كيب تاون -الجزيرة
أكد الأستاذ خالد المالك رئيس التحرير أن الصحافة العربية الجديدة لم تحصر دورها في كونها سلطة رقابية على بقية السلطات التنفيذية والتشريعية والرقابية وتجاوزت ذلك لتكون رابطا يعكس ما تقدمه تلك السلطات لشعبها، وأشار الأستاذ المالك في سياق ورقة العمل التي طرحها أثناء مشاركته في المؤتمر العالمي للصحف في جنوب إفريقيا إلى العوائق التي تواجه الصحافة العربية وفي مقدمتها التباينات السياسية بين الدول العربية التي أدت لعدم ظهور صحيفة عربية تخاطب القارئ العربي بشكل عام.
وتطرق رئيس التحرير في ورقته التي حملت عنوان (الفرص والمعوقات في الصحافة العربية) إلى المبادرة التي أطلقتها جريدة الجزيرة وكان محورها الأساسي (كيف نرى الصحافة العربية في المستقبل) مؤكداً أنها ستفيد جميع الصحف ووسائل الإعلام العربية تبعا لما ستفرزه من جدل واسع حول الشخصية المستقبلية للصحفي العربي.
استهل رئيس التحرير ورقته في المؤتمر بالإشارة إلى عنوان جلسة الحوار الذي يدور حول الموازنة ما بين الأخلاقيات والشفافية والاستقلالية في غرف الأخبار، وقال: إنه عنوان مثير وجذاب من جهة وسهل من حيث الصياغة اللغوية من جهة أخرى، وإن كان شائكاً من حيث التفاصيل والتتبع الدقيق لمن يريد أن يكتب عنه بالنظر إلى البيئة التي تتعامل وتتأثر بها غرف الأخبار بالصحافة العربية.
وأضاف: من الحقائق المهمة أن العالم العربي ليس كله مسلمين، وإن كان المسلمون يشكلون الغالبية، مقابل أقليات مسيحية ويهودية وغيرها، كما أن الثقافة السائدة تختلف من دولة عربية إلى أخرى، حيث تلعب السياسة والخلفية الثقافية والمكون التاريخي والمنهج التعليمي دوراً كبيرا في تشكيل (التباين) في الثقافات بين شعوب العالم العربي، وبخاصة أن بعض الدول العربية تضم في جنباتها أعراقاً مختلفة ليست بالضرورة عربية، وهي أعراق تؤثر - سلباً أو إيجاباً - في ثقافة المجموع داخل الدولة.
وأوضح الأستاذ المالك أنه وفقا لهذه الحقائق، فإن لكل دولة عربية خصوصيتها، برغم أن اللغة العربية الفصيحة تجمع بين هذه الدول، ومع هذا فإن الصحافة العربية الجديدة لم تحصر دورها في كونها سلطة رقابية على بقية السلطات (التنفيذية والتشريعية والقضائية)، وإنما تجاوزت ذلك لتكون رابطا يعكس - دون إخلال بدورها - ما تقدمه تلك السلطات لشعبها، وهو أسلوب يقلل الفجوة بين القمة والقاعدة، ويكسب العلاقة بين الصحافة وبقية السلطات دفئا مطلوبا لضمان الاستقرار السياسي والاجتماعي في هذه الدول.
واستطرد قائلاً: يمكن القول إن هناك قواسم مشتركة لغوية ودينية وثقافية وأخلاقية تسود العالم العربي، وهي قواسم يمكن الاستعانة بها لخلق هوية صحفية عربية تميز صحافة العرب، وتحدد وتبرز شخصيتها المستقلة التي تسهم في مخاطبة الآخر والتعاطي معه بكل وضوح وشفافية.
عوائق أمام التقدم
واستعرض رئيس التحرير العوائق التي تواجه الصحافة العربية وأوجزها في عدة نقاط:
أولاً: أن عدد الصحف في البلدان العربية لا يتجاوز 53 صحيفة لكل ألف شخص مقارنة بـ285 صحيفة لكل ألف شخص في الدول المتقدمة. وهو ما يؤثر سلباً على نسبة عدد قراء الصحف.
ثانياً: تدني مستوى التعليم والتدريب لدى الصحفيين العرب مقارنة بنظرائهم في الدول المتطورة.
ثالثاً: التباينات السياسية الحادة بين الدول العربية أدت إلى عدم نجاح تجربة ظهور صحيفة عربية تخاطب القارئ العربي بشكل عام على الرغم من النجاح الذي حققته بعض الصحف العربية المهاجرة، وهي أيضا تلاقي أحياناً ما تلاقي من مشاكل المصادرة ومنع الوصول إلى مراكز التسويق بسبب الرقابة في بعض الدول العربية.
رابعاً: العائق التكنولوجي كان من أهم العوامل التي حالت دون منافسة الصحف العربية مثيلاتها في العالم الغربي وهو ما تبين من:
(أ) نسبة عدد خطوط الهاتف في الدول العربية لا تصل إلى خُمس نظيراتها في الدول المتقدمة.
(ب) كل ألف شخص في المنطقة العربية لا يحظون إلا بأقل من 18 كمبيوتراً، مقارنة بالمتوسط العالمي وهو 78.3 كمبيوتراً لكل ألف شخص.
(ج) انتشار أمية الإنترنت في العالم العربي، وعلى سبيل المثال فإن نسبة مستخدمي الإنترنت في السعودية لا تتجاوز 13%.
(د) عزوف العديد من الصحف العربية لفترة طويلة عن إعطاء أهمية لإنشاء مواقع لها على شبكة الإنترنت أو التعامل بجدية معها تسبب في ظهور مواقع نشر على الإنترنت تفتقر للمصداقية.
وتشير إحدى الدراسات الإعلامية العربية في هذا الصدد إلى أن الإعلاميين والصحفيين في عالمنا العربي هم أول من فوجئوا بالانفجار العلمي المدوي من حولهم، فلم يتمكنوا من التقاط أنفاسهم حتى وجدوا أنهم محاصرون في مهنتهم نفسها، بكم كبير من التقنيات التي لا يعرفونها، ولا يجيدون التعامل معها، والتي بغيرها أو من دونها لن يستطيعوا تحقيق الانسجام المطلوب مع الشروط الجديدة لمهنتهم.
حراك إيجابي
ولفت الأستاذ المالك الانتباه إلى أن الصحف العربية ككل تشهد حراكا إلى الأمام لكي تواكب تطلعات مجتمعاتها، وأشار إلى بعض الاتجاهات الجديدة الملحوظة، ضمن مسيرة التحول والتجديد خلال السنوات الماضية والتي تتمثل في عدة نقاط:
1- تشهد الساحة العربية والسعودية جدلا واسعا حول التأهيل الأكاديمي لخريجي أقسام الإعلام في الجامعات السعودية والعربية. ويأتي ذلك نتيجة الضغط على مؤسسات الصحافة والإعلام بتطوير كوادرها والارتقاء بمخرجاتها، وفي نفس الوقت تدخل كليات وأقسام الإعلام في الجدل، تارة مدافعة عن مخرجاتها، وتارة أخرى تُحمّل مؤسسات الإعلام والصحافة المسؤولية في عدم توفير بيئة تدريبية مناسبة، لصقل طلاب الإعلام وتهيئتهم قبل خروجهم إلى سوق العمل. وأرى أن مثل هذا الجدل هو صحي ومفيد ومطلوب، لتحريك المياه الراكدة، وخلخلة الوضع القائم.
2- تعاني الصحافة السعودية من محدودية وجود الكوادر النسائية المؤهلة تأهيلاً أكاديميا في مجال الصحافة والإعلام، وذلك نتيجة عدم إتاحة الفرصة لهن بدخول أقسام الإعلام. ولكن خلال العام الماضي والحالي فتحت ثلاث جامعات سعودية المجال للمرأة في خوض تجربة الدراسة الأكاديمية الإعلامية، سواء على مستوى الدراسات الجامعية، أو على مستوى الدراسات العليا. ومن المتوقع أن يساهم هذا التوجه في الارتقاء بمستوى المرأة وتأهيلها إعلامياً، مما يعني إضافة جديدة إلى الأداء الإعلامي في الصحافة.
3- ظهرت بعض الصحف في العالم العربي مواكبة لبعض المدارس المهنية في بعض الدول المتقدمة. وهذا يبرز الحرص على الإفادة من تجارب الآخرين والسعي لردم الفجوة بين صحافة العالم العربي الطامحة للتقدم، والصحافة الغربية بإمكاناتها القوية وتجربتها التاريخية الثرية. ورغم هذا التوجه يبرز التوجس من أن تفقد الصحافة العربية هويتها الخاصة وتذوب في إطار التجارب الأخرى التي قد لا تتناغم بالضرورة مع خصوصيات المجتمع العربي.
4- شهد العالم العربي تطورات إصلاحية كبيرة خلال السنوات الماضية، لكن يظل الخوف قائما من اتساع مساحات الحرية الإعلامية وانفلاتها لتكون دون ضوابط، وهذا ما قد ينقلنا من مرحلة الصحافة المكبّلة إلى مرحة الصحافة المنفلتة، خصوصاً إذا وضعنا في الاعتبار هامش الحرية اللامحدود الذي تتمتع به الصحافة الإلكترونية، ومثال ذلك: نشر مشاهد الإعدامات الدموية للرهائن على مواقع الإنترنت جعل بعض الصحف تنزلق نحو نشر صور مروعة لم تكن الأعراف الصحفية تسمح بها.
5- التحول نحو مفهوم الشركات التجارية، وإدراج هذه الشركات في أسواق المال، مما يعني أن المؤسسات الصحفية ستتحول في المستقبل القادم من مؤسسات خاصة إلى شركات تجارية، وهذا ما سيوسع من إمكاناتها المادية فتزيد قدرتها على التطور، لكنها ستتعرض بدرجة أكبر إلى مؤثرات الربح والخسارة، وقد يكون ذلك على حساب الرسالة الاجتماعية التي ينبغي لوسائل الإعلام القيام بها.
تجربتنا أمامكم
وتوقف رئيس التحرير عند التحولات الكبيرة في تطور الصناعة الإعلامية في الوطن العربي عامة، وفي السعودية خاصة وعرض التجربة التي خاضتها صحيفة الجزيرة لمحاولة تجاوز العقبات وتوظيف التقنية للوصول إلى أكبر شريحة ممكنة حيث أدركت صحيفة الجزيرة أهمية استثمار التقنيات وتأهيل الكوادر البشرية العاملة فيها، فأنشأت مركزاً للتدريب المتخصص، وأعقبت ذلك بخطوة غير مسبوقة عربياً، فتم تعيين أحد كوادرها من المهندسين التقنيين بمنصب نائب رئيس التحرير، وذلك في استشراف منها للتلازم الحتمي الذي لا ينفصم بين التحرير وتقنيات الإنتاج في المملكة العربية السعودية في الصحافة الحديثة. وكان للصحيفة، من قبل الريادة في إنشاء موقع لها على الإنترنت في مطلع 1996م، كما أنشأت خدمة إذاعية عبر الهاتف لتزويد ذوي الاحتياجات الخاصة من المكفوفين بأحدث الأخبار، واستفادت من الانفجار الهائل في انتشار الهاتف الجوال الذي تجاوزت نسبته 72% من معدل سكان المملكة، فقدمت باقات متنوعة من القنوات الإعلامية والإعلانية ونوه رئيس التحرير بالفكرة التي تبنتها صحيفة الجزيرة وضاعفت معها عدد مشتركيها من القراء بنسبة تجاوزت 850% خلال السنوات الثلاث الأخيرة.
مستقبل الصحافة العربية!
وتمشيا مع تطلعات المؤسسات الإعلامية في تطوير كوادرها البشرية، تناول رئيس التحرير المبادرة التي ستطلقها صحيفة الجزيرة على شكل حملة إعلامية واسعة النطاق، مؤكدا أنها تتمثل في سؤال أساسي - هو مضمون اهتمام هذا المؤتمر، أو على الأقل هذه الجلسة - كيف نرى الصحافة العربية في المستقبل؟ ومشيرا إلى أن الآليات وضعت داخل المؤسسة لإطلاق هذه المبادرة الإعلامية، لاستقطاب أهل الاختصاص، والمسؤولين، والجمهور من داخل المملكة ومن خارجها، بهدف استيعاب كل الجديد من الأفكار والمقترحات والدراسات المحلية والإقليمية والدولية.. وركز على أن الجزيرة ستعمل على أن يكون التوظيف الجديد والتطويرات الجديدة في الصحيفة والمطبوعات الأخرى مبنيا على الأسس التي ستفرزها هذه المبادرة.
لنا ولكم
وألمح رئيس التحرير إلى أن مبادرة صحيفة الجزيرة السعودية هي أول مبادرة من هذا النوع في الوطن العربي، وربما في دول العالم النامي. منوها بأن الاستفادة منها لن تكون محصورة بصحيفة الجزيرة بل تشمل جميع الصحف ووسائل الإعلام العربية، حيث من المتوقع أن تفرز هذه المبادرة جدلا كبيرا وواسعا حول الشخصية المستقبلية للصحفي والإعلامي العربي، ما سماته ومواصفاته؟ وما تأهيله؟ وكيف نريد أن يكون؟ وما اتجاهاته؟ وموضوعاته؟ وكيف سيستطيع أن يدير صحافة ووسائل إعلام المستقبل؟
ولبناء الجيل الإعلامي العربي المنشود دعا رئيس التحرير في ختام ورقته إلى التفكير بصوت مسموع، وبلغة مشتركة، وبثوابت قيمية تتوافق عليها مؤسسات الوطن العربي، وأبناء وبنات هذه المنطقة من العالم، التي تؤثر وتتأثر كثيرا بما يدور حولها من متغيرات وأفكار ومستجدات تقنية وعلمية.