لماذا استخدام اليد اليسرى؟
لا نستطيع أن ننكر بأي حالٍ من الأحوال أن الاعتماد على يد معينة يلعب دوراً كبيراً في النمو الاجتماعي للفرد، فهناك أكثر من دليل يؤكد تأثير الاعتماد على يد بعينها على هذا النمو، وفي التحليلات العلمية الأخيرة تم التوصل إلى أنه عندما يقوم الفرد بتكييف وضع جسمه مع القلم والورقة التي يتم الكتابة عليها، سيعتمد على الميل الذي يوضح بطريقة صحيحة قدرته على التعبير عن نفسه من الناحية العلمية والاجتماعية. ومن هنا جاء هذا البحث في حلقته الثانية والأخيرة ليركز أكثر على الأسباب التي تجعل بعض الأفراد يفضلون استخدام اليد اليسرى، ويركز أيضاً على المشكلات الدراسية التي يتعرض لها التلاميذ الذين يستخدمون اليد اليسرى في الكتابة.
وأما الأسباب التي تعود لتفضيل زمرة الناس تأدية وظائفها بواسطة يدها اليسرى فهي أسباب غير معروفة، وقد وجد العلماء والباحثون الأكاديميون أن الأشخاص الذين يستعملون اليد اليسرى، وكذلك الأشخاص الذين يستعملون اليدين كلتيهما بالدرجة نفسها لديهم حزمة أمتن من الألياف التي تربط بين النصفين الأيسر والأيمن من الدماغ، ويظهر الأشخاص الذين يستعملون اليد اليسرى مجالاً أوسع من السمات مقارنة بأقرانهم الذين يستعملون اليد اليسرى، ومن ناحية أخرى يجادل علماء آخرون في أن سيادة نصف الدماغ الأيمن أو الأيسر لا يمتد تأثيرها إلى ظاهرة استعمال اليد اليمنى أو اليسرى، ويؤكد هؤلاء العلماء أن قدرات الأشخاص الذين يستعملون اليد اليسرى متنوعة بقدر تنوع القدرات نفسها الموجودة لدى أقرانهم الذين يستعملون اليد اليمنى، ويضيف هؤلاء أن القدرات الأكاديمية للأشخاص إنما ترتبط بعوامل أخرى كالذكاء والموهبة والخلفية العلمية أكثر من ارتباطها بظاهرة الميل لاستعمال إحدى اليدين.
وفي الجانب الآخر قام عالم النفس الأمريكي صامويل أورتون وهو طبيب في الوقت نفسه، بتفسير للصعوبات التي يشعر بها المصابون بصعوبات الفهم والقراءة، وذلك ضمن نظرية أُطلق عليها (السيطرة المخية الطبيعية أو السوية) أي السيطرة الطبيعية أو العادية لنصف الكرة المخية اليسرى على مراقبة الكلام، لقد كانت هذه السيطرة متغيرة بتدخل من قِبل نصف الكرة المخية اليمنى، وكان التزاحم بين نصفي الكرة المخيتين يسبب تغيراً عميقاً في المخ وأعماله ليس فقط في القدرة على مراقبة الكلام بل وفي قدرة اليمنى على الاحتفاظ بالسيادة، لذا فقد كان بسبب ذلك أن الأشخاص المصابين بعُسر القراءة والفهم أو أغلبهم على الأقل معسرون (أي يستعملون اليد اليسرى بدلاً من اليمنى).
وتقول الباحثة زينب الحكيم في بحث لها عن اللجلجة في الكلام أسبابها وعلاجها (ومما علمته وهو غريب في بابه من أحد أصدقائي الأطباء وأنا أتباحث معه في الناحية الطبية في استخدام اليد اليسرى أنه قال: (يوجد نوع من المرض اسمه (التفاف بروكا) إذا أصاب نصف الدماغ الأيسر وكان صاحبه يستخدم اليد اليمنى حرمه من النطق، أما إذا كان يستخدم اليد اليسرى فيستمر على النطق، ولكن إذا أصاب هذا المرض النصف الأيمن من الدماغ وكان صاحبه يستخدم اليسرى فيخرسه ويبقى مستخدم اليمنى متكلماً.
