Al Jazirah NewsPaper Tuesday  24/07/2007 G Issue 12717
الرأي
الثلاثاء 10 رجب 1428   العدد  12717

قول في الوطنية والمواطنة
مبارك بن عبيد الحربي- الخرج

مع تراكمات الأحداث، وتتابع هذه الأزمات المدوية، وبالذات ما كان منها يتعلق بقضايا الإرهاب والتخطيط لاعتداءات جديدة على مقدرات هذا الوطن هل نحن بحاجة إلى إعادة دراسة صياغة الخطاب المتحدث عن الوطن والمواطنة؟! هل نحن فعلاً بحاجة إلى إعادة غرس مفاهيم المواطنة وحب الوطن في نفوس الأبناء؟! وإذا كانت ولابد إعادة صياغة هذه المفاهيم مما تقولها الأحداث التي نشاهدها فمن أولى أولويات إعادة الصياغة تلك الصياغة الشرعية لمفهوم حب الوطن، وهل هو مفهوم ممدوح أم مفهوم مذموم؟! لأن الحديث عن حب الوطن في فترة من الفترات القريبة كان مثار استنكار من بعض المنتمين للعلم الشرعي، لذا كان من المهم أن يتناول الشرعيون هذا الجانب بشيء من التفصيل والتحليل، وبمزيد من الإيضاح والتجلية، بعيداً عن الاقتضاب والاختصار، وبمنأى عن الإجمال والعموم، من المهم جداً أن نؤصل لهذا المفهوم، وأن يعلم أبناء الوطن صغاراً وكباراً ذكوراً وإناثاً بأن لاقيمة للمرء بلا وطن، ولا ثمرة منه ترتجى بلا مواطنة، ولعل الحوادث ذات اليمين والشمال في بلدان شتى تعطي مزيداً من القناعة بأنه لا خير يرجى من وراء التشرد والضياع، والتفرق والشتات، والتنازع والتناحر، هذا النزاع والتناحر الذي لم يراع للوطنية قدراً، ولم تحظ المواطنة منه بالنصيب الأوفى فلا تطمح معه بتنمية، ولا تطمع بعده برقي ونهضة، ولاتنتظر مساهمة فاعلة، أو حتى غير فاعلة، كل ذلك لندرك أن المرء بلا وطن لا قيمة له، وبلا حب لهذا الوطن لا نتاج له، وأن ما نشاهده اليوم في الأنفس والممتلكات ما هو إلا نتاج وطن أعطى للتعليم مساحة، وللفكر مجالاً، وفتح للدعوة باباً، وللعطاء أبواباً، فما أحرانا أن نضم هذا الوطن بين حنايا ضلوعنا، وأن نسكنه سويداء قلوبنا، وبالذات إذا عرفنا ان حب الوطن والحنين إليه والدفاع عن حماه أمر فطر الله عليه بني آدم، بل الخلق كلهم مفطورون على حبهم لأوطانهم وحنينهم إليها، فالإبل تحن إلى أعطانها، والطيور تحن إلى أوكارها بل حتى الوحوش تحن إلى غابها وعرينها، وحب الإنسان لوطنه يعدل ذلك كله.

كم منزل للمرء يألفه الفتى

وحنينه أبداً لأول منزل

روي عن عمر أنه قال (لولا حب الوطن لخرب البلد السوء).

إن حب الإنسان لوطنه، وموضع قدمه، ومكان ولادته، ومراتع صباه، حب لا يحتاج إلى تقص لتكتشف حقيقته يكفي فقط أن تتأمل في بعض البلدان والأقطار لترى أنها كثيرة الأوبئة، قليلة الثمرة، شديدة الحرارة، طاغية البرودة ومع ذلك لا يعدل بها أهلها غيرها من البلدان، ولا يرغبون بسواها من الأوطان ذكر الحموي في معجم البلدان كلاماً عن حب الناس لأوطانهم حتى وإن جمعت المساوئ والمضار فقال عن بلدة (تبسه) في افريقية وقد خرب أكثرها الان ولم يبق بها إلا مواضع يسكنها الصعاليك لحبهم لوطنهم، ووصف رصافة الشام بأنها بلد الطاعون وماؤها مالح رديء وهي وسط الصحراء ثم قال ولولا حب الوطن لخربت. ا.هـ.

ولله در ابن الرومي حين قال:

وحبيب أوطان الرجال اليهم

مآرب قضاها الشباب هنالك

إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم

عهود الصبا فيها فحنو لذلك

فقد ألفته النفس حتى كأنه

لها جسد إن بان غودر هالكا

إن حب المرء لوطنه أمر لاغضاضة فيه، بل إن الانسان حين لا يحن إلى وطنه، ومجمع أسرته، ومقطع سرته، ومدرج قدمه، فهو بالتأكيد غير سوي في فطرته.

جاء في قصة نزول الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم وذهابه إلى ورقة بن نوفل وقول ورقة للنبي صلى الله عليه وسلم (ليتني أكون معك إذ يخرجك قومك) فقال صلى الله عليه وسلم (أومخرجي هم) قال السهيلي يؤخذ منه شدة مفارقة الوطن على النفس فقد ذكر ورقة من التكذيب له صلى الله عليه وسلم وكذا الإيذاء ولم يظهر منه انزعاج صلى الله عليه وسلم لذلك، فلما ذكر له الإخراج من بلده تحركت نفسه صلى الله عليه وسلم لحبه وطنه وألفه له.

قال أعرابي: (إذا أردت أن تعرف الرجل فانظر إلى تحننه إلى أوطانه). وقال الجاحظ قال بعض العجم: من علامات الرشد أن تكون النفس إلى مولدها مشتاقة وإلى مسقط رأسها تواقة.

إن هذا الاستطراد السابق هو في حب الأوطان على وجه العموم أياً كانت حالتها ومكانتها فكيف ببلادنا المملكة العربية السعودية بلاد الخير والنماء والوفاء والعطاء بلاد ترفرف عليها راية التوحيد، بلاد الحرمين الشريفين، بلاد المآذن والمنابر، بلاد الشريعة الإسلامية دينها، والكتاب والسنة دستورها، بلاد عم خيرها وكثر عطاؤها، وذاع صيتها، بلاد اجتمع فيها أنواع الحب كلها الحب الفطري والحب الشرعي أوليست مكة والمدينة هي جزء من هذا البلد الكريم وقد قال صلى الله عليه وسلم وهو ينظر إلى مكة (والله لأنت أحب البلاد إلى الله ولولا أن أهلك اخرجوني منك ما خرجت) أولم يقل صلى الله عليه وسلم لجبل أحد (هذا أحد جبل يحبنا ونحبه).

أولم يقل صلى الله عليه وسلم في دعائه (اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد).

وحينما كان أحد الصحابة يصف مكة أمام النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المدينة ظهر التأثر على وجه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له (دع القلوب تقر).

إلى غيرها من النصوص الحاشدة في حب هذا البلد على وجه الخصوص نصوص واضحة وجلية صريحة في النطق بحب هذا الوطن والاحتفاء به والدفاع عنه وعن مقدراته، وطن تتأجج له النخوة، وتلتهب له الأفئدة، وترتفع الرؤوس دفاعاً عنه وحمية وإعماراً فهو منبت الإسلام، ومدرج النبوة، وقبلة المسلمين، وحاضن مقدساتهم، وطن مصطفى منذ بدء الخليقة قال صلى الله عليه وسلم (إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة).

بلد اصطفاه الله ليشهد بدء الوحي، وانطلاق الرسالة الخاتمة وإشعاع أنوار الهداية للبشرية جمعاء.

لذا كان من المهم أن يدرك ابناء هذا الوطن هذه الحقائق، وأن يعوا هذه المفاهيم لتتسع عقولهم لفهم آفاق المفهوم الوطني لهذا الوطن الذي يحمل علمه كلمة التوحيد وشهادة الرسالة، ذلك العلم الذي يشعر النفس بالشرف والاعتزاز لهذا الوطن، ويجعل أبناؤه يدركون جسامة المسؤولية الملقاة على عواتقهم للارتقاء بوطنهم والسعي في تطوره، وأن يكون وطنهم أكثر الأوطان علواً ورقياً وأقلها فساداً وشراً، وأبعدها عن التخلف والتشرذم وبالذات وهو يحمل ويحوي هذا الاصطفاء الذي ينادينا بحب الوطن ويشحذ نفوسنا للمساهمة للنهوض به وأن نكون بناة مجد وصناع حضارة، وليس في حبنا لوطننا المملكة العربية السعودية من غضاضة فالمسلمون الأوائل لم يكونوا يعانون من عقدة تجاه حب الوطن إذ هم كسائر البشر الأسوياء ينظرون إلى مثل هذه القضايا نظرة تلقائية، هم كسائر الناس يملكون الغريزة التي يشعر معها الإنسان بارتباطه بقريته ومدينته ووطنه الأوسع، وهم أيضاً لم يجدوا في تعاليم دينهم ما يضعف أو يلغي هذا الإحساس بل فهموا من تلك النصوص وغيرها ما يقوي هذا الإحساس ويثبته، فالقرآن والسنة يعليان قيمة الوطن لذا أوجبا القتال عن الأوطان، ولم يكن هناك في ثقافة المسلمين ثمة تناقض بين الدين والوطن أو بين التدين والإحساس الوطني قال ابن رجب: (لما خلق الله ادم عليه السلام أسكن هو وزوجته الجنة ثم أهبط منها ووعد بالرجوع إليها فالمؤمن أبداً يحن إلى وطنه الأول وحب الوطن من الإيمان).

إننا بحاجة لتذكير أنفسنا وناشئتنا بهذه النصوص والاثار وبث هذه المفاهيم عن حب الوطن عموماً وهذا البلد الأبي خصوصاً في زمن اختلطت فيه بعض الأوراق، وشردت فيه بعض الأذهان، وتاهت فيه بعض ناشئتنا وأجيالنا حتى وقعوا في شراك التكفير والتفجير واصبحوا أعداء لوطنهم، ومصدر إزعاج لأهلهم، وغابت أو غيبت عنهم نصوص كثيرة تحثهم على حب أوطانهم، وتدعوهم إلى الإحسان إليها، والسعي في رقيها وتطورها.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد