Al Jazirah NewsPaper Thursday  12/07/2007 G Issue 12705
سماء النجوم
الخميس 27 جمادىالآخرة 1428   العدد  12705
مثلجات
سهام العبودي

عندما دخلت كانت أرضية من الباركية الفاخر تصدر تحت ضغط حذائي أزيزا خافتا، يبدو المكان متمدنا جدا ونظيفا وعدا رائحة البخور فإن كل شيء هنا لا يوحي بشرقية الموقع.. نجديته بشكل دقيق. لفت نظري اسم المكان المشغول بالبرونز المطوع.. هذه غاية مثالية: جسد منحوت كما البجعة من يمكنه ان يوقف طوفان الحالمات!

أخذت مكاني على إحدى الطاولات المعدة للاحتفال ورحت أقلب نظري في المكان، كانت مريم متأنقة بطولها الفاره وسمرتها التوابلية... وجهها البريء لم يتغير كثيرا منذ عهد الشوارع المتعرجة.. أتذكرها تماما..

هناك أوجه أسمر مستدير محاط برداء للصلاة من القطن الابيض المطبع بوردات زرقاء متحاذية وحواف منقوشة برسوم شرقية الطابع من اللون ذاته.. اعتقد أنهم لم يخترعوا في ذلك الوقت وسيلة أنيقة لختم أطراف القماش فكانت الاردية من النوع الذي ترتديه مريم يترك دون تهذيب ومع الوقت كانت الاطراف تصنع بشكل متهدل.. مبروم.. وبدائي. كانت مريم تستقبلنا في آخر المنحدر الذي يهبط بنا طالبات المجمع المدرسي الكبير إلى حارة مذبوحة ككل زوايا الرياض بقائلة مريعة، تنبت كما الواحات وبقطعة معدنية من فئة يتأفف منها الصغار.. اليوم كنا نشتري مثلجات التوت المغروسة في الماء المثلج أمام بيت مريم وهي تصر مبالغ الشراء.. كانت تعد نفسها للتجارة منذ ذلك الوقت فبذهنية تجارية فذة وبقليل من الموارد صنعت لها اسما تجاريا يبعث على الارتياح في تلك الأزقة الضيقة.

اليوم الأشياء مختلفة.. مريم تفتح مشروعها الذي يتعلق بالجسد من الرأس حتى اظفار القدمين والسيدات هنا يختلفن قليلا عن النساء اللواتي كن يصادفننا بعد زياراتهن الضحوية، يركضن هربا من الشمس ويتحسسن الظلال النادرة فيما نلعق نحن ذائب المثلجات من الفتحة الصغيرة أسفل الكيس.. في المكان الجديد حيث لا توجد المثلجات ترتدي النساء ملابس أنيقة ويضعن اقراطا من الماس، أعقاب ارجلهن صقيلة لامعة يشربن العصير الكثيف ذا الطبقات في كؤوس من الكريستال بسيقان رفيعة، الحرارة التي تحيطهن معدلة رقميا، كل الأشياء مهيأ هنا للجميع: للضحك والمتعة.. ونظم خيوط الكلام في ثقوب الوقت، كنت أملأ ثقوب وقتي بتأمل طبقات العصير حيث تقبع في آخرها طبقة حمراء كحمرة التوت فيما صوت مريم وهي ترحب بضيفات يضغطن على أسنانهن عند الحديث يثقب اذني.. كان الثقب هو مادة تلك الامسية؛ فالوقت الطويل الذي مر منذ آخر مرة رأيت فيها مريم تمارس على الصورة القديمة شيئا يشبه التشويه أو التغيير غير المحبب.. كانت مريم منذ وقت طويل تشكل بالنسبة لي طعما معينا.. نكهة هي مزيج بين الانساني والمادي؛ حيث يصفف كل منا مشاعره في خزائن هي في الاصل مواد جامدة لكنها هي التي تفتحنا تجاه هذا الشعور أو ذاك.. كانت مريم بكاملها مفرقا موسما يعلن بدء الصيف واختتامه. ولذا أظل كلما تذوقت التوت أمر عبر الزمان تجاه ذات المكان وذات الهيئة التي تفتقدها في رأس الشارع.

اختراع الاشخاص الذين ينشطون الذاكرة لا يتم بإجماع ظاهرة؛ فمريم بالكاد تتذكرني ولولا خيط دقيق من العلاقة والعشرة يربط عائلتينا لما كنت هنا الآن، لكنها بالرغم من ذلك وبإجماع داخلي من طرفي تظل جزءاً من اللوحة بؤرة أساسية يتمحور حولها اللون والظل والأبعاد.. إلى أي حد ينبغي أن يحتفظ هؤلاء بسيماهم التي يتشاطرونها - دون علم - مع الآخرين أيحق لي أن أنصب طاولة محاكمة وبشكل جدي ادعي على مريم انها تبعثر ذاكرتي.. إنها تعرض الصورة لعوامل تعرية وظروف قاسية تجعلها محض ضباب وتهويمات تسكن خيالي فقط؛ حيث لا أحد يحب أن يتذكره الآخرون مفترشا قطعة ورق منزوعة من صندوق برتقال.

كان الوقت يمضي والمكان يخف من زائراته أحسست عندها برغبة في المغادرة فرأسي الذي افرطت في بعثه ذهابا وجيئة تجاه الماضي أخذ في قدح صداع ثقيل.

كانت مريم تقف قبل الممر المؤدي للخروج توزع ابتسامتها وامتنانها على الزائرات.. تركت طاولتي وقمت بجولة صغيرة في المكان ثم قصدت مريم هنأتها مرة أخرى، صافحتها وضغطت على يدها بشكل غير واع، كنت على وشك ان أقول: انني مشتاقة جدا للمثلجات التي تضعها، لكن ضوضاء المودعات وانشغالها البادي والتعب الذي بدأ ينسل رغما عنها جعلني أنتبه وأقتل رغبتي الغريبة، سحبت يدي من يدها وخرجت.

عندما اعتدلت في السيارة كنت أشم في يدي التي سحبتها من يد مريم رائحة توت قديمة ولكنني لست متأكدة أي اليدين كانت تصدر عنها الرائحة؟


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد