(السعودة).. هذا المصطلح الذي أشغل مجتمعنا السعودي، والذي من خلاله يسعى المجتمع إلى إيجاد فرص عمل لم يعتد عليها شباب الوطن ولا يستطيعون ممارستها بالشكل المطلوب، أو بمعنى آخر؛ مهن لا يحبذها الشاب السعودي أو بمعنى أدق مهن يراها كثيرون أنها تحط من قدر المواطن السعودي لأنها وفي نظر هؤلاء مهن لا تتواءم مع المستوى الاجتماعي والاقتصادي والذي يعيشه مجتمعنا السعودي بصفته مجتمعاً ينتمي إلى دولة تعتبر من أغنى دول العالم ومن كبريات الدول المصدرة للنفط.
وهذا ما يجعل من تحقيق السعودة في مهن هي الآن بأيدي غير السعوديين يبدو أمراً في غاية الصعوبة، ولعل من أهم العوامل التي تعيق (السعودة) والتي وللأسف أننا لا نجد أن هناك من يعيرها الاهتمام هو جهل الشباب بمفهوم العمل ومتطلباته والغاية الأساسية منه، فشبابنا ينظرون إلى العمل من خلال منظور ضيق جداً يحصر العمل في نطاق الوجاهة الاجتماعية وأنه مجرد سبب للكسب المادي.
كما أن هناك عاملاً لا يقل أهمية عن السبب السابق الذي ذكرته وهو ما يتعلق بتلك النظرة الدونية التي يتبناها المجتمع تجاه المواطن السعودي الذي يعمل في تلك المهن التي نتطلع إلى أن يعمل بها شباب الوطن كالميكانيكا والنجارة والحدادة والسباكة إلى غير ذلك من بقية المهن التي تهيمن عليها أيدي العمالة الوافدة.
إن جهل الشباب بمفهوم العمل بصفة عامة والعمل المهني بصفة خاصة ومتطلبات ذلك العمل وكذلك تلك النظرة الدونية التي ينظر من خلالها المجتمع إلى الشاب السعودي الذي يعمل في تلك المهن تعتبر من أسباب عزوف الشباب عن تلك المهن، وهذا يولد شعوراً متوارثاً لدى الأجيال يدفعهم إلى التهرب من أي عمل مهني.. وفي نظري أن هذا ما يجب أن يهتم به المعنيون بتحقيق السعودة.
هناك من يقول إن عدم تأهيل الشباب السعودي لتلك المهن هو من الأسباب التي أعاقت تحقيق السعودة وهنا أقول: هذا كلام صحيح ولكنني أرى أنه ليس أساس المشكلة، لأننا لو نظرنا إلى العمالة التي تأتي إلى بلادنا نجد أن غالبيتها غير مدربة والنسبة الكبيرة من العمال الوافدين يتدربون لدينا من خلال ممارسة المهنة لفترة من الزمن وبعد ذلك نجد أن العامل الوافد قد أصبح محترفاً في المهنة التي يعمل بها وخصوصاً إذا علمنا أن هناك مهنا لا تحتاج إلى تدريب، كما أن هناك مهنا يكفي للشباب السعودي أن يمارس العمل فيها لفترة بسيطة ليصل إلى مستوى إتقان تلك المهن.
وهناك من يقول إن عدم تعاون رجال الأعمال وتدني الأجور في تلك المهن هو سبب من أسباب إعاقة السعودة وهنا أقول: إن هذا كلام صحيح، ولكنني أرى أنه ليس أساس المشكلة لأن الشاب السعودي لو كانت لديه رغبة في تحصيل الرزق وكسب العيش فإنه سيتجه إلى أي مهنة مهما كانت، لأنه في النهاية يريد أن يصل إلى المال وبأي طريقة وهو يعلم أننا في زمن أصبحت الوظيفة فيه أمراً صعباً وأقرب إلى الخيال في أحيان كثيرة، في ظل ارتفاع أسعار السلع وزيادة الأعباء المالية على المواطنين.
وهنا يتضح لنا أن الأسباب الرئيسية في إعاقة السعودة وعدم رغبة الشباب السعودي في الاتجاه للأعمال المهنية تتركز حول جهل الشاب السعودي بمفهوم العمل ومتطلباته وكذلك تلك النظرة الدونية التي يتبناها كثيرون تجاه العمل المهني والتي تجعل شبابنا يفضلون البقاء بلا وظيفة على أن يعمل في مهنة تكون سبباً في امتهان المجتمع له، ويكفي هنا أن يصادف هذا الشباب موقفاً واحداً يشعر معه أن هناك من يحتقره لأنه يعمل سباكاً أو نجاراً أو بائعاً ليكون هذا الموقف سبباً في أن يترك هذه المهنة أو يمحوها من ذهنه إذا كان يفكر في الإقدام عليها.
ورسالتي هنا إلى معالي وزير العمل الدكتور غازي القصيبي ألخصها بأننا إذا ما أردنا تحقيق السعودة كما يجب فإن علينا أولاً وقبل سن أنظمة السعودة السعي إلى تثقيف الناشئة حول جميع الأمور المتعلقة بالعمل من حيث مفهومه وأهميته ومتطلباته، وكذلك تصحيح النظرة الخاطئة والدونية التي ينظر من خلالها كثيرون إلى بعض الأعمال المهنية.
ولعلي هنا أقدم بعضا من المقترحات والتي آمل أن تسهم في ترسيخ المفاهيم الصحيحة حول العمل في أذهان الناشة وترفع درجة وعي المجتمع حول العمل المهني ومن تلك المقترحات:
1- الاهتمام بالناشئة من حيث تثقيفهم بمفهوم العمل ومتطلباته وتربيتهم على حب العمل وتقدير المهنة أيا كانت طبيعتها، وهذا يتطلب تضمين مناهجنا موضوعات تبين مفهوم العمل وأهمية احترام المهنة مع استغلال أمثلة الدروس في بعض المواد لتتضمن إشارات حول هذا الموضوع، من تشجيع المدارس على تنظيم رحلات مدرسية إلى المعاهد المهنية والكليات التقنية ليتعرف الناشئة عن قرب على ما تقدمه تلك المعاهد والكليات من جهود وخدمات من أجل تدريب الشباب على الأعمال المهنية المتنوعة.
2- تخصيص غرفة في كل مدرسة من مدارسنا الابتدائية تكون بمثابة ورشة عمل مصغرة مهمتها تثقيف الطلاب ببعض المهن كالنجارة والميكانيكا والسباكة إلى غير ذلك من المهن التي نتطلع إلى أن يتجه إليها شباب الوطن في المستقبل وبقناعة داخلية تكون سلاحهم أمام تلك النظرة الدونية التي يتبناها كثيرون حول الأعمال المهنية وتكون هذه الغرفة بمثابة نشاط من ضمن الأنشطة التي تؤديها المدرسة وبواقع ثلاث حصص في كل فصل دراسي ويقوم بالإشراف عليها أحد مدربي المعاهد المهنية المنتشرة في مناطق بلادنا أو أحد المعلمين الذين يتم إعدادهم بشكل جيد للقيام بهذه المهمة لتكون هذه الغرفة بمثابة تمهيد الناشئة لتقبل تلك المهن وتثقيفهم حولها.
3- استغلال المراكز الصيفية التي تقام في مدارسنا أثناء العطلة الصيفية وتشرف عليها وزارة التربية والتعليم لإعطاء الأبناء فكرة حول العمل المهني وتعريفهم بالمهن التي يحتاج إليها الوطن وتثقيفهم حول الكليات والمعاهد المعنية بتدريب الشباب على العمل المهني.
4- تخصيص أسبوع سنوي يحمل اسم (السعودة نحن من يحققها) تشرف عليه وزارة العمل ويهدف إلى التعريف ببعض المهن والحرف التي يحتاج الوطن إلى شغلها بأيدٍ سعودية والدور الذي تقوم به الكليات التقنية والمعاهد المهنية من أجل تدريب الشباب على الأعمال المهنية، ويتم من خلال هذا الأسبوع توزيع النشرات وإقامة المحاضرات واللقاءات حول أهمية بعض المهن التي ينظر إليها البعض بنظرة دونية وضرورة تشجيع الشباب للإقبال عليها.
5- ضرورة قيام وزارة الثقافة والإعلام وبالتنسيق مع وزارة العمل بإيجاد برامج توعوية (دورية) حول أهمية سعودة المهن التي تشغلها العمالة الوافدة وضرورة تشجيع الشباب في الإقبال على المهن التي يمكن لشبابنا العمل فيها حتى يتسنى للوطن تسريح بعض من الأعداد الكبيرة لتلك العمالة الوافدة والتي زاحمت شباب الوطن في مصادر تحصيل الرزق وتسببت في تفشي الكثير من المشكلات الأخلاقية والأمنية. وبعد القيام بهذه كله ستكون (أنظمة السعودة) أسهل تطبيقاً وسيكون المجتمع والقطاع الخاص من أكبر المساهمين في مساعدة الشباب في الحصول على الوظائف وهم يجدون في دواخلهم ما يحرك رغبتهم في توظيف الشباب والذين لم يأتوا من كوكب آخر؛ حيث إن هؤلاء الشباب هم أبناؤهم وإخوانهم ومواطنون يعيشون معهم وهم يعلمون مدى رغبتهم في الحصول على الوظيفة أيا كانت طبيعتها. إن قرار تطبيق السعودة يجب أن يبدأ من دواخلنا أولا وأن يكون الشباب والمجتمع على قناعة تامة بأهمية العمل عموماً والعمل المهني خصوصاً.
fauz11@hotmail.com