوم الفرجة
***
لِمَ أمي خائفة
ولماذا الناس موليةٌ
أمي تسرع، تلحقهم.
نظرت أمي عجلى
فبكت بالدمع على وجهي
فبكيت!
- أين سنمضي، يا أمي.
- لا أدري!
- حتماً سنعود؟
- لا أدري
- قولي: سنعود!
- لا أدري.
- ولماذا يا أمي؟
- يا ولدي جاء يهود.
- جاء يهود؟
- جاء يهود، قتلوا الجيران
هدموا العمران
شادوا البنيان
فوق الأشلاء!
- ولماذا يا أمي هذا الطغيان؟
- نحن ضعاف يا ولدي
نحن بلا علم يا ولدي
ندعو للسلطان العثماني
نفخر أن الأمر خلافة
نتحدى العالم أن يهزمنا
لكن يا ولدي (لكن)
كم هزمتنا هذي (لكن)!
هُزم الأتراك وبادوا
كانوا جبارين علينا
والله الجبار.
قام العربان بقومية
قالوا: أمتنا عربية
لا ترضى بالدونية
وفرحنا بالقومية يا ولدي
لكن، لم ترحمنا القومية
ورأى الحال يهود
طردوا من كل الأصقاع
فهنالك (هتلر) يقتلهم
وأوروبا تكرههم
فرأوا أرض فلسطين
صيداً سهلاً يا ولدي.
جاؤوا من كل مكان
وتداعوا
ليقيموا وطناً
بإبادة أهله.
ها هم يا ولدي في دير ياسين.
قتلوا كل الأطفال
حرقوا كل الأشجار
فلنهرب يا ولدي
وبصوت متقطع
تتكلم أمي
تمشي خلف وتسرع
تحملني بين ذراعيها
أثقلت ذراعيها.
- أمشي يا أمي؟
أمشي؟
ومشيت كما يمشي الفُرّار
***من يسكنُ بيتي؟
من يأكل من زيتون حديقته؟
من يرعى البهم عشيا؟
من يسقي التفاح؟
من يحفظه حتى نرجع؟
قالت: يا ولدي لن نرجع!
قالتها بالصوت الموجع
قالتها ببكاء مفجع
لن ترجع كي لا يقتلك المدفع
لن ترجع أنتَ،
ولكن ابنك يرجع.
وبكت أمي وبكيت
ولحقنا بالركب وعشنا في خيمة
يلسعنا البرد وتغرقنا الغيمة
ماتت أمي وبقيت
ورواية أمي في أذني تُسمع
أرويها اليوم لأحفادي.
كانت أمي صادقة،
لكن ابني لم يرجع!
***
أمي لم تكتب يوماً
أمي لم تقرأ
لكن تسمع
شرحت لي قبل (الأخبار)
ما نقص التحليل ولا اصبع
عما قال ذوو العلم الأرفع
والدرجات العلمية
ودراسات تاريخية
ما قالوا شيئاً ينفع
***
ما علموا أكثر مني
ما علموا أكثر من أمي
ما علموا أكثر مما
يعلمه طفل يرضع
من أم معدمة تفزع!
