Al Jazirah NewsPaper Tuesday  24/07/2007 G Issue 12717
أصداء
الثلاثاء 10 رجب 1428   العدد  12717
ترقيد الجنين
حقيقة طبية أم أسطورة خرافية؟

من الحقائق العلمية الثابتة أن أقصى مدة لحمل المرأة هو تسعة أشهر، وقد تأخذ أياماً من الشهر العاشر.. فكيف يمكن أن يتم (ترقيد) الجنين في رحم الأم لسنوات عديدة بما يشذ عن قوانين الطب، ونواميس الطبيعة؟ وفي الوقت نفسه أيضاً وهو الأدهى والأعجب أن المرأة التي تُقدِم على هذا العمل تستطيع بحكم التجربة، وبقوة إتقان هذه الصنعة التي نحار في تصنيفها - بالسحرية أو الأسطورية أو الشعبية الخرافية أو الطبية العلمية - أن تطيل مدة رقاد الجنين فتكون قصيرة أو طويلة، ولو وصف بعضهم هذه الظاهرة بالشعبية المجربة، أو التراثية الخرافية؛ لكان وقع هذا الخطب على النفوس أيسر، ولكن المحيّر ورودها في مصنفات قديمة معروفة لمصنفين معروفين كالإمام السيوطي -رحمه الله- في كتابه المطبوع الموسوم ب(الرحمة) الذي صَبغ على هذه الظاهرة بالصبغة العلمية سواء أكان يهدف من ذكرها في كتابه وتحديد مكوناتها العشبية إلى صبغها بالطبية، أم إلى إدراجها ضمن الوصفات الشعبية المجربة المفيدة المعروفة، ولنتأمل قوله في شرح طريقتها: (لترقيد الجنين في بطن أمه: تأخذ المرأة الكمون والعرعار وتدقهما ناعماً، وتفطر عليهما ثلاثة أيام؛ فإنه يرقد بإذن الله تعالى)، ثم استرسل في وصفة أخرى تأخذ بها المرأة الحُبلى إذا أرادت لتحديد مدة رقاد الجنين وإيقاظه، يقول السيوطي: (تأخذ المرأة الطاجين وتكبه على بطنها؛ فإن كبته مرة يرقد عاماً، وإن كبته مرتين يرقد عامين، وإن كبته أكثر يرقد أكثر، وتفطر على نصف أوقية كمون في عسل، والآخر تخبيه (تحتفظ به) حتى تريد ثورانه (أي إيقاظه) ثم تستعمله)، وليقنع السيوطي متلقّفي الوصفة، يختم بالعبارة المشهورة (وهو صحيح مجرَّب).

حادثة سنة 1369هـ:

وشهدت المملكة العربية السعودية سنة 1369هـ حادثة على جانب كبير من الغرابة أحدثتْ ضجّة عامة في الحجاز وتناولتها الصحافة الحجازية، فقد رفع إلى سماحة مفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ - رحمه الله- مسألة مما نحن بصدده فجاء تحت رقم (3223) من فتاويه ما نصه:

(ولدته لأكثر من أربع سنين منذ أن أبانها وألحقه الحاكم به، وأيّد سماحته هذا الحكم بجوابين: الجواب الأول: اطلعت على حكم حسن مشّاط أحد أعضاء المحكمة الكبرى بمكة بين (خديجة...) و(صالح...) في الولد الذي ولدته خديجة المذكورة بعد خمس سنين وتسعة أشهر منذ أبانها، المصدّق من رئاسة القضاء أن الولد المذكور لاحق ب(صالح...) مع ما برفقه من اللائحة الاعتراضية، وما قررته أكثرية الهيئة المخصصة لتمييز هذا الحكم من تعيّن نقض الحكم بناء على أن القول: إن أكثر مدة الحمل أربع سنين، وقرار أحد أعضائها خلاف جماعته من عدم جواز نقض هذا الحكم، وأنه الصواب مع تصميم القاضي المذكور على حكمه، فوجدتُ ما حكم به القاضي المنوّه عنه أعلاه حكماً مستقيماً لا يسوغ نقضه.

الجواب الثاني: عن الضجة حول هذا الحكم المؤيد، والجواب عن الطعن في مذهب ومعتقد أهل نجد عموماً، تحت فتوى أخرى تحمل الرقم (3234) تحت عنوان: (لا تحديد في أكثر مدة الحمل) ونصها: (قوله وأكثر مدة الحمل أربع سنين؛ لأنها أكثر ما وجد (. ..) والمسألة مسألة خلاف: منهم مَن يحدد بأربع، ومنهم مَن يحدد سنتين، ومنهم مَن لا يحدد بحد بل يعتبر الأصل ولا سيما إذا لم يرد عليه ما ينفيه، وقد ذكر ابن القيم طرفاً من المسألة في كتابه (تحفة الودود)، وإلا فموجود مواليد تجاوزوا أربع سنين عُلِمَ وتحقق نسبتهم إلى مَن نُسبوا إليه، وذلك بتحقق الحمل ثم يتأخر، ووُجد مولود أخذ أربع عشرة سنة حمل به ثم مرض، ووُجد تامة أسنانه).

هذه القضية أخذت بعداً كبيراً في الصحافة في حينها، ولم يرض المدعي (طليق المرأة) بحكم القاضي المشّاط، فرفع إلى الملك عبدالعزيز بعد أن أُثير الموضوع في الصحف، وفي النهاية أُلحق الولد بالمدعي.

(الراقد) LصEnfant endormi: ومما يؤكد لنا وجود هذه الظاهرة وظهورها في بعض المجتمعات العربية، ذلك الفيلم المطوّل (ساعة ونصف) الذي أخرجته المخرجة المغربية البلجيكية ياسمين قصارى باسم (الراقد) LصEnfant endormi عن ترقيد الجنين في رحم أمه، وحصلتْ بموجبه على جائزتين وتنويهاً خاصاً من مهرجان فريبورغ السينمائي، والفيلم استمد قوته من إيحاء الأسطورة الشعبية للحديث بجمال وعمق عن الحياة الخاصة للنساء ورغباتهن،

وقد وصف النقّاد هذا الفيلم بالطبيعة الساحرة والألوان الحية والوجوه المعبرة والمصائر الحزينة والمواقف الجريئة وردود الفعل الجريئة والموسيقى المؤثرة، ومشاهده التي صُوّرتْ في قرية قرب وجدة شرقي المغرب، والصمت الذكي، والسيناريو السلس والإخراج المدهش.. يقول الصحفي مصطفى واعراب: إن ترقيد الجنين ما زال الاعتقاد به سائداً حتى اليوم في الأرياف العميقة بالمغرب العربي.. والطريف الذي أشاد به هذا الصحفي أن ياسمين قصارى سمعت بقصة الجنين الراقد للمرة الأولى حين كانت تمضي عطلتها المدرسية برفقة أسرتها وهي في التاسعة من سني عمرها الزاهرة، ثم عادت إلى القرية الريفية القديمة بعد انصرام ما يزيد على ربع قرن مدفوعة بحنينها الطفولي وهي تحمل معها كاميرا لتصور باكورة أفلامها الطويلة (الراقد). يحط المشاهد على نغمات أهازيج شعبية في قرية منعزلة شرق المغرب، تتزوج زينب من أحمد الذي يعتزم الهجرة إلى إسبانيا سرّاً رفقة مجموعة من رجال القرية سعياً وراء مستقبل أفضل، ويركب أحمد ورفاقه شاحنة تأخذهم نحو مصير مجهول، وتظل زينب مع أسرة زوجها، وتقضي غالب أوقاتها مع حليمة التي تركها زوجها أيضاً مع طفلين.. وتكتشف زينب أنها حامل فتقرر تحت ضغط الحَمَاة اللجوء مجدداً إلى شعوذة ذلك الذي يدعي الفقه لتنويم الجنين إلى عودة أبيه في طقوس وأحجبة غريبة، وأصبحت زينب أماً لجنين (نائم)، وحليمة أماً لطفلين (مستيقظين) ينتظران عودة الأب، وتمرّ الأيام والأسابيع والأشهر، ولا يعود رجال القرية، وتحتجز الوحدة نساءها، وتعيش زينب حزنها في صمت. وفي تطور سريع للأحداث، تبدي حليمة إعجاباً بأمزيان الذي هاجر إلى المغرب من قبل وعاد إلى قريته مقتنعاً بأن الذل والتعب في بلاده خير من الذل والتعب في بلاد الناس، ويراهما أهل البلدة يتحدثان قرب النهر.. وتُسجن حليمة بموافقة أمها في بيتها لينهال عليها رجال أسرتها بالضرب، ويلقى أمزيان المصير نفسه، وتستمر الحياة في القرية التي أصبح نساؤها أكثر من رجالها، يغسلن القمح والصوف في النهر، ويرعين القطيع ويحلبن الماعز، ويحاربن الفقر قدر المستطاع، ويعجن الخبز ويطعمن الصغار والكبار، وينتظرن الشاحنة التي أخذت رجالهن لعلها تحمل لهن خبراً سارّاً.. ثم يبتلع التشاؤمُ التفاؤل، وتقرر حليمة المتمردة مغادرة قرية زوجها، وتثور زينب الصامتة بطريقتها ضد أسطورة (الجنين الراقد).

والفيلم -في النهاية- لا يكشف عن خطورة سيطرة أسطورة (ترقيد الجنين) وحسب على المجتمعات، بل يكشف أيضاً عن جملة من المشكلات التي لا تقل خطورة عن الأسطورة مثل: البطالة، والأمية والجهل، والهجرة، والعنف ضد النساء. ويكشف الصحفي مصطفى وإعراب عن الهدف الذي تريد المخرجة الوصول إليه من خلال الفيلم: (أرادت أن يكون الجنين الراقد في الشريط بمثابة نقطة مضيئة تثير للمشاهد وضع أولئك النساء المتروكات وحيدات في مواجهة الغياب القسري الطويل لأزواجهن)، وأكبر دلالة على سيطرة أسطورة (الجنين الراقد) في المجتمع المغربي أن وادي (مكون) الذي يقع في المغرب في منطقة أمازيغية، ويعني (مكون) عند الأمازيغيين: الجنين الراقد في بطن أمه. والسؤال الذي يجب أن نبحث عن إجابته هو: كيف يستطيع السحر أن يجعل الجنين ينام لسنوات عديدة تخالف قوانين الطب والطبيعة؟ وما رأي طلبة العلم الشرعي والطب الحديث والعلم الحديث والقراء في ظاهرة (ترقيد الجنين) حق أم باطل؟ صدق أم كذب؟ حقيقة يعترف بها العلم المعاصر أم خرافة تُضمّ إلى مصنفات السحر والشعوذة والأساطير وما فيها من تخييل وإيهام؟؟. وكيف نوفّق بين قوله تعالى:{وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُوْنَ شَهْراً}، وقوله: {وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِير}وبين ما يقال عن أجنّة رقدت في بطون أمهاتها لخمس سنوات أو ست أو سبع؟. فما نظرة الطب الحديث إلى هذه الظاهرة الغريبة العجيبة المجهولة في مغزاها، وقد وردت في مصنفات سحرية شهيرة، والسحرة يسخرونها في منع المرأة من الحمل، وهذا الطفل الكامن في أحشائها أمره شاذ، ويمكن أن نقول: إنه في مرحلة الموت الصغرى، فالنوم موت أصغر كما أُثِرَ عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

حنان بنت عبدالعزيز آل سيف


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد