قرأت رواية في حيوان الجاحظ وغيره لبيت عمرو بن كلثوم فأثارت فضولي بشيء ما عن الشعراء، يقول ابن كلثوم في معلقته:
|
وقد هَرَّتْ (كِلابُ الجنِّ) مِنَّا
|
وشَذَّبْنَا قَتَادَةَ مَنْ يَلِيْنَا
|
فالمقصود بكلاب الجن في بيت ابن كلثوم هم الشعراء، وتعجبت من هذا المعنى الذي أطلقه شاعرنا على الشعراء! بيد أني قرأت أن العرب في الجاهلية كانوا يزعمون أن مع كل شاعر ذائع الصيت شيطان يوحي له؛ فقالوا: شيطان الأعشى اسمه (مِسْحَل السكران بن جَنْدَل، وقيل: مِسْحَل بن أثاثة)، وشيطان امرئ القيس (لافِظ بن لاحِظ)، وشيطان النابغة الذبياني (هادِر بن ماهِر)، وشيطان عَبيد بن الأبرص (هَبيد)، وقَرين الكميت (مُدْرِك بن واغِم)، و(حابس بن ثور) شيطان المتنبي!! وقد ذُكرتْ تلك الألقاب والأسماء في كتاب (جمهرة أشعار العرب) لأبي زيد القرشي، وقد قيل قديماً: إن القرين الشعري المصاحب للشعراء هما اثنان: الأول اسمه (الهَوْبَر) ومن انفرد به الهَوْبَر جاد شعره، والثاني اسمه (الهَوْجَل) ومن انفرد به فسد وقبح شعره!.
|
ورووا عن الأعشى نفسه أنه قال: خرجتُ أريد قيس بن معد بن يكرب بحضرموت فضللت في أوائل أرض اليمن؛ لأني لم أكن أسلك ذلك قبل فأصابني مطر، فرميت ببصري أطلب مكاناً ألجأ إليه، فوقعت عيني على خباء من شَعر، فقصدت نحوه وإذا بشيخ على باب الخباء، فسلمت عليه فرد السلام وأدخل ناقتي خباء آخر كان بجانب البيت، فحططت رحلي وجلست، فقال: من أنت، وأين تقصد؟ قلت: أنا الأعشى، وأقصد قيس بن معد يكرب. فقال: حيّاك الله، أظنك امتدحته بشعر. قلت: نعم. قال: فأنشدنيه. قال: فابتدأت مطلع القصيدة:
|
رَحَلَتْ سُمَيّةُ غُدْوَةً أَجْمَالها |
غَضبى عليكَ فما تقولُ بَدا لَهَا |
فلما أنشدته هذا المطلع منها، قال الشيخ: حسبك، أهذه القصيدة لك؟ قلت: نعم. قال: من سُمَيّة التي نسبت بها؟ قلت: لا أعرفها، وإنما هو اسم ألقي في روعي. فنادى: يا سُمَيّة اخرجي.. وإذا بجارية خماسية قد خرجت فوقفت وقالت: ما تريد يا أبتي؟ قال: أنشدي عمك قصيدتي التي مدحت بها قيس بن معد يكرب ونسبتك في أولها، فاندفعتْ تنشد القصيدة حتى أتتْ على آخرها لم تخرم منها حرفاً. فلما أتمتها، قال: انصرفي.
|
ثم قال: هل قلتَ شيئاً غير ذلك؟ قلت: نعم كان بيني وبين ابن عم لي (يقال له يزيد بن مسهر، ويكنى أبا ثابت) ما يكون بين بني العم، فهجاني وهجوته، فأفحمته. قال: ماذا قلت فيه؟ قلت:
|
وَدِّعْ هُرَيْرَةَ إنّ الرَّكْبَ مُرْتَحِل... فلما أنشدته البيت؛ قال: حسبك قف! من هريرة هذه التي نسبت فيها؟ قلت: لا أعرفها، وسبيلها سبيل التي قبلها (يقصد سُمَيّة). قال: فنادى يا هُرَيْرَة.. فإذا جارية قريبة السن من الأولى خرجتْ، فقال: أنشدي عمك قصيدتي التي هجوت بها أبا ثابت يزيد بن مسهر، فأنشدتها من أولها إلى آخرها لم تخرم منها حرفاً، فسقطت في يدي وتحيرت وغشتني رعدة! فلما رأى ما نزل بي قال: ليفرج روعك أبا بصير، أنا هاجسك (مِسْحَل) الذي ألقى على لسانك الشعر.. فسكنتْ نفسي ورجعتْ إليّ، وسكن المطر، فدلني الطريق وأراني سمت مقصدي، وقال: لا تعج يميناً ولا شمالاً حتى تقع ببلاد قيس.
|
وتأكيداً لهذه القصة روي عن الصحابي جرير بن عبدالله البجلي - رضي الله عنه - أنه قال: سافرت في الجاهلية فأقبلت ليلة على بعير أسقيه فلما قرّبته من الماء تأخر، فعقلته ودنوتُ من الماء، فإذا بقوم مشوهين عند الماء، فبينما أنا عندهم إذ أتاهم رجل أشد تشويهاً منهم، فقالوا: هذا شاعر.. فقالوا: يا أبا فلان، أنشد هذا فإنه ضيف فأنشد: وَدِّعْ هُرَيْرَةَ إنّ الرَّكْبَ مُرْتَحِل... فوالله ما خرم منها بيتاً أو حرفاً حتى أتى على آخرها، فقلت: من يقول هذه القصيدة؟ قال: أنا أقولها. قلت: لولا ما تقول لأخبرتك أن أعشى قيس بن ثعلبة أنشدنيها عام أول بنجران. قال: إنك صادق أنا الذي ألقيتها على لسانه، وأنا مِسْحَل.
|
ويقول الدكتور غازي القصيبي في كتابه (عن قبيلتي أحدثكم): (ولنا أن نتساءل اليوم عن السبب الذي جعل الشياطين التي تلهم أجمل الكلام تتسمّى بهذه الأسماء القبيحة المنكرة!؟)، ويتساءل القصيبي: (هل كان الشعراء الجاهليون ضحية هستيريا جماعية جعلتهم يتصوّرون ما تصوّروه عن أصحابهم؟ هل كان بعضهم بالفعل لأسباب نفسية وعقلية يتحدث مع أشباح؟؟).
|
وكان الشعراء يتفاخرون بقرنائهم.. قال الأعشى:
|
فما كنتُ ذا شِعر ولكن حسبتَني |
إذا (مِسْحَلٌ) يُسدي ليَ القولَ أَنْطِقُ |
شَريكانِ فيما بيننا من هَوادَةٍ |
صَفِيّانِ: إنسيٌّ وجِنُّ موفَّقُ |
يقولُ فلا أَعْيَا بشيءٍ يقولُه |
كفانيَ لا أَعْيَا ولا هو أَخْرَقُ |
|
إني وكل شاعر من البشر |
شيطانه أنثى وشيطاني ذكر |
وروى الجاحظ عن بعض الأعراب: |
إني امرؤ تابعني شيطانيهْ |
آخيتُه عمري وقد آخانيه |
|
إني وإنْ كنتُ صغير السن |
وكان في العين نُبو عنّي |
فإنّ شيطاني أميرُ الجن |
يذهب بي في الشِّعر كل فنّ |
قال الكاتب سعد الله خليل في مقال له عن الشعراء والجن:
|
كذلك تصوّر عرب ما قبل الإسلام أن للشعراء اتصالاً بالجن، وأن لكل شاعر قرينا يوحي له ويلهمه شعره، وقرين الأعشى كان يدعى (مِسْحَل) وقد قال فيه شعراً، كما اعتقدوا أن للجن أشعارهم أيضاً، وأن بعض الشعراء الجاهليين كان قادراً على قول الشعر الإنسي، والشعر الجني!!.
|
ولقد نطقت قوافي إنسية |
ولقد نطقت قوافي التجنين |
ونتيجة لهذا الاعتقاد الذي انتشر بين عرب الجزيرة قبل الإسلام بإمكانية الاتصال بين البشر والجن نشأ الاعتقاد بأن الجن يوحي للعراف والكهان وينبئهما بعالم الغيب، ويوحي للشعراء ويلهمهم أشعارهم، وقد استخدم هذا الفعل (أوحى يوحي) كثيراً في الشعر الجاهلي.
|
وهنالك أيضاً من يربط بين الشعر والسحر، فقد علّق الدكتور مصطفى درواش بين ما يجمع (الشاعر بالساحر) وهو العلم بالشيء والفطنة والحكمة، على نحو ما ورد في مادتي (سحر وشعر) في لسان العرب.. ويضيف درواش: أن هذا المعنى اللغوي قد يرجع إلى الإمكانات والقدرات الذهنية والوجدانية الخاصة بالشاعر والساحر، والى الاستعداد الفطري والتميّز عن الآخرين بالموهبة، أو فضل من ذكاء وحس.. والسحر والشعر علاقتان دالتان على التمويه والتخييل بإيراد الشيء على غير صورته الوضعية وحاله الملموسة بالترميز والإيحاء.
|
وقد سمعت في أساطيرنا الشعبية واطلعت على (ديوان الهجيني والسامري) لمؤلفه الحمدان أن ثمة قصيدة للجن، وقيلت تحديداً في مدينة المجمعة، وأذكر أن مطلع القصيدة:
|
يا قارع الدمّام سَمْ واقْرعه |
وأعطيكْ عذقينٍ ليالي الصرام |
سقوى سقى الله وادي المجمعة |
من رايحٍ يوضي بجنح الظلام |
والدمام المقصود به الطبل الذي يستخدم في إيقاع لحن السامري.. وأيضاً قصة الشاعر المعروف (الدندان)- رحمه الله-، وهو من قبيلة الدواسر، وهو معروف بجزالته وقوة ألفاظه ومعانيه، ويذكر - والعهدة على الراوي - أن الدندان في ذات يوم عند جبل (جنيّح) في منطقة يقال لها (السرة) وكان متجهاً شمالاً، فقابله (17) جنياً متجهون جنوباً، وقالوا له (17) بيتاً، كل واحد منهم ينشد له بيتاً حتى تكونت قصيدة كاملة، ولكن لم يحفظ منها الدندان سوى بيت:
|
كِنْ مِذارعها ملحات الفنود |
يوم تاطا في رقاريق الحماد |
وكما يذكر أن الجن خرجت على الدندان ونهته عن قول الشعر، ويقال: لغيرتها من جزالته. ويقال: إن العامة تطلق في وقتنا الحالي على الشعر وعلاقته بالجن (هاجس الشعر)، ورأيتهم يستشهدون بذلك، ويقول أحدهم:
|
على هجوس الشعر والجن شرهاتي |
إنْ كان ما وقفت للشعر محقوقه |
ومن هذا المنطلق اتجهت إلى المنظور الإسلامي والديني للبحث عن مدى مصداقية بعض القصص، وهل للجن صلة بالشعر وغيره بوجه عام مع الإنس، فوجدت النصوص كثيرة على ذلك والتأييد في أكثر المصادر من المس وما شابه، فقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن الجن يخدمون الإنس في أمور، والكهان يستخدمون الجن ليأتوهم بخبر السماء فيضيفون إليه من الكذب ما يضيفون، وخدمة الجن للإنس واردة، وقد يخدمونهم لطاعة الإنس لهم فيما لا يرضي الله عز وجل، إما في الذبح لهم أو في عبادتهم أو ما شابه ذلك.
|
والذين يرون إمكانية استخدام الجن من المسلمين يختلفون في حكم استخدامهم: فمنهم من يحرم ذلك مطلقاً، ومنهم من يبيحه بشرط عدم الإضرار بالآخرين أو عدم ارتكاب الأمور المحرمة.. والراجح عدم اللجوء إلى هذا الأمر مطلقاً.
|
وفنّد كثيرون وفرقوّا بين الجن والشياطين ومنهم ابن سيرين حيث قال: والأصل في رؤيا الجن أنهم أصحاب الاحتيال لأمور الدنيا وغرورها، وأما الشيطان فهو عدو في الدين والدنيا مكارّ خدّاع غير مكترث لشيء.. إن ما يصدر عن الشيطان كذب ونفاق وبهتان، فإن رأى أن الشيطان يعلّمه كلاماً فإنه يتكلّم بكلام مفتعل أو يكيد أو ينشد كذب الأشعار".
|
|
للتواصل: |
|