Al Jazirah NewsPaper Tuesday  12/06/2007 G Issue 12675
مقـالات
الثلاثاء 26 جمادى الأول 1428   العدد  12675
تحديث الخطاب الديني.. ضرورة عصرية
عبد الله بن محمد السعوي

من الضرورات العصرية الماسة التي تمليها اشتراطات معطيات الآني، توجيه الجهود نحو الانعتاق من ربقة أسر الرتابة النمطية، وتجديد الخطاب الديني، بفعل ما ينطوي عليه تحديثه من بعد جوهري مهم بحسبه أحد أبرز المكونات الأساسية في صياغة العقل الكلي...

ورسم خطوطه، وتحديد ملامحه العامة. الخطاب المستهدف بهذه المقاربة القرائية ليس الخطاب في معناه المقدس ذلك الذي يجيب عن الأسئلة الوجودية من أنا؟ ولماذا؟ وإلى أين؟، ويتناول المستقبل الأخروي، فهذا خارج دائرة العقل البشري، وإنما المراد هو تلك القوالب القولية، والصياغات العملية، الرامية إلى إيصال المضامين النصية إلى جمهور الناس بحسبها الوصف السليم، والوعي الصحيح للإسلام في عقائده، وآدابه، ومنظومته التشريعية، ونظامه الأخلاقي، فهذه بطبيعتها ليست وحياً مقدساً بل هي خطاب إنساني، بشري، لا تسمو إلى مستوى القداسة، فهي خطاب عن الإسلام، وليست هي الإسلام بالضرورة، وثمة بون جلي بين قدسية النص، وإنسانية تأويله.

منذ أحداث سبتمبر (أيلول) والإسلام كدين، وفكر، وحركات سياسية، يشغل كثيراً من دوائر الثقافة العالمية وبات هو الموضوع الأول الذي يجري تناوله باستمرار في أجندة كثير من الدوائر البحثية، ووسائل الإعلام، ومراكز الدراسات الاستراتيجية، ودوائر الاستخبارات في الغرب والعالم العربي، وهذا ما يجعل من تحديد محددات هذا الخطاب، ووضع الآلية المثلى للتعاطي معه حاجة ملحة ليس أمام صناع هذا الخطاب من خيار إلا مباشرتها. تجديد الخطاب يراد به شيئان: التطوير والتحديث في الدين، والترشيد والإصلاح بالدين. فالتطوير والتحديث في الدين هو ذلك التوجه الذي ينبثق من رؤية عصرية حضارية، تتجاوز جمود الآليات البحثية، تعي معطيات الواقع، ومتطلبات الحياة المتجددة، تتفاعل معها من خلال توخي إعادة التعاطي القرائي مع الدين الإسلامي، بآليات معرفية، تستقطب وبانتقاء موضوعي الأدوات التراثية الملائمة، وفي الآن ذاته تمتاح من الآليات العصرية المثرية، لتجري حينئذٍ تنقية النص من كل تناول بشري مجافٍ للموضوعية، ومتجاوز للضوابط المنهجية، ومن كل قراءة لا تحقق فرص الانسجام مع روح النص، ومراميه العامة. أما الترشيد والإصلاح بالدين فهو يتم من خلال الإسقاط الموضوعي للنص على مفردات، وتفاصيل السياقات المتعينة، والتجسيد الواقعي للقيم النصية، والتي بمكنتها - كأثر حتمي لإلهية مصدرها - تحقيق نمط من الوجود النوعي الذي يمكن الفرد من تلبية حاجاته الأساسية، وتوفر له المناخ الذي يعزز من فرص قيامه بواجباته، وأداء رسالته في الحياة على أكمل وجه.

إن التجديد في الخطاب الديني بطبيعته منتظم، ويجري على نحو دوري، والخطاب النبوي الكريم أكد ذلك، وأبان لنا أن ثمة من ينبري لإحياء الدين، وتجديده كل قرن من الزمان، و(ابن الأثير) في (جامع الأصول) يوسع مفهوم التجديد ويؤكد أنه لا ينحصر في عالم أو فقيه فرد، بل ينتظم كل من يحيي معالم الدين، ويرفع من درجة المستوى العام للأمة، ويحقق مصالحها في كل زمان ومكان. إن من المعلوم بالضرورة أن التجديد لا يراد به محتوى الخطاب ومضمونه وجوهره، فهذا من الثوابت المتعالية على المقاربات التناولية النقدية، وإنما المراد به هو تحديث هيكله من حيث الأداء والوسيلة، والآلية، وتجاوز القوالب التقليدية في عرض الدين وفهمه، ومن الضروري في هذا السياق تحديد الثوابت القطعية حتى لا تستحيل الثوابت إلى متغيرات، وحتى لا تنقلب المألوفات إلى ثوابت، أو تتولد لدينا ثوابت ليس لها أساس من أنوار المعرفة، وإشراقات السماحة، الثوابت التي لا يطالها التغيير هي أصول الدين، وكلياته العقائدية، والتعبدية ومنظومته الأخلاقية، فهذه لا يجوز التماس التحويري معها بحال.

كما يؤكد ذلك الشيخ (يوسف القرضاوي) في كتابه (خطابنا الإسلامي في عصر العولمة) حيث يرى أن: (التجديد المطلوب لا يمس الثوابت التي لا تتغير بتغير الزمان والمكان والإنسان من العقائد والعبادات وأصول الفضائل والرذائل والأحكام القطعية في ثبوتها ودلالاتها) إن كثيراً من الخطاب الموجه من فوق المنابر بحاجة ملحة إلى عملية غربلة، تفلتر (من الفلترة) ما يرد في ثناياه من مفردات تصادر موضوعيتها، وتولد لديها الافتقار الحاد إلى الرؤية الراشدة. إن الخطاب الديني الفاعل المتجدد الذي يمارس وظائفه الحيوية بكل كفاءة واقتدار هو ذلك الخطاب الذي لديه وعي متكامل ومفصل بماهية التركيبة الذهنية المستهدفة بالخطاب، فعلى سبيل المثال: الخطاب الموجه نحو فئة الشباب يأخذ في اعتباره طبيعة هذه المرحلة السنية، ومقتضياتها، ولوازمها، وآليات التفكير التي تحكمها، والتغيرات التي تعتريها، ولا يتجاهل هذا الشأن فيتعاطى مع هذه الشريحة بحسبها منفصلة عن عنصرها الشبابي. وكذلك الحال عندما يتعامل مع المجتمعات يضع باعتباره أنها ليست على مستوى واحد بل لكل مجتمع ظروفه وملابساته، ومعطياته المحددة، وواقعه الخاص الذي يفرض نمطاً معيناً من التعامل الذي قد لا يتلاءم مع غيره، وهذا ما يدفع هذا الخطاب في إجرائه الفتوائي إلى اعتماد ضرب من التقعيد العام، والقواسم المشتركة، مع نأيه عن الأحادية الحدية، بحدود المستطاع. أيضاً هذا الخطاب يتوسل التنويع في آلياته، انطلاقاً من إيمانه بتلون المكونات الاجتماعية، وتعدد تعبيراتها، وأن ما يلائم بعضها قد لا يتلاءم والبعض الآخر، لأن ثمة تبايناً في الرؤى نتيجة للتباين التراتبي في سلم الأولويات، ولتباين المبادئ الثقافية التي ينظر من خلالها إلى الأشياء، ولذا فهو يعي أن استدعاء رواية صحيحة السند ليس إجراء كافياً لحسم موقف فكري ما مع جملة من الذهنيات النخبوية التي قد لا تعرف بدرجة كافية بهذا المعيار الروائي، بل قد ترى أنه لا يستمد شرعيته إلا في مناخ فكري محدد لا ينبغي تجاوزه إلى غيره بحال، هذا الخطاب العصري المتجدد هو المساهم الأول في تذويب جدار الانغلاق الفكري، عبر استيعابه للتنوع في إطار الوحدة، فهو يعمل على تشييد الأرضية المشتركة التي تتقاسمها الخطوط العقدية العريضة، والمصالح العليا، والمصير المشترك، ومعطيات التراث والتاريخ، ولا يعني هذا عدم مباشرة النقد والترشيد والتقويم، وإنما يعني عدم تقزيم المباين ونفيه، كما هو الشأن في كثير من الخطابات التي تسعى ما وسعها الجهد إلى قولبة المجتمعات كافة وفق رؤية أحادية لا تؤمن بالسياق التعددي، بل ولا تكتفي بالاستنكاف من الاعتراف بالمغاير بل تعمل لاهثة على استئصال جذوره الوجودية أو قسره على تمثل متبنيات الأنا!

ثمة احتكار يمارس باسم الدين هنا، تماهٍ مزجي - يدّعى صراحة أو صمناً - بين الإسلام كدين وبين الفاعل الإسلامي، فيبيت الإسلام هو إياه، ويغدو إياه هو، وجود أحدهما شرط لوجود الآخر، فلا حضور لأحدهما دون الآخر، إنهما وجهان لعملة واحدة، التمايز متعذر، القدسية تضرب بجذورها في العمق، الأنا هنا ممثلنة (أي جعلت مثالاً) ولذا فهي الممثلة للدين، الناطق الرسمي باسمه، بحوزتها -هي فقط - مفاتيح الحقيقة المحرمة على غيرها!

إن لم يصرح بذلك لسان المقال، فلسان الحال يقف له بالمرصاد، (لإظهار) ما يتعمد (إضماره).

إنَّ الخطاب الفاعل المؤثر يعي مقتضيات العولمة، والتقارب العالمي، ولذا فهو يحيي قيم التواصل مع العالم المفتوح لتحقيق النهضة واستعادة الدور الحضاري، إنه منفتح على الآخر، يتواصل معه، يدرك أن ثمة مبادئ إنسانية شاملة، ومشتركاً كلياً عاماً يجمعهما، بخلاف كثير من نماذج الخطاب الديني التي تقع في خطأ بالغ حينما تقيم حاجزاً سيكولوجياً بين المسلمين وما عداهم، إن هذا ليس إلا محاصرة للذات المسلمة، وحصراً لها داخل رقعة مغلقة تحول دون تواصلها مع غيرها، وحكم عليها بأن تعيش في عزلة شعورية، كإفراز طبيعي لهذه المفاصلة الحدية!

الخطاب الحديث المتجدد لا يفرط في جانب الترهيب على حساب الترغيب أو العكس، وإنما يعتمد هذا وذاك بتوازن واعتدال، ولكل حالة لبوسها، مع أن تقديم المنحى الترغيبي هو الأصل بحسبه هو المدخل الأساسي للوجدان الجمعي، وذلك لما يشيعه داخل الذوات من الطمأنينة والرضا. الخطاب العامل في الإيجاب هو ذلك الخطاب الذي كما أنه يدعو إلى إثراء المنحى الروحاني، فهو أيضاً لا يتجافى عن الجانب المادي، بل يرسخ في الأذهان حب الحياة لما يترتب عليها من بناء الأرض، واستغلال ثرواتها لمصلحة الجنس البشري، وبناء المجتمعات الإنسانية، إن من الجهل الفادح أن يبدأ الفرد تدينه بالعزلة، والانطواء، والنأي عن المجتمع المسلم، ويقيم الهوة بينه وبين أفراده، فيظل غريباً عن مسيرة الإنسانية المعاصرة! هنا تبيت العلاقة مع الحياة ذات طابع تخاصمي، فثمة معركة تدار رحاها من قبل الوهم المسيطر على مساحات رحبة من هذا الوعي. إن من أبرز خصائص هذا الخطاب المؤثر أنه ينبعث من وعي واع لحقائق الإسلام الخالدة، لينطلق على ضوئها للانفتاح على مستجدات الراهن، معتمداً على إشاعة فقه الأولويات، ومعرفة أهون الشرين لدفع أشدهما، ومكرساً لقيم التضامن والتسامح، والوسطية، نابذاً لكل أشكال الغلو، والتطرف، والتشدد، والإرهاب، الذي يجد في حالة التزمت أرضاً خصبة لترويج دعواه. هذا الخطاب يجمع بين الأصالة والمعاصرة فهو نتيجة لعدم ركونه إلى الدعة الذهنية قادر على وضع إجابات مقنعة لكل ما يجد في راهنه من تساؤلات حول النظم الحياتية، أو الظواهر الجديدة، كطفل الأنابيب، والاستنساخ، ونقل أعضاء الجسد من شخص إلى آخر، والمعاملات البنكية ونحوها. إن التجديد سلوك اجتهادي يتغيا مقاربة مرامي النص كما يتوخاها الشارع، وليس محاولة انقلابية على المضمون النصي الثابت، أو إلغاؤه، كما هو الحاصل في حركات التجديد الغربية في بداية القرن الخامس عشر عندما نشأ صراع حاد بين استراتيجيات الإصلاح الديني الذي اعتمدته (البروتستانتية) بقيادة القس الألماني (مارتن لوثر) ومن جاء بعده مثل (جان كالفن) معتمدين على الفصل بين الفرد والمؤسسة الدينية، بل والخطاب الديني الرسمي (اللاهوت الكنسي) وإعادة صياغة العلاقة بين الفرد والنص التأسيسي (الكتاب المقدس) على نحو متحرر من كل قيد. إن الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني كثيراً ما تجابه بممانعة جماهيرية ترى أن هذه الدعوة محاطة بالكثير من علامات الاستفهام، وأنها مدانة، غير بريئة وأنها لا تصدر عن مصداقية، وحسن نية، ورغبة جادة في تطوير الرؤية الإسلامية بقدر ما هي تقاطع مع السياق الغربي الرامي إلى تفكيك كل الثقافات المناوئة لمنظومته الثقافية، ويبدو أن هذه الرؤية الجماهيرية تعززت بفعل وجود بعض المشاريع القرائية، التي انبعثت في رؤيتها التجديدية من الأسس المعيارية لدى الآخر، ولذا بدت قافزة على الضوابط المعرفية، متجافية عن محددات التناول الموضوعي، ومن يقرأ ما كتبه (لؤي صافي) في (تجديد الخطاب بإعمال العقل) و(هشام جعيط) في (إشكالية العلاقة بين الإسلام والحداثة) و(أركون) في (نقد العقل الإسلامي) و(أبو يعرب المرزوقي) في (النهضة المستحيلة) و(طه عبد الرحمن) في (فلسفة الدين) و(عبد المجيد الصغير) في (المعرفة والسلطة وإشكالية التأسيس الأصولي) و(عبد الجواد ياسين) في (نقد العقل الفقهي السلفي) فسيلاحظ أن مصطلح التجديد وظف على نحو يجرده من محتواه الدلالي، وسيجد أن ثمة وعياً مستلباً ممعناً في الانقياد الإمعي، لا يملك القدرة على الاستقلال، حتى وإن بدا له خلاف ذلك، و(ابن خلدون) في نظريته الذائعة (تقليد الغالب للمغلوب) يؤكد أن (المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره، وزيِّه، وسائر أحواله، وعوائده والسبب في ذلك أن النفس أبداً تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت إليه) أنظر (المقدمة) ص 2.

إن التجديد منهج له قوانينه وضوابطه، والمجدد المؤهل لذلك هو الذي يتوافر على وعي واع للنص، مدرك لمراميه الغائية، ولديه إحاطة شاملة بأبعاد الواقع محل الاجتهاد، وهذا هو ما يتعذر على الوعي المستلب تحقيقه، لأنه مصادر، مفرغ من محتواه الاستقلالي، التحكم فيه يتم من خارجه. أن يكون الوعي مستلباً، هو أن ثمة شعوراً دونياً يسكن مخيلته، يلون تصوراته للواقع المعاش، كونه مستلباً، هو أنه مطواع، منقاد، مأسور بجبروت الآخر، هذا الآخر، هو المعني به، والمحدد لمصيره. الوعي هنا يرتدي زياً قد يجمله، لكنه لا يواري واقعه، لأنه شفاف أكثر مما يجب.

abdallah_mhd@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد