Al Jazirah NewsPaper Tuesday  24/07/2007 G Issue 12717
مقـالات
الثلاثاء 10 رجب 1428   العدد  12717

ماهيَّة العقل
د.عبدالوهاب منصور الشقحاء

يتميز الإنسان عن سائر المخلوقات بميزة فريدة هي التي جعلته يستحق خلافة الله في الأرض ألا وهي العقل، والعقل في اللغة: المنع والحبس، ويقال اعتُقِلَ الرجل إذا حُبِسْ ...

... ويدل على هذا المعنى قول الرسول- صلىالله عليه وسلم -: (اعقلها وتوكل). ويسمى العقل عقلاً، لأنه يُمسِك ماعَلِمهْ، ويضبطه، ويفهمه، وسمي العاقل عاقلاً لأنه يحبس نفسه، ويمنعها عما يهلكها،وعُرِّف العقلُ في الاصطلاح بعدة تعاريف منها: ما عرَّفه الغزالي بأنه: (الوصف الذي يفارق الإنسان به سائر البهائم، وهو الذي استعد به لقبول العلوم النظرية وتدبير الصناعات الخفيَّة الفكرية)، كما عرفه الماوردي بأنه: (العقل الحقيقي وله حد يتعلق به التكليف لا يجاوزه إلى زيادة، ولا يقصر عنه إلى نقصان، وبه يمتاز الإنسان عن سائر الحيوان)

ولعل أجمع تعريف للعقل هو ما ذكره ابن تيمية - رحمه الله - إذ قال: العقل (هو علم أو عمل بالعلم وغريزة تقتضي ذلك) وعلى هذا المعنى فالإنسان لا يستعمل عقله إذ علم فقط ولم يعمل بعلمه، ولا إذا عمل بدون علم، ووصف بعض الحكماء العاقل بأنه: (إن كُلِّم أجاب، وإن نطق أصاب، وإن سَمِعَ وعى)، والعقل نوعان: عقل غريزي، وعقل مكتسب ويُعَرَّفُ العقلُ الغريزي بأنه: (غريزة وضعها الله سبحانه في أكثر خلقه، لم يطلع عليها العباد بعضهم من بعض، ولا اطلعوا عليها من أنفسهم برؤية، ولا حس، ولا ذوق، ولا طعم، وإنما عرَّفهم الله سبحانه وتعالى إياه بالعقل منهم، فبذلك عرفوه، وشهدوا عليه بالعقل الذي عرفوه به من أنفسهم، بمعرفة ما ينفعهم، ومعرفة ما يضرهم) ويُعَرَّفُ العقلُ المكتسب بأنه: (نهاية المعرفة، وصحة السياسة، وإصابة الفكر، وليس لهذا حدٌ، لأنه ينمو إن استعمل، وينقص إن أُهمل)، ولا ينفك العقل المكتسب عن العقل الغريزي، لأنه ناتجٌ منه، وقد ينفك العقل الغريزي عن العقل المكتسب، إلا أنهما إذا اجتمعا واستعملهما الإنسان في أمر ما فإنه قلما يجانب الصواب، وفي هذا يقول الشاعر:

ألم تر أن العقل زَيْنٌ لأهله

وأن كمال العقل طول التجارب

ومحل العقل في القلب، وماهيَّته أنه نور في القلب يُعْقَلُ به الأشياء والأمور فهو نور وضعه الله طبعاً وغريزة، يبصر به، ويعبر به، ونوره في القلب، كالنور في العين، وهو البصر وكالسمع في الأذن، وهذا يوافق ما ذهب إليه ابن تيمية - رحمه الله - في قوله عن ماهيَّة العقل: (إنه بمنزلة قوة البصر التي في العين، فإن اتصل به نور الإيمان والقرآن كان كنور العين إذا اتصل به الشمس والنار، وإن انفرد بنفسه لم يبصر الأمور التي يعجز وحده عن دَرْكها) ويستدل لذلك بقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}(لحج 46)، كما يستدل لذلك بقول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في وصفه لابن عباس - رضي الله عنهما -: (ابن عباس فتى الكهول، له لسانٌ سؤول، وقلبٌ عقول) ويتفاوت الناس في كمال العقول، ونقصانها، وما يعتريها من الضعف، والعجز، والنقص، إلا أنها تتساوى في معرفة العلوم التي لا تنفك عن ذات الإنسان العاقل، وتقع ابتداء، مثل معرفة أن الاثنين أكثر من الواحد، وعلم الإنسان بوجوده، وأن الضدين لا يجتمعان، واستحالة كون الشيء قديماً حادثاً، وكون الجسم في مكانين، وتفاوت عقول الناس يدل على أن لكل عقل حداً، وغايةً في إدراك الأشياء، ويستدل لتفاوتها بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - للنساء : (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب لِلُبِّ الرجل الحازم من إحداكن) رواه البخاري ومسلم، واستدل بهذا الحديث بمنطوقه على النقصان، وبمفهومه على الزيادة، واستدل على تفاوت عقول الناس بالإجماع إذ كل الناس يقولون: (عقل فلان قليل، وعقل فلان أكثر من عقل فلان، وفلان غير عاقل...) والعقل من أهم شروط التكليف، فالمكلف يشترط أن يكون عاقلاً يفهم الخطاب، فإن كان مجنوناً سقط عنه التكليف لأن مقتضى التكليف الطاعة والامتثال، لذا فإن الإسلام جعل الدية كاملة على من ضرب آخر فأذهب عقله، قال ابن قدامه في المغني: (لأن العقل أكبر المعاني وأعظم الحواس نفعاً، فإنه به يتميز عن البهيمة، ويعرف به حقائق المعلومات، ويهتدي إلى مصالحه، ويتقي ما يضرُّه، ويدخل به في التكليف، وهو شرط في ثبوت الولايات، وصحة التصرفات، وأداء العبادات، فكان بإيجاب الدية أحق من بقية الحواس)، ويقف العقل من حيث إدراكه للعلوم على ثلاث حالات:

الحالة الأولى: حالة ضرورية لا يمكن التشكيك فيها؛ كعلم الإنسان بوجوده، وأن الاثنين أقل من الثلاثة... وهكذا.

الحالة الثانية: حالة العلوم النظرية، ومنها ما يمكن العلم به، وما لا يمكن أن يعلم به، كالنظريات، والممكنات التي تُعلم بواسطة لا بأنفسها.

الحالة الثالثة: حالة العلوم الغيبية، وهذه الحالة لا يعملها العقل إلا أن يُعْلَمَ بها، أو يجعل لها طريقاً إلى العلم بها، ويدخل في هذه الحالة معظم مسائل الاعتقاد فلا يعلمها العقل إلا أن يُعْلَم بها ونحو ذلك.

dr-a-shagha@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد