الموت حق، والصبر على وطأة الصدمة احتساب. لقد صُدمت حقاً عند تلقي نبأ وفاة الزميل والصديق علي عمر عسيري من خلال تلقي رسالة هاتفية قصيرة تقول قدم إلى - رحمة الله - الشاعر علي عمر عسيري قبل عصر هذا اليوم بعد ساعات من دخوله المستشفى. ولم أتمكن من استذكار اسم صاحب رقم الهاتف الذي نقل إليّ هذا الخبر الصدمة.
وهاتفت صاحب الرقم فعرفت من نغمة صوته الحزين أنه الصديق والزميل ورفيق درب الفقيد الشاعر أنه أحمد التيهاني، فسألته ما الخبر يا أحمد؟ وما سبب الوفاة؛ فقد تبادر إلى ذهني أن الفقيد تعرض لحادث سيارة - وما أكثر الحوادث المؤدية للموت، وكم أحزنتنا أحداثها، وأدمت من كثرتها قلوب الكثير - فأكد لي سبب الوفاة هو ما ذكرت لك في الرسالة حالة مرضية مفاجئة، ووفاة عاجلة. نعم إنه القدر، وما شاء ربي فعل.
كنت حين تلقي الخبر منهمكاً في إعداد عمل أعده للمشاركة في موسم عسير السياحي لهذا العام، وكنت أتذكر أسماء من قد يكون حاضراً، أو مشاركاً، أو زائراً للمناسبة التي أعدها، وكان اسم علي آل عمر واحداً من تلك الأسماء فيا للصدفة، ويا لهول الصدمة.
توقفت كل رغبة لدي في إنجاز ما عزمت على إنجازه في تلك الليلة وأشغلت التفكير - بشكل مكثف - في استعادة شريط طويل من الذكريات تعود إلى الوهلة الأولى التي تعرفت فيها على الشاعر الفقيد، وكان ذلك في ليلة جميلة، بل وتاريخية من ليالي مدينة أبها وهي المدينة التي أحبها الشاعر الفقيد وقال فيها أجمل قصائده، وجمع أجمل ما قيل فيها من قصائد في كتاب يُعد أجمل ما كُتب. تلك الليلة كانت ليلة افتتاح نادي أبها الأدبي قبل حوالي 28 سنة، وقد احتفينا بتلك المناسبة احتفاءً كبيراً أثناء مراسم الافتتاح الرسمية وبعدها التي امتدت ساعات في ليلة أبهاوية جميلة كنت أقرأ في ملامح الفقيد أنه ينظم في أبها ألف قصيدة وقصيدة.
كان يحب أبها حب شاعر متيم؛ كان يرى فيها الجمال، والسحاب، والضباب والمطر، ورائحة الشيح والكادي والريحان.
أما أنا فكنت أحبها حب مؤرخ أحب فيها صلابة الصمود والشموخ والتحدي في وجه كل الغزاة. كنت حينذاك حديث عهد بحصولي على الماجستير في تاريخ عسير الحديث، وكانت أبها تحتل من ذلك التاريخ الهامة، وتمثل أسطورة تاريخية في صمودها وشموخها، وكان الفقيد الشاعر لا يرى من المدينة إلا الجمال، فكنت أحكي له بطولاتها وقصصا رائعة من صمودها، وألوانا شتى من المعاناة التي تعرضت لها، فكان يقول زدني علماً بحكايات حبيبتي أبها فما كان منه إلا أن يترجم تلك الحكايات في قصائد ما انفك ينظمها غزلا وولهاً، وربما لو عرفوا آخر ما كان يجول في خلده قبل اللحظات الأخيرة من فراقه هذه الدنيا، وفراقنا له ربما كان بداية مشروع قصيدة يودع فيها محبوبته أبها.
كنت بحكم سفري لإكمال دراسة مرحلة الدكتوراه في الخارج أعود إلى المنطقة مرة واحدة في السنة، وأحياناً مرتين.
وكنت بعد اليوم الأول من سلامي على أهلي في قريتي أنتظر لحظة الذهاب إلى أبها، وكان النادي الأدبي محطة رحالي، حيث كان الفقيد الشاعر يحتل منصب سكرتارية النادي فأمكث معه في النادي من الوقت ما يمكنني من الالتقاء والسلام على الإخوة والزملاء أعضاء النادي ورواده، ثم ننطلق الفقيد وأنا ومعنا فريق نادي عشاق أبها إلى قلب أبها القديمة حيث نتعشى في أحد مطاعمها المتواضعة؛ وكان البعض يلومني على البساطة في اختيار المكان البسيط. أما أنا القادم من كمبريدج ولندن فكنت أحب أن أكون قريباً من رائحة قاع المدينة، ونسهر مع سماء وقمر ونجوم أبها الجميلة. كل يسأل صاحبه، هم يسألون ما جديد المكتشفات في مجال تاريخ محبوبتنا أبها، وأسأله هو وصحبه من الشعراء ما آخر ما فجرته قرائحكم الشعرية، خاصة في أبها، ونستمر على هذا الحال معظم الليالي التي آتي فيها لزيارة أبها وكان الشاعر الفقيد دائماً واسطة عقد الأحبة.
كنت قبل فترة مدعواً لإلقاء محاضرة في نادي أبها، وكان الشاعر الفقيد قد ترك عضويته، وكانت المحاضرة عن جانب من جوانب تاريخ أبها ومن المؤكد أن شيخ أدباء منطقة عسير ورئيس ناديها الأدبي - حينذاك - أستاذنا الفاضل محمد بن حميد يعرف أن أقوى رابطة تجمعني أنا والشاعر الفقيد هي رابطة محبتنا المشتركة لمدينة أبها، فاختاره ليكون مديراً لتلك المحاضرة.
لقد كان الفقيد طموحاً لتحقيق الكثير من الأهداف، وسعى بجدّه وكفاءته لتحقيق بعض تلك الطموحات، فرأس مجلة الجنوب التي كانت تصدرها الغرفة التجارية، ولكن لظروف لا أعرفها توقفت عن الصدور، مع أنها في ذلك العهد تمثل نافذة ثقافية لمنطقة عسير قبل جريدة الوطن. بعد ذلك انتقل إلى الإعلام مديراً للمكتب الإعلامي في المنطقة، ثم مديراً لتلفزيون أبها، ثم رئيساً لتحرير صحيفة جامعة الملك خالد، ثم عاد إلى النادي عضواً في تشكيلته الجديدة قبل الأخيرة، ثم طلب الإعفاء بعد أيام لست أدري ما الذي كان يطمح إليه فقيدنا الشاعر؛ مع أنه ظل عضواً في مجلس منطقة عسير أكثر من دورة، وعضواً بارزاً في أمانة جائزة أبها الثقافية. من المؤكد أن طموحاته لا يحدها أفق.
عرفته المنطقة شاعراً مجيداً، وخطيباً مفوهاً، وكان يحظى بمحبة الأمير خالد الفيصل واحترامه طوال فترة توليه إمارة منطقة عسير. إننا بفقد شاعرنا المبدع قد خسرنا، وخسرت منطقة عسير أحد أبنائها الأفذاذ، وأحد شعرائها المبدعين، وخسرت أنا وكثيرون معي أخاً وصديقاً ربطتنا به روابط مختلفة من المحبة، ولكن مثله لا يموت، بل يبقى حياً بعطاءاته وإبداعاته التي سطرها طوال مسيرته الإبداعية وستبقى أسفاراً تقرؤها الأجيال المتعاقبة.
رحم الله الفقيد وجبر قلوب أبنائه وأهله في مصابهم، وعوضنا وعوضهم فيه خيراً إنه سميع الدعاء.
عضو مجلس الشورى