Al Jazirah NewsPaper Thursday  26/07/2007 G Issue 12719
مقـالات
الخميس 12 رجب 1428   العدد  12719
هل يعمل العرب على انقراض لغتهم؟
د. عبدالرحمن بن محمد القعود

نبت هذا التساؤل في ذهني منذ أن ظهرت أصوات علماء لغة ومتخصصين وباحثين، محذرة من أضرار وأخطار، بل كارثة (على حد تعبير أحدهم) تهدد البشرية في لغاتها في عصر العولمة، فالتقارير العالمية تشير.....

..... (وفقاً لما كتبته الدكتورة فيحاء عبدالهادي) إلى أن عدد لغات العالم الآن يتراوح بين ستة إلى سبعة آلاف لغة، وأن نصف هذه اللغات مهدد بالانقراض في السنوات المقبلة، وأن تسعين في المئة منها سينقرض خلال هذا القرن؛ وذلك نتيجة لارتباط العولمة بالهيمنة الاقتصادية والسياسية للقوى الكبرى التي تفرض لغاتها على الدول المختلفة. ومن هذه التقارير تقرير منظمة اليونسكو الذي يقول: (إن اللغة العربية في آخر هذا القرن ستخرج من اللغات العالمية، ولن يبقى لها أثر). ومن الأسباب فيما أعلم أن مندوبي الدول العربية (أو جُلهم) لا يتحدثون بها في الاجتماعات أو المناقشات الرسمية، فبماذا يُفسَّر إحجامُ هؤلاء المندوبين عن التحدث بلغة من حقهم أن يتحدثوا بها بوصفها عالمية، ومن واجبهم أن يتحدثوا بها بوصفها لغتهم القومية؟

ثم أخذت نبتة هذا التساؤل في التمكن بعد أن علت أصوات عربية يتوجس أصحابها خيفة من انقراض اللغة العربية. وهذا التوجس، في حقيقته، جرس إنذار يقرعه هؤلاء منبهين إلى مصير يهدد وجود اللغة العربية ومحذرين منه. وآخر من قرأت لهم في هذا هم الدكتور عبدالسلام المسدي، عالم اللسانيات وأستاذها في جامعة تونس، والدكتور أحمد عكاشة، عالم النفس ورئيس الجمعية الدولية للطب النفسي، والكاتب والناقد السينمائي المصري سمير فريد. هؤلاء الثلاثة حذروا في مؤتمر عن (لغة الطفل العربي في عصر العولمة) من خطر اندثار أو موت أو انقراض (وفقاً لتعبير كل منهم) اللغة العربية.

وهؤلاء وأمثالهم لا يطرحون الرأي أو الكلام على عواهنه دون تفكير وتأمل وروية، فما توجسوه أو حذروا منه لا بد أنه كان نتيجة رصد وتتبع ودراسة وتقييم لواقع اللغة العربية وإدراك واع للأخطار والتحديات المحدقة بها، وذلك من منطلق تخصص كل منهم أو موقعه أو هما معاً. ولهذا فإن على كل من يضمهم محيط دائرة المسؤولية في هذا الشأن، ومن تخفق قلوبهم بحب لغتهم وأمتهم أن يتفاعلوا مع تلك التقارير وهذه التحذيرات سواء بالتعامل الذاتي النوعي مع اللغة العربية، أو الإسهام بما يعززها ويدرأ عنها الأخطار.

إن التقارير العالمية التي أشرنا إليها أمر مزعج؛ لأن لغات لا تستحق الموت وثقافات من المؤسف أن تندثر، ربما يجرفها تيار العولمة إلى المقبرة، وهو مزعج ومقلق لأن هذا التيار لن يكترث، وربما لن يوفر جهداً لاجتراف اللغة العربية مع ما يجترف من لغات، ولعل هذا هو أكبر تحد تجابهه اللغة العربية وأهلها وثقافتهم، فهل هذا التحدي العولمي هو مما جعل هؤلاء وغيرهم يوجسون الخيفة من انقراض اللغة العربية؟ نعم، لكن واقع اللغة العربية الذي تعد بعض تجلياته مفرزات لهذا التحدي العولمي، هو في صدارة ما يثير المخاوف عليها. والمؤسف أن بعض مظاهر هذا الواقع أوجده أهل اللغة أنفسهم ثم استمرؤوه إلى حد أن أصبح التساؤل المعنونة به المقالة تساؤلاً مشروعاً، فما واقع اللغة العربية الذي أثار قلقاً على وجودها من قبل الغيورين الأوفياء من أهلها، ودفع منظمة اليونيسكو نفسها إلى التنبؤ بخروجها من اللغات العالمية وباندثارها؟

واقع اللغة العربية، قياساً إلى ما يجب أن يكون عليه، هو واقع مؤلم ومحزن، ويطلق إشارات خطر واستنجاد في الوقت نفسه. ولا استثني بلداً عربياً؛ فالحالة عامة، وما يمكن استثناؤه هو أن تردي هذا الواقع في بعض البلدان العربية أكثر إيلاماً، فما مظاهر هذا الواقع المؤلم؟

أولاً: الضعف اللغوي: والضعف اللغوي ظاهرة تكررت الشكوى من وجودها عند الشعوب العربية بعامة وعند الطلاب والطالبات بخاصة، حتى المتخرجون والمتخرجات بدرجات جامعية إلى حد أن أحدهم وإحداهن لا يستطيعان الكتابة أو التحدث عن موضوع ما بلغة عربية سليمة في نحوها وصرفها وإملائها. وعلينا أن نتصور ما يحدث لهذا الموضوع المتناول من اضطراب وارتباك إذا عولج بلغة ركيكة معتلة في جوانبها التي أشرنا إليها. وأنا شخصياً شاهد على هذا؛ لمسته في المواقع التي عملت فيها، وألمسه الآن فيما أقرأ وأسمع. والسبب الرئيس لهذا هو ضعف منهج تعليم اللغة العربية، واختلال طريقة تعليمها، وضعف كفاءة بعض معلميها، وضعف الكفاءة اللغوية للمعلمين الذين يدرسون مواد غير لغوية. نقول هذا لأهمية هذه الكفاءة اللغوية لأي مدرس كان وانعكاساتها الإيجابية على لغة الطالب. وقد انتبه الإنجليز إلى هذه فصارت مقولة (على كل معلم أن يعد نفسه لتدريس اللغة الإنجليزية) مبدأ أو قاعدة في سياستهم التعليمية، فهل نحن على هذا المستوى من الوعي، والاهتمام بلغتنا؟ أم أن الواقع يجبهنا بغير ذلك؟!

ثم انتشر هذا الضعف اللغوي مع انتشار حامليه في كل مجالات الحياة ومناشطها بل حتى عند بعض المذيعات والمذيعين الذين يفترض إجادتهم للغة العربية! وتعزز هذا الضعف وانتشاره باستمراره على الرغم من الشكوى منه منذ زمن! أفليس هذا الضعف اللغوي المزمن وعدم معالجته بالأساليب الناجعة هو مما يهيئ، بنصيب ما، لانقراض اللغة العربية؟

ثانياً: تراجع العربية الفصيحة أمام العامية في الإعلام المسموع والمرئي: لقد زحمت العاميةُ الفصيحةَ وأخرجتها من معظم التلفازات والإذاعات، ولم يبق لها إلا حيز ضيق هو هذه الفضائيات التي تعد، باختيارها اللغة العربية الفصيحة ثابتاً من ثوابت سياستها الإعلامية، وبصمودها في هذا الاختيار الذي نثمنه لها ونشكرها عليه - تعد إضاءات هادية في طريق الحفاظ على اللغة العربية وحمايتها على الرغم من أنها لا تتجاوز وربما لا تبلغ أصابع اليد الواحدة في خضم فضائيات كأنها قد عقدت تحالفاً مع العامية وقطعت على نفسها عهداً ألا تتحدث إلا بها. والمؤسف أن بعض الرؤساء والمسؤولين العرب، ومن يعدون من (النخب) لا يستعملون في خطاباتهم أو أحاديثهم التي يفرض المقام أن تكون بالعربية الفصيحة، إلا عامياتهم ولهجاتهم المحلية! أفليس هذا المد العامي والإصرار عليه، هو مهيئ آخر لانقراض اللغة العربية؟

ثالثاً: تغييب اللغة العربية عن مجالات (يجب) ألا يكون فيها إلا هي، وإحلال لغة أجنبية (الإنجليزية أو الفرنسية) بهذه المجالات بدلاً منها مثل ندوات ومنتديات ومؤتمرات تعقد في العالم العربي وتكون اللغة الرئيسة فيها هي الإنجليزية في الغالب. وعلى الرغم من أن انتقادات هذا الوضع والتبرم والشكوى منه جاء حتى من منتدين ومؤتمرين يسهمون في إقامة هذه المنتديات والمؤتمرات، إلا أن هناك إصراراً عليه كأننا أمام تحدٍ ليس للغة العربية وحدها وإنما لأهلها أيضاً. وهو تحد مشوب بعقوق هذه اللغة والتنكر لها والاستخفاف بقيمتها والجهل بقدرتها على أن تنهض بالمضامين المعرفية والعلمية لهذه المؤتمرات أو المنتديات. نقول هذا في ظل تيسر وسائل الترجمة، وحقيقة أن جُل من يحضرون بعض هذه المناسبات عرب! أفلا يسهم هذا في انقراض اللغة العربية؟

وإلى جانب ذلك المجال هناك مجال الجامعات؛ فتدريس العلوم فيها يتم باللغة الإنجليزية أو الفرنسية، بل إن التدريس بلغة أجنبية شمل حتى العلوم الإدارية والإنسانية، وبهذا تسقط حجة المصطلحات العلمية وعدم توافرها في اللغة العربية؛ فأية مصطلحات إدارية أو إنسانية تعجز اللغة العربية عن توفيرها؟! ولقد كتب الكثير من الباحثين والمتخصصين عن خطأ هذا النهج تربوياً وعلمياً وعن خطره قومياً، موضحين ومثبتين أن اللغة العربية قادرة على أن تنهض بهذه العلوم، كما عقد أكثر من مؤتمر لتعريب العلوم موصياً بتعريبها لكن الاستجابة هي صم الآذان! وفي تقديري أن من الأسباب الرئيسة لهذا هو عدم تمكن كثير من مدرسي هذه العلوم من اللغة العربية، ومَنْ جَهِل شيئاً جَهِل قدرته وأسراره وضعُف انجذابه إليه. والدليل أن ممن يدعون إلى تدريس الطب والعلوم باللغة العربية هم أطباء وعلماء أجادوا اللغة العربية فأدركوا قدرتها على النهوض بهذا الحِمل العلمي. أفليس في تغييب اللغة العربية عن جامعاتنا ما يهيئ لانقراضها؟

أما المجال الثالث أو ثالثة الأثافي فهو تغييب اللغة العربية عن التعليم العام باستثناء مادة اللغة العربية والمواد الدينية؛ فهناك دول عربية تطبق هذا النهج، وهناك أخرى أقرته؛ فمدارسها الأهلية على وشك تطبيقه. ووزارة التربية والتعليم في بلادنا أقرت هذا التنظيم.

وقد كتب الكثيرون منتقدين هذه الخطوة ومطالبين بالعدول عنها، ولكن الوزارة، حسب علمي، لم تستجب ولم توضح للناس مسوغات ما أقدمت عليه. أليس العرب بهذا لا أقول يهيئون لانقراض اللغة العربية وإنما يعجلون به؟

وسأورد شاهداً من الواقع على مدى تأثير تغييب اللغة العربية عن التعليم العام في بلد عربي هو لبنان (حماه الله وأنعم عليه بالاستقرار)؛ فقد شاهدت منذ فترة قريبة برنامجاً في تلفاز المنار عن (اللغة العربية وتحديات العصر). وقد اشترك في الحوار والنقاش شباب وشابات وُجِّهت إليهم وإليهن أسئلة عن اللغة العربية ورأيهم فيها، فاتفق جُلهم على أنهم يجدون في اللغة العربية صعوبة، وأن سبب هذه الصعوبة في رأيهم هو أن المدارس تعلم باللغة الأجنبية وتركز عليها، فكل شيء بالأجنبية ما عدا مادة اللغة العربية، بل إن بعض هذه المدارس كما ذكر أحد الشباب تمنع طلابها من التحدث باللغة العربية حتى في الفسح بين الحصص. ونتيجة لهذا التعليم بلغة أجنبية والتركيز عليها صاروا، كما يقول بعضهم، لا يهتمون باللغة العربية ولا يجدون رغبة فيها، ومن خلال إجاباتهم صارت اللغة العربية غريبة عليهم وهم غريبون عنها بدليل أن بعضهن ضحكن سخرية من تعريب مصطلحات مثل (الشبكة) للإنترنت والنسيخة للفاكس، وتساءلت إحداهن: كيف لي أن أتقبل مثل هذه الكلمات؟!

وسأتوقف بعد هذا وقفات سريعات حول بعض ما ورد في هذا البرنامج:

الأولى صعوبة اللغة العربية، فهذا زعم مقصود في بعض حالاته ووهم في حالاته الأخرى؛ ذلك أن علم اللغة والواقع يقولان إنه لا يوجد لغة صعبة ولغة سهلة بدليل أن كل طفل يتكلم لغة قومه في الثالