رغم تقدم العلم، وتطور المادة، ووجود القوة والسلطة والمال، وكل وسائل الضغط، يظل الحوار هو أجمل لغة مشتركة بين طرفين، والأسلوب الحضاري الأمثل لفهم المشكلات، والوسيلة الأنسب لتبادل الآراء، والأفكار، وبحث الحلول، فما أحوجنا اليوم إلى هذا المنهج الذي يمثل طريقة حضارية ناجعة لفهم الآخر وفهم أسباب النجاح، ونافذة أساسية للوفاق والاتفاق، فبواسطته تتعاون الأطراف لمعرفة الحقيقة، التي قد يغيب جزء منها إن لم يكن كلها عن الطرف الآخر، فلولا الحوار لما اتضحت معالم الرؤية، وعن طريقه يكشف كل طرف عما في نفسه أو ذهنه من معلومات ومفاهيم ومواقف، وهو أسلوب إنساني رفيع ووسيلة راقية للتعايش والتفاهم. وهو معيار يعكس سمات الواقع الحضاري والثقافي للأمم والشعوب، وأسرع السبل في الوصول إلى الحلول التي ترضي مختلف الأطراف، والاطلاع على وجهات النظر المختلفة، مهما اعتراها من تباين وتفاوت، وكذلك يساعد على الاستقصاء والاستقراء في تنويع الرؤى والتصورات المتاحة للوصول إلى نتائج أفضل. ومن أدبيات الحوار: إخلاص النية بحيث تنصب جهود المتحاورين حول الوصول إلى الهدف، دون الخضوع لأي تأثيرات تراهن على الفشل، ولا تصب في مصلحة أي من الطرفين، والسعي الجاد لمحاولة تذويب الخلافات التي قد تظهر أثناء الحوار أو التي تكون معلومة سلفاً.
ومن آداب الحوار، أن يراعي كل طرف مستوى المحاور الآخر، بحيث يختار اللغة والمفردات التي لا تقبل إلا معنى واحدا يفهمه الطرف الآخر كما هو، وكذلك إدارة الحوار من منطلق العلم اليقين بالشيء، وليس بالاستناد إلى الأقاويل والأخبار المتواترة التي لا تستند إلى حقيقة موثوقة، وكذلك يجب التحلي بالرفق والحلم وسعة الصدر، والقدرة على التحمل، واحترام وجهة نظر الطرف الآخر مهما اختلفت معه، وضبط النفس أثناء الحوار لتحقيق الهدوء والتوازن، وكذلك ضبط الأعصاب، ولا بد من صفاء الذهن والقدرة على الاستماع والفَهم والاستنتاج والإقناع.. ومن ضرورات الحوار الاتفاق على أصل يرجع إليه المتحاورون في حالة حدوث أي نوع من الخلاف.
ومن قواعد الحوار الأساسية الإصغاء الجيد والاستيعاب التام وحسن الاستماع، وعدم المقاطعة أثناء الحديث، وكذلك ضرورة الفهم الجيد لما يرمي إليه المتحدث دون تعريض أقواله إلى تأويل أو تفسيرات خاصة؛ إذ ينبغي أن تؤخذ الأفكار كما يعلن عنها المحاور، وليس كما يفسرها البعض عن استحضار سوء النية، أيضاً عدم إصدار الأحكام المسبقة على المحاور، أو على آرائه وأفكاره، وعدم التعصب والانتصار للنفس مهما أتيحت الفرصة لذلك.
الحق هو ضالة المؤمن حتى لو كان على نفسه، وعلى من يدخل في حوار أن يتجنب منهج التحدي والإفحام، ويفضل في الحوار وعدم التطرق لنقاط الخلاف، وذلك يجعل الطرف الآخر يوافقك الرأي، وكذلك البداية بالمسلمات والبديهيات، واستخدام العقل والمنطق. ومن صفات المحاور الناجح: اللباقة، ورباطة الجأش، وهدوء البال، وحضور البديهة، والمرح، وقوة الحجة والإقناع، وعدم الربط بين الفكرة وصاحبها؛ إذ لا يجوز أن تؤثر الفكرة أو الرأي المرفوض في التعرض للشخص بالإساءة أو التقليل من قدره أو مكانته، أو إفساد الود معه.. فهذه مسلمات الحوار النزيه.
نعم نحتاجه مع أنفسنا، وبين الآباء والأبناء، وداخل الأسرة الواحدة، وبين الزملاء والرؤساء والمرؤوسين، في حقل العمل، وبين الفرقاء السياسيين لحل المشكلات المزمنة، والأزمات المستعصية، بل بين الدول والشعوب والحضارات؛ حتى يحدث التجانس والاحترام المتبادل، الذي يحقق العدل والمساواة، والاستقرار، وينصف الجميع، ودونه لا يمكن أن يصل أي طرفين إلى حل لخلاف بينهما.
shunkul60@hotmail.com