Al Jazirah NewsPaper Thursday  26/07/2007 G Issue 12719
مقـالات
الخميس 12 رجب 1428   العدد  12719

أعرابيات وبدويات المتنبي
أ. د. عبد الرحمن بن سعود بن ناصر الهواوي

عندما يجلس المرء أمام شاشة التلفزيون، ويشاهد بعض القنوات العربية الفضائية والمتخصصة بالغناء والرقص والطرب، ويرى ما تظهر عليه المطربة أو الراقصة من عري، يتذكر ما قيل عن ورقة التوت ويقارن ما يراه أمامه بما كان يراه - ويراه الآن - منذ عدة عقود في قرى المملكة ومدنها،

وخصوصاً نجد من شكل ومظهر للمرأة في ذلك الزمان، فالمرأة في مظهرها كانت على حالتين، الحالة الأولى: عباءتها فوق رأسها، ووجهها مغطى بشيلتها، ولا يُرى من جسمها إلا كفاها، وهذا ينطبق على عموم الحضريات. أما الحالة الأخرى فهي لا تختلف عن الأولى فيما عدا وجود البرقع في غطاء الوجه، وهذا ما تفعله أغلب البدويات وفي كلتا الحالتين، فالمرأة تقوم بأعمالها وواجباتها خير قيام، وهي مكرمة محترمة معززة عند زوجها وأهلها وعشيرتها وقومها. وهذا الوضع أعادنا إلى أكثر من ألف عام لننظر الأسباب التي جعلت شاعر العرب الأكبر أبا الطيب المتنبي ينعت ويوصف بحبه وغرامه للأعرابيات والبدويات، ولم تخلُ قصيدة من قصائده من الغزل والتشبيب بهن.

يقول نافع (1403هـ - 1983م): إن المطلع على غزل المتنبي يدهش عندما يرى أن هذا الشاعر الجوال الذي خبر مختلف الشعوب، واطلع على شتى الثقافات، وشاهد تنوع الحضارات، ورأى الجمال الأنثوي المتنوع في مختلف الأقطار، يغنّي في غزله للأعرابيات وينشد للبدويات، ويعجب عندما لا يجد لهذا الرجل غزلاً متحضراً إلا في النادر.

قال أبو الطيب في قصيدة يمدح بها المغيث العجلي:

هام الفؤاد بأعرابية سكنت

بيتاً من القلب لم تمدد له طنبا

مظلومة القد في تشبيهه غصنا

مظلومة الريق في تشبيهه ضربا

بيضاء تطمع فيما تحت حلتها

وعز ذلك مطلوباً إذا طلبا

كأنها الشمس يعي كف قابضه

شعاعها ويراه الطرف مقتربا

مرت بنا بين تربيها فقلت لها

من أين جانس هذا الشادن العربا

فاستضحكت ثم قالت كالمغيث يرى

ليث الشَّرَى وهو من عجل إذا انتسبا

وقال أيضاً في قصيدة يمدح بها كافور الأخشيدي:

من الجآذر في زي الأعاريب

حمر الحُلى والمطايا والجلابيب

إن كنت تسأل شكاً في معارفها

فمن بلاك بتسهيد وتعذيب

وقال:

ما أوجه الحضر المستحسنات به

كأوجه البدويات الرعابيب

حسن الحضارة مجلوب بتطرية

وفي البداوة حُسْنٌ غير مجلوب

أين المعيز من الآرام ناظرة

وغير ناظرة في الحسن والطيب

أفْدِي ظباء فلاة ما عرفن بها

مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب

ولا برزن من الحمام مائلةً

أوراكهن صقيلات العراقيب

ومن هَوَى كل من ليست مموهة

تركت لون مشيبي غير مخضوب

ومن هوى الصدق في قولي وعادته

رغبت عن شعر في الوجه مكذوب

لقد قال أبو الطيب هذه القصيدة وهو بمصر عند كافور، وهذا يعني لنا أنه رأى وشاهد أنماطاً متنوعة في سلوك النساء بمصر وطباعهن وملابسهن في ذلك الزمن البعيد، ولهذا السبب فهو عندما شاهد أو تخيل ركب تلك النساء الأعرابيات البدويات أرخى العنان لقريحته الشعرية فوصفه.

يقول نافع (1403هـ - 1983م): ولعل هذه الأوصاف الخلقية التي وردت في أبيات الشاعر المتنبي كانت دافعاً لبعضهم كي يرى أن الأبيات أولى بأن تدرس في كتب الأخلاق لا الشعر. ويقول حلمي (1406هـ - 1986م): يقول علماء النفس والأخلاق إن الكذب لا يكون بالقول فقط، بل يكون بالفعل أيضاً، وتختص النساء بنصيب أوفر من نصيب الرجال من هذا الداء، لكن شاعرنا المتنبي قد سبقهم إلى الاهتداء إلى القاعدة، وأجاد في شرحها (ما أوجه الحضر المستحسنات به..)، فقد مزج بين معنيين مختلفين أو فكرتين متباينتين: إحداهما شعرية أدبية وهي غرامه بالبدويات، والأخرى فلسفية خلقية، وهي الكذب والتصنع في المرأة الحضرية وكذبها في حركاتها وأفعالها وتحايلها على التجمل بأنواع التطرية والتطيب والتلوين والتمويه ومضغ الكلام، ثم وقف موقف المعلم الصادق الذي يعمل بما يعلم.

وقال المتنبي في قصيدة يمدح بها عضد الدولة البويهي:

وكم دون الثوية من حزين

يقول له قدومي ذا بذاكا

ومن عذب الرضاب إذا أنحنا

يقبل رحل (تروك) والوراكا

يحرم أن يمس الطيب بعدي

وقد عبق العبير به وصاكا

ويمنع ثغره من كل صب

ويمنحه البشامة والأراكا

لقد قال أبو الطيب هذه القصيدة، وهو في بلاد فارس في شعبان سنة 354هـ، والأبيات تدل على أنه كان في عجلة من أمره ليصل إلى الثوية، وهي مكان بالقرب من الكوفة حتى تستقبله أعرابيته (؟) التي كانت حزينة عليه في غربته حتى إنها عند وصوله إليها ستقبل رحل ووراك ناقته تروك، وقد تطيبت له، وهي التي قد حرمت الطيب في غيبته، ولم يصل إلى ثغرها مخلوق لصونها وعفتها، لكن منحته لأعواد البشام والأراك تستاك بها.

وقال المتنبي أيضاً في قصيدة أخرى:

وحجبت النوى الظبيات عني

فساعدت البراقع والحجالا

لبسن الوشي لا متجملات

ولكن كي يصن به الجمالا

وظفرن الغدائر لا لحسن

ولكن خفن في الشعر الضلالا

يقول: لما ارتحلوا (البدويات على ظهور العيس) حجبتهم النوى (الفراق) عني، فساعدت النوى ما كان يحجبهن عني قبل من البراقع والحجال (الخدور)، وهن ما لبسن الوشي (الديباج) لحاجة إلى التزين به، ولكن لصون (حفظ) جمالهن به وهن ما ضفرن الشعور إلا وخفن ضلالهن فيها لو أرسلنها.

وقال أبو الطيب في قصيدة يمدح بها سيف الدولة:

سقاك وحيانا بك الله إنما

على العيس نَوْرٌ والخدور كمائمه

لقد شبه أبو الطيب في بيته هذا النساء الأعرابيات وهن على ظهور العيس (الإبل البيض) بالنوار وخدورهن كمائمه، وهذا تشبيه في غاية الدقة، فالنور في علم النبات أزهار تحمل على النباتات الزهرية في مجموعات والأجزاء الخضرية التي تحمي الزهرة تسمى بالأكمام (أوعية الزهر)، وقبل تفتح الزهرة تكون هذه الأكمام متلاصقة، وبعد تفتحها تظهر الأجزاء الملونة منها. وهنا جعل أبو الطيب أعرابياته اللاتي في الخدور نوراً لحسنهن وصفاء لونهن، وطيب رائحتهن، وجعل الخدور لهن بمنزلة الكمائم!! وقال المتنبي أيضاً في قصيدة يمدح بها عضد الدولة وهو في بلاد فارس:

إن الذين أقمت واحتملوا

أيامهم لديارهم دول

الحسن يرحل كلما رحلوا

معهم وينزل حيثما نزلوا

في مقلتي رشأ تديرهما

بدوية فتنت بها الحلل

تشكو المطاعم طول هجرتها

وصدودها ومن الذي تصل

ما أسأرت في العقب من لبن

تركته وهو المسك والعسل

خاطب أبو الطيب الطلل الذي رحل عنه أهله، وبين له أن أهله الراحلين عنه سيطيب بهم المكان الذي سيحلون به؛ لأن الحسن يرحل معهم في مقلتين مستعارتين من ظبي صغير تديرهما بدوية فتنت بهما أهل الحلل الذين حلوا معها، وهذه البدوية قليلة الأكل ولا تواصل أحداً، وهي إذا أبقت من سؤرها (السؤر: ما أبقاه الشارب لغيره) تركته مسكاً وعسلاً. يقول التونجي (1413هـ - 1992م) وهو يتحدث عن حب المتنبي للأعرابيات: شاعر من أهل الحضر تنقل بين القبائل، وعايش الأعرابيات، فرأى فيهن البراءة والطبيعة على عكس الحضريات ذوات الجمال المصنوع المضمخ بالأطاياب والملمع بالحمامات والبعيدات عن الأصالة في المنطق والحديث.

وحباً للبادية وما فيها استرسل في وصفهن وأبدع أيما إبداع، ولعل نفسه الأبية الطموحة المترفعة عن كل ما يمس الحضارة والمتعشقة للأسلوب البدوي الصحراوي هي التي دفعته إلى حب الأعرابيات، ففيهن البراءة والنضارة والحضارة. وإذا داخلنا الشك في حبه لإحدى الحضريات، فمن المؤكد أن قلبه سقط في البادية على باب إحدى الخيام التي مر بها، ولهذا يشير بقوله:

هام الفؤاد بأعرابية سكنت

بيتاً من القلب لم تمدد له طنبا

ويلاحظ القارئ العرض البدوي البريء الصريح للحكاية من أولها، فقد مرت به فوقع حبها في قلبه وعجب لهذا الجمال المشرق الأخّاذ، فساءلها عن ربعها وذلك بأسلوب حواري يسيل عذوبة وعرض قصصي واقعي، وإذا خشن قلبه مع الحضريات فقد لان مع من أحب من البدويات. ومن المواقف الرقيقة في غزله حديثه عنهن وهن راحلات، ينقلن الحسن حيثما حللن..

الرياض: 11642 ص.ب 87416

المراجع:

- عبد الفتاح صالح نافع، (1403هـ - 1983م): (لغة الحب في شعر المتنبي) - دار الفكر للنشر والتوزيع - عمان - الأردن.

- محمد كمال حلمي، (1406هـ - 1986م): (أبو الطيب المتنبي) - مكتبة سعد الدين - دمشق.

- محمد التونجي، (1413هـ - 1992م): (المتنبي مالئ الدنيا وشاغل الناس) - عالم الكتب.

dr.a.hawawi@hotmail.com
لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5834 ثم إلى الكود 82244

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد