Al Jazirah NewsPaper Tuesday  19/06/2007 G Issue 12682
ورحل عاشق التاريخ
الثلاثاء 04 جمادىالآخرة 1428   العدد  12682
فقد الرجال الكبار
د. عبدالله بن إبراهيم المنيف

مات الوالد الشيخ عبدالعزيز بن عبدالمحسن التويجري، والموت حق وقدر ونهاية كل حي، وقد كتبه الله على جميع خلقه، فلكل يومه ولكل ساعته. يقول الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}، ويقول سبحانه: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً}، ويقول عزَّ وجلَّ: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ}.

وتجربة الموت لا يمكن أن يتقيها أحد، والمنايا لا تبقي على أحد ولكن موت الكبار يخلف حزناً كبيراً، فبقدر الإنسان وقيمته يكون وقع فقدانه أشد، ومصيبة الموت فيها ما ليس في غيرها، فهو المصيبة التي تتضاءل أمامها المصائب، يقول الحكماء: أعظم المصائب كلها انقطاع الرجاء، والميت لا ترجى عودته ولهذا تكبر المصيبة في الميت إذا كان عزيزاً.

كل هذا تداعى في النفس وأكثر منه عندما بلغني خبر وفاة معالي الوالد الشيخ عبدالعزيز بن عبدالمحسن التويجري يرحمه الله وهو ملء العين والقلب وكنت أتمثل قول أبو الطيب المتنبي:

طوى الجزيرة حتى جاءني خبر

فزعت فيه بآمالي إلى الكذب

فلما لم يدع لي صدقه أملا

شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي

وإذا كان هذا ليس مقام تعداد المآثر والمناقب وبالخصوص قرأنا أعمدة وصفحات الصحف تمتلي بالمقالات والتحقيقات التي تتحدث عن الشيخ الراحل والصفات التي نادراً تجتمع في إنسان حيث كان مدرسة في الحكمة والحنكة والإنسانية وداعية للمكارم والأخلاق فهو الذي قوم حضارة اليوم على أنها لا تقاس برقي العلوم، بل هي الرقي الخلقي فهو القائل: (ليس متحضراً من هبط على القمر ولم يهبط داخل نفسه ليقهر شرورها واعتداءها ونزوعها إلى الفساد) ويكاد يجمع كل من كتب عن الراحل أنه كان شخصية لافتة في العطاء الإداري والاجتماعي والفكري والأدبي والإنساني.

ومعذور هو القلم حين تتعثر خطاه، ومعذورة الكلمات عندما تقف مشدوهة أمام رجل يجمع جميل السجايا والصفات بين جنبيه ويقف المرء منبهراً أمام نماذج من الرجال، وشيخنا كان من أولئك الرجال بصفاته وقدراته وإنجازاته، وكما أن الرجال مواقف فقد عرف عنه بأنه رجل مواقف. والفقيد العزيز رجل رحل عنا تاركاً تاريخاً زاخراً من الأفعال والمواقف الصادقة، لقد كان أقل القليل من هذه السجايا: لقد كان جواداً بكرم خلقه، وإذا كانت صفات التودد إلى الناس والأدب الجم وإنكار الذات تنطبق على البعض فإن والدنا الشيخ قد أخذ قسطاً وافراً كبيراً منها. ولقد كانت أحاديثه مع الجميع تحتوي دائماً على إشعاعات وضّاءة تبيض مساحات معتمة في دنيا محدثيه وإن ملامحه المضيئة الصادقة تجذبك إليه.

وإذ نودع أبو عبدالمحسن فإنما نودع رجلاً ماجداً وطرازاً نادراً من الرجال، كان مخلصاً لدينه ومليكه ووطنه غاية الإخلاص، لكن هل يمكن أن يموت صاحب الذكر الطيب العطر؟ وهل يموت من كتب (لسراة الليل هتف الصباح)، و(عند الصباح حمد القوم السري) هذان المؤلفان اللذان يعدان من أفضل ما كتب عن الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه؟

ولقد وفقني الله بالعمل بجانبه سنوات قليلة في عمر الزمن قبل مغادرتي إلى أمريكا لدراسة درجة الدكتوراه وأكرمني بالتزود من مورده العذب، فقد غمرني خلالها بفكره كما غمر غيري حتى صار للكثيرين بمثابة الموجه والوالد والأخ ساعياً في كل بر قريباً من كل خير.

ولعل الشافعي كان يصفه (ولم ينصفه!) حين قال:

وأفضل الناس من بين الورى رجل

تقضى على يده للناس حاجات

لا تمنعن يد المعروف من أحد

ما دمت مقتدراً فالسعد تارات

واشكر فضائل صنع الله إذ جعلت

إليك لا لك عند الناس حاجات

قد مات قوم وما ماتت مكارمهم

وعاش قوم وهم في الناس أموات

المعري نظمها قولاً والفقيد أبدعها قولاً وفعلاً:

ولو أني حبيت الخلد فرداً

لما أحببت بالخلد انفرادا

فلا هطلت علي ولا بأرضي

سحائب ليس تنتظم البلاد

ولا زلت أدين له وقوفه مسانداً وداعماً في مسيرتي العلمية والعملية وبالخصوص في موضوع رسالة الدكتوراه التي عُدّت الأولى باسم خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز حفظه الله، إذ ركزت على السياسة الداخلية والخارجية لخادم الحرمين الشريفين وتمحورت الرسالة حول الجهود العظيمة التي يقوم بها ويبذلها الملك عبدالله بن عبدالعزيز في دعم كل جهد يحقق الخير والازدهار والاستقرار والأمن والسلام للمنطقة ولجميع الأمم. وتصدر قريباً في كتاب بلغات عالمية متعددة، وذلك نظراً لأهميتها الموضوعية والظرفية والعلمية والفكرية.

ولست هنا أعزي نفسي فقط في هذا المصاب الجلل، وحق لها أن تعزى، وإنما أعزي به الجميع خاصاً بالعزاء أبناء الفقيد وبناته، فالحزن والألم مشروع مع الحدث فيما بين الحياة والموت، ولكن لا حول ولا قوة إلا بالله، و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}. رحم الله الفقيد، رحمة واسعة وأفسح له في جنات النعيم. وتقبله عنده بقبول حسن مع الأنبياء والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.

الحرس الوطني


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد