خلق الله الإنسان في أحسن تقويم ومنحه العقل والبصيرة ليعرف كيف يسلك في حياته وكيف يتعامل مع الناس، وقد أرسل له الرسل لهدايته إلى الصراط المستقيم الذي يوصله إلى سعادته في الدنيا والآخرة، وكان آخر الرسل وخاتمها النبي العربي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم الذي لم يترك شاردة ولا واردة إلا وبينها خير بيان.
وانتشر الإسلام دين الهداية والسماحة - في مشارق الأرض ومغاربها وساد المجتمعات مجموعة من المبادئ السامية التي جعلت الناس يدخلون في دين الله زرافات ووحدانا، وكلهم يقولون لنا في رسول الله أسوة حسنة، ولكن من سوء طالع المسلمين في هذه الآونة أن هناك بعض الأفراد قد فهموا الإسلام خطأ فراحوا يتصرفون تصرفات بعيدة كل البعد عن مقاصد الشرع والسمات الأصيلة التي تميز بها الإسلام.
هؤلاء الأفراد الذين شكلوا جماعات تحمل أفكاراً هدامة، ابتعدوا فيها عن مفاهيم الإسلام وتعاليمه بل وعن سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي دعا إلى دين الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة.
هذه الجماعات، وهي قلة والحمد لله، أطلقت تعابير تتمحور كلها حول تكفير كل من لا يؤمن بها أو لا يسير على خط سيرها الضال والمضلل، فشكلت خلايا نائمة تعيث بالفساد فتقتل وتدمر بحجة أن كل من هو بغير صفهم فهو كافر، عجباً وألف عجب.. من أين أتوا بهذه الفتاوى؟ اعتمدوا على البدع التي نهانا الله ورسوله عنها وجعلوا من تلك البدع كلمة حق يراد بها باطل.
إذا عدنا إلى السيرة النبوية الشريفة نجد أن الرسول الكريم لم يكفر أبا لهب وأبا جهل على الرغم من أنهما يعتبران من الكافرين، وكل ما كان يفعله معهما ومع غيرهما من الكفار هو أن يدعوهم لعبادة واحد أحد بالكلمة الطيبة والخلق الحسن.
خلال دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم السرية إلى الإسلام لم يفجر مكة ولم يقتل الكافرين، والأكثر من ذلك أنه صبر على أذاهم بروح طيبة ونفس كريمة وبسماحة سجلها له التاريخ بأحرف من نور - ذكرها أعداؤه وأصدقاؤه على السواء، وعندما فتح مكة نسي ما فعله به أهل مكة من إساءة للدين والرسول وللأمة وقال لهم قولته المشهورة عندما سألهم: ماذا تظنون أني فاعل بكم؟ فقالوا له (أخ كريم وابن أخ كريم) فقال لهم:
(اذهبوا فأنتم الطلقاء)، حقاً هذه معاملة أخلاقية لا يضاهيها أي تصرف. أراد الرسول بهذا أن يعلم المسلمين عفوهم عند المقدرة لأن ذلك أقرب إلى التقوى التي أمرنا الله بها.
وبهذا الخصوص، يمكننا أن نقول إن آراء البشر قد تتباين وتختلف، وقد أثبت التاريخ الإسلامي نشوء مدارس فقهية مختلفة ولكنها جميعها التزمت الحوار والحوار الهادئ المبني على المفاهيم الفقهية الأصيلة دون أن تصل إلى حد تكفير بعضها البعض، ولم يلجأ منتسبو تلك المدارس الفقهية إلى القتل والتقتيل في عباد الله، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، حيث نجد أن تلك المدارس قد أعملت العقل والمنطق فأعطت الدين حقه دون أن تغفل حق الإنسان حتى ولو كان لا يدين بالإسلام واعتبرت أولئك الناس الذين آمنوا باليهودية والمسيحية أناساً لهم حقوقهم على المسلمين تلك الحقوق التي منحها الإسلام إلى أهل الذمة، وكلنا نعرف أن وصية القادة المسلمين جميعهم لجيوشهم كانت تتضمن عدم المساس بالمعابد والكنائس ودور العبادة وأصحابها، بل والدفاع عن تلك الأماكن ورجال الدين فيها. هذه هي العقيدة الإسلامية الحقة. فهي خالية من التكفير أو الاعتداء على الآخرين مهما كانت ديانتهم وعقيدتهم، وهم يرفضون كل الرفض أن يقتل المسلمون المسلمين ويفضلون دائماً أن ينحصر تعاملهم مع الآخرين في إطار معرفي، وإذا أردنا أن نحكِّم الإسلام في أعمال هذه الجماعات التكفيرية ونشاطاتها نرى أن الإسلام يعتبر أن ذهنية تكفير هذه الجماعات غير مقبولة وغير معقولة، وأن إساءتها للإسلام غير مبررة وليس لها أي مستند فقهي، وعليها أن تقوم بمراجعة سليمة لكل سلوكياتها وأن تكون تلك المراجعة مبنية على ما أتى في القرآن والسنة، إضافة إلى مضمون الاجتهاد والقياس الذي أجمع عليه علماء وفقهاء المسلمين الأفاضل عبر القرون.
نعم عليهم العودة إلى منابع الإسلام الخيرة وأصول العقيدة المعطاء، نعم لا بد لهم من أن يتخلوا عن بدعهم التي عشعشت في عقولهم وعن أفكار التكفير التي ليس لها سند أو مرجع سوى الأوهام التي ضللهم بها الشيطان - شيطان الإنس والجن. ونحن إذا أجرينا مراجعة فقهية لوجدنا أن جميع هذه المراجع الفقهية لا تقبل هذه الطروحات المشوهة والمغلوطة، هذه الطروحات التي تتحدث عن الجهاد وهي تتناقض كل التناقض مع مفهوم الجهاد الذي سمح به الإسلام وتبناه. وان الجهاد لا يُعبَّر عنه بالعنف وقتل الأبرياء - والنساء والشيوخ والأطفال. لا يمكن للجهاد أن يكون تدميراً لمقدرات الناس وأرزاقهم وأملاكهم، لا يسمح الجهاد لكم أيتها الجماعات التكفيرية بأن تعيثوا بالبلاد والعباد فسادا وأن تحملوا الدين الإسلامي وزر أعمالكم وأن تقولوا على لسان الإسلام ما هو براء منه.
لقد قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوما) وبهذا المقام في المجتمع أفراداً وجماعات أن ننبه بأن هؤلاء الذين اتبعوا طريق الغلو والتطرف لا يسيرون على طريق الخير والهدى وانهم يسيئون إلى دينهم وأمتهم ووطنهم، وفي الوقت ذاته علينا أن نحرص كل الحرص على عدم السماح لمثل هذه الجماعات في النمو بل وان نطهر مجتمعنا منهم وأن نقوم بتوجيه شبابنا إلى الابتعاد عن هذه الفئات بكافة الطرق حتى لا يقعوا ضحية بين يدي هذه الفئات العنيفة، منبهين بنفس الوقت إلى أن الدين الإسلامي هو دين وسطي لا عنفي يحرّم هذه الممارسات العنيفة.