وتتبدى غرابة هذا التقرير الطبي عندما نذكر أن علم التشريح أثبت أن المركز الأصلي لأعصاب اليدين في الدماغ إنما يكون في الناحية العكسية لكليهما، وأنه متصل ومشتبك بمركز أعصاب اللسان والشفتين وقد يكون من المسلي للقارئ أن أوجه نظره ولا سيما إذا كان ممن يهتمون بعلم الكف، انه من أهم المسائل التي يعتمد عليها المختصون في هذا العلم والتأليف فيه أن يثبتوا علاقة اليدين بالدماغ، ليقنعوا القارئ أو من تقرأ يده أن ما يفسر من خطوط على يديه صحيح لأنها الآثار التي تركتها رسالات المخ إلى اليدين، ويفسرون خطوط اليمنى بغير ما يفسرون به خطوط اليسرى).
هذا وقد عمد العلماء إلى إنماء استعمال يد خاصة في علاج التلجلج في الكلام، ولما كان النصف الأقوى والأنشط من المخ هو أشدهما إحساساً بكل الحالات، فإن كل ما يؤثر فيه يؤثر في الكلام، ومن الضروري الإقدام على محاولة خاصة صادقة مؤثرة في مخ المصاب بالتلجلج في الكلام على أن يكون في حالة صحية جيدة. فقاعدة إعطاء ما لقيصر لقيصر قاعدة مأمونة في عواقبها، فرجوع كلي لاستعمال إحدى اليدين وفق طبيعتها الأولى يؤدي إلى سيطرة طبيعية في الجهة المضادة من المخ، وهي التي خلقت بفطرتها متكاملة متناسبة ممتازة، وهذه الطريقة ملائمة جداً للمتلجلج في حديثه من ذوي الأعمار الكبرى الذين كانوا شماليين وعلموا استخدام يدهم اليمنى قسراً.
مشكلات العسر المدرسية
وتشير د. إيفلين كيلي في كتابها الموسوم (التلاميذ الذين يستعملون اليد اليسرى أقلية منسية) إلى المشكلات المدرسية التي يواجهها الأشخاص الذين يستعملون اليد اليسرى فتقول: في الكثير من المدارس يضرب الأطفال على مفاصل أصابعهم إذا ضبطوا وهم يستخدمون اليد اليسرى، وقد أشار أحد الذين شاركوا في دراسة أجريتها أنه كان يستخدم اليد اليمنى عندما ينظر إليه المعلم، ويبدل إلى اليسرى عندما يغفل عنه، ولم يستطع أبداً أن يتعلم الكتابة باليمنى بشكل جيد. وتصدر حالياً مجلة تسمى مجلة الأشخاص الذين يستعملون اليد اليسرى (Lefe-hander Magazine) وهي مجلة تقرأ بطريقة عكسية أي من اليمين إلى اليسار، وتنشر تقريراً خاصاً يتضمن روايات عن الصعوبات التي يواجهها الأشخاص الذين يكتبون باليد اليسرى، في عالم تؤمن غالبيته الساحقة باستعمال اليد اليمنى، وسيندهش الناس عند قراءة هذه الروايات عن المشكلات الجمة التي تعاني منها هذه الشريحة البشرية، ومن هذه المشكلات في قاعة الدرس فقط ما يلي:
- تعمل مبراة قلم الرصاص المثبتة في الفصل في الاتجاه المعاكس بالنسبة إلى التلاميذ الذين يستعملون اليد اليسرى.
- تنغرس الحلقات الحديدية والزنبركات الموجودة في دفاتر الملاحظات في رسغ التلميذ الذي يستعمل اليد اليسرى عندما يفتحها.
- عندما يكتب التلميذ بيده اليسرى فإنه أحياناً ينشر بقعة من الحبر بحركة يده اليسرى على الورقة، مما يؤدي إلى اتساخها.
- غرف الدراسة مزودة بمقاعد للدراسة بحيث يكون السطح الذي يكتب عليه التلميذ مريحاً للذين يستعملون اليمنى، أما مقاعد الدراسة التي يكتب عليها التلاميذ الذين يستعملون اليد اليسرى فهي قليلة.
- المقصات مصممة بطريقة تخدم الذين يكتبون باليد اليمنى.
- المساطر مصممة بطريقة ذكية تخدم أهداف الذين يكتبون باليد اليمنى.
وهذه الأمثلة على سبيل التمثيل والإشارة لا الحصر.
وتوجه د. إيفلين كيلي نصيحة للآباء والمعلمين على حد سواء وهو أن يبذلوا قصارى جهدهم لإدراك المشكلات التي يواجهها الأشخاص الذين يستعملون اليد اليسرى، ولابد أن يُدرك الجميع أن مستعملي اليد اليسرى يعيشون في بيئة متحيزة بشكل قوي للأشخاص الذين يستعملون اليد اليمنى، وقد يساعد ذكر بعض النماذج لرجال ناجحين يستعملون اليد اليسرى على تسريع عملية التقدير الذاتي الإيجابي لفئة مستعملي هذه اليد عن طريق إبراز فكرة أن كل شخص فريد في ذاته، وأن استعمال اليد اليسرى سمة موجودة في كثيرٍ من الأشخاص الموهوبين، فعلى سبيل المثال، يستخدم ثلاثة من آخر أربعة رؤساء أمريكيين اليد اليسرى وهم: جيرالد فورد، وجورج بوش، وبيل كلينتون، أما رونالد ريجان فقد كان يميل إلى استعمال اليد اليسرى منذ ولادته، ولكن أُجبر على استعمال اليمنى فيما بعد، ومن المشهورين الذين كانوا يستعملون اليد اليسرى شارلمان، والملكة فيكتوريا، وبن فرانكي، وروبرت مورس، ولويس كارول، وهنري فورد، ومن المشهورين حالياً الذين يستعملون اليد اليسرى الأمير تشارلز وغيره.
مقترحات
ويشجع ليبون في مقال له في مجلة (العلاج الأكاديمي) المعلمين في التعليم الخاص على توفير بيئة تعليمية مناسبة للتلاميذ الذين يستعملون اليد اليسرى في مدارسهم، وقد عرض ليبون بعض الاقتراحات في هذا المجال ومنها:
1- الانتباه إلى الإنارة في قاعة الدرس، فإذا كان الضوء يأتي من نافذة على يسار التلميذ الذي يستعمل يده اليسرى فإن كتابته ستكون في الظل، لذلك يجب عكس وضع طاولة الجلوس بحيث يأتي الضوء من جهة اليمين.
2- يجب على المعلمين أن يضعوا مبراة تعمل في الاتجاه المعاكس بحيث تريح التلاميذ الذين يستعملون اليد اليسرى، أو تثبت مبراة قلم رصاص كهربائية إن أمكن.
3- يفضل عندما يوضح المعلم الذي يستعمل اليد اليمنى نشاطاً معيناً كقص شكل من الورق مثلاً أن يقف قريباً أما الطالب الذي يستعمل اليد اليسرى، حتى يتمكن الأخير من قص الشكل بطريقة عكسية.
4- يجب على المعلمين أن يسعوا إلى توفير الأدوات التي تساعد التلاميذ الذين يستعملون اليد اليسرى كالمقصات والأقلام التي يجف حبرها بسرعة وغيرها، كما يجب على المعلمين أن يشجعوا الآباء على شراء الأدوات التي تريح أبناءهم.
وأخيراً..
إن الإنسان مهما مرّن اليد التي لم تعد للكتابة خلقياً تنتابه الحيرة ويصيبه التردد في المواقف الدقيقة كالارتباك في تقديم أي اليدين أو تأخيرها إذا اعترضه حيوان مفترس أو لص وأراد الدفاع عن نفسه مثلاً، كل هذا متوقع الحدوث عوداً إلى الحالة الطبيعية الكامنة مهما تنوسيت وأهملت، وقد قالت العرب قديماً: ليس الفقه بالتفقه ولا الفصاحة بالتفصح، لأنه لا يزيد متزيد في كلامه إلا لنقص يجده في نفسه، ومما اتفق عليه العرب والعجم.(الطبع أملك)
حنان بنت عبدالعزيز آل سيف
عنوان المراسلة: ص ب 54753 الرياض 11524 فاكس 4656444