تقديم وحوار د. عبدالرحمن الشبيلي - قراءة: حنان بنت عبدالعزيز آل سيف
الحوار فن من فنون القول البديعة، به يبدو المحاور مشوقا لبقا آخذاً بتلابيب عقول الناس وقلوبهم ومنابع وجدانهم، وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم بالسحر الحلال حينما قال: (إن من البيان لسحرا) فمن هنا تبعيضية أي دالة على البعض لا الكل، فما كل متكلم يأتي في حديثه بنفيس من القول، وجوهر من الكلام، وسماه صلى الله عليه وسلم (سحراً) لأن السحر شديد الأثر في النفس، وتعلق القلب به يكون سريعاً، والمحاور البارع المبدع هو ذلك السائل الذي يريح نفسك هدوء نبرات صوته،
ويشعل همتك بعذب أسلوبه، وكما قال البلاغيون ومازالوا بقولهم متمسكين: الأسلوب هو الرجل والرجل هو الأسلوب، وذلك لأن الأسلوب يصف صاحبه، ويصور شخصيته ويرسم هيئته، فحينما تسمع الحوار أو تقرؤه فكأنك أمام من يحاور ببزته وهيئته وشخصه، وذلك لأن الذي يجري الحوار كلما كان عبقرياً في أسئلته، منطقياً في أطراف حواره، كلما استطاع أن يبني هرماً شامخا متطاولا من أسئلته واستفساراته، وليست العبرة بكثرة السؤال، إنما هي بكيفيته ومضمونه ومحتواه، وقديما عدَّ العلماء السؤال دلالة على عقل صاحبه، ومستوى ذكائه فكان أبو حنيفة النعمان - رحمة الله عليه - يعرف عقل الرجل من سؤاله، فعقله مخبوء تحت لسانه، فحيناً يمد رجله قائلا قولته المشهورة: (آن لأبي حنيفة أن يمد رجله) وحيناً آخر يطويها وسبب هذا ظاهر معلوم.
والحوار له آداب وخصال وشمائل فهناك من يعرف الحقيقة، وهناك من لديه القدرة البارعة على تقديمها للناس، وهذا بعينه هو سر فحولة المتنبي وتبريزه فلديه قدرة خارقة عجيبة شعرية ولغوية على تقديم المفاهيم للناس، وما أجمل قوله حينما قال:
لا خيل عندك تهديها ولا مال
فليسعد النطق إن لم تسعد الحال
ومن هذا المنطلق أسعدنا معالي الدكتور القدير عبدالرحمن الشبيلي - حرسه الله وحماه - بحواره التلفزيوني الموثق مع العالم العلامة فضيلة الشيخ محمد بن إبراهيم بن جبير - عليه من الله شآبيب الرحمة والعفو والغفران - وطبعة الكتاب الذي أجرى فيه الحوار بعد توثيقه من التلفاز هي الطبعة الثانية لعام 1423هـ - 2002م، وجادت به الأنامل الذهبية لمطبعة سفير المحلقة في أجواء الفنون والعلوم والثقافات، بما تلفظه أنفاسها المتجددة بكم علمي معرفي عميق واسع.
هذا وقد قدم الدكتور الشبيلي - حفظه الله - للكتاب بمقدمة وافية جميلة، أخذت بنياط قلبي، واستهوت بتلابيب وجداني، واستولت على ذهني وعقلي، وعلّى ألقيها على القارئ الكريم ليتلذذ بها، ويترنم بشدوها، ويعزف على حروفها، وأكاد أجزم بإعجاب القارئ بها لأنها صادقة أولا ومنبعثة من وجدان محاورنا وعقله، فالحديث إذا خرج من القلب وقع فيه، وإن خرج من غيره لم يجاوز الوجدان والآذان، يقول محاورنا الفذ الفريد، والنحرير الخبير، حينما وقع عليه نبأ وفاة الفقيه العلامة محمد بن جبير - رحمه الله تعالى - كالصاعقة التي لا تعرف إلا الفجيعة والحزن والألم والأسى، كلمة بليغة جداً فحواها: (لا يمكن فهم شخصية محمد بن جبير إلا إذا تخيلها المرء مدرسة أو كلية جامعية متعددة التخصصات، وشخصية متنوعة المواهب والقدرات، لكننا قبل الدخول في شيء من ذلك، لا بد من تقرير مسلّمات ثلاث اتفق عليها من عرفه، واقتنع بها من تعامل معه، وهي أن الرجل - رحمه الله - كان على درجة عالية من الفضل والخلق والسماحة والبساطة والتواضع ولين الجانب، وأنه كان أبعد ما يكون عن التعالي في رأيه، أو التكبر على غيره أن مصادرة آراء معارضيه أو تصيد أخطائهم أو الحقد عليهم.
الأمر الثاني: أن الفقيد كان عائلي المعيشة، كوّن أسرة مستورة مترابطة حفها بقربه وحنانه وخصها بوقته ورعايته حتى فارق الدنيا.
أما الحقيقة الثالثة: فهي أن الدولة قد وفقت كل التوفيق في اختياره رجل مرحلة، لتسيير مجلس الشورى، بعد أن أعيد تنظيمه وتطويره وتحديث هيكله، حتى أن الكل يعتقد أن من توفيق الله على هذه البلاد أن أوجد فيها عدداً من الكفاءات عالية التأهيل والمناقب العلمية والشخصية، كفاءات تجتمع فيها مؤهلات الشريعة والإدارة والفهم والاستيعاب والإحاطة والمرونة والاعتدال، استطاعت أن تقود مجلس الشورى وأمثاله من الهيئات الدستورية بحنكة وحكمة واقتدار، وأن تتجاوز مرحلة التأسيس الدقيقة بهدوء).
ولا أكتمك يا قارئي الكريم قولا حينما أقول لو لم يكتب الدكتورالقدير عبدالرحمن الشبيلي في الفقيه العلامة بن جبير - عليه رحمة الله غير هذه الكلمة لكفى وأوفى، وبهذه الكلمة المنصفة في زمن عزَّ فيه الاعتراف بالحق والحقيقة، أقول: إن جهيزة قطعت قول كل خطيب.
ومن صور الشبيلي الجميلة في حكايته عن ضيفه قوله: (لقد كان الشيخ محمد عالماً في عباءة طالب علم، وشاباً في هيئة شيخ، إنساناً رضع الأصالة في طفولته، وتذوق طعم العصامية منذ صغره، وانفطم على المعارف الشرعية على يد نخبة من العلماء).
نفس عصام سوّدت عصاما
وعلمته الكر والإقداما
وصيرته بطلا هماما
حتى علا وجاوز الأقواما
ثم يمضي دكتورنا الشبيلي - حفظه الله - في الحديث عن هذه الشخصية العملاقة حديث المدقق المتثبت المتأكد من صحة عباراته، ثم يأتي نص الحوار واثق النفس، رزين الخطو، هادئ الصوت، خرير التدفق، لا تشعر وأنت تقرؤه بأي قصور أو نقص أو فجوة، ويخيل إليّ أن محاورنا الطلعة قد ألم بركائز حياة الشيخ - عليه رحمة الله - العلمية والاجتماعية والعائلية إلمام الصيرفي الخبير، وأكاد أقول ولا أجزم أنه عنت محاور في الحوار لم يخطط لها من قبل، بل فرضها الحديث بشجونه ومع ذلك فقد تمكن محاورنا الألمعي من ضمها إلى أطراف الحوار بهدوء شديد لم يشعر به الشيخ رحمة الله عليه، ولم يشعر به أيضاً المتابع لهذا الحوار التلفزيوني، أو القارئ في الكتاب بعد طباعته ونشره، فانظر أيها القارئ العزيز إلى قوة الحوار وبيانه وشموليته فقد استوعب العلامة الجبير من المهد إلى اللحد، حيث تطرق إلى ولادته وأسرته وتعليمه وزملائه وذكريات الطفولة والشباب حينما عاصر حياة المغفور له - إن شاء الله - الملك عبدالعزيز آل سعود طيب الله ثراه - والملك سعود عليه رحمة الله - والأمير مساعد بن عبدالرحمن - غفر الله له والملك فيصل آل سعود - عليه من الله شآبيب الرحمة والرضوان، وغيرهم من رجالات الدولة، وأعيان الزمان، كما تطرق إلى رحلاته قديماً وحديثاً، وآثاره الفكرية، إلى أطراف شتى في هذا الحوار الرائد الذي تناول الشيخ محمد بن جبير من ألفه إلى يائه.
يا رب فابعث لنا من مثلهم نفراً
يشيدون لنا مجداً أضعناه
ومن خلال هذا الحوار تجلت شخصية الشيخ بن جبير على بساطتها وعملقتها وشموليتها، فقد اجتمع في هذا الحوار رجلان ألمعيان كانا يعرفان جيدا مواضع الصمت والكلام والإنصات والإشارة، وكل منهما متحدث بارع، ومستمع بارع.
وأخيراً: استطاع معالي الدكتور عبدالرحمن الشبيلي إدارة دفة الحوار بكل عدل وإنصاف وموضوعية وبحث عن الحقيقة، فاستطاع بهذا كسب العقول والقلوب معاً، كما تمكن من ختم حواره بكل مهارة وحسن تخلص، وهذه الناحية هي أصعب جزء في الحوار المميز، وليس لنا في نهاية المطاف إلاّ دعوة الكتاب والباحثين والأدباء إلى ملء زوايا المكتبة العربية بأمثال هذه الكتب والتي من خلالها يتعلم القارئ والمستمع فن الخطابة والقيادة والإلقاء.
رحم الله الشيخ محمد بن جبير، وحفظ الله الدكتور الشبيلي وجعل من حواراته ومقابلاته بحراً لا تكدره الدلاء.
عنوان المراسلة:ص ب 54753/الرياض 11524
فاكس 4656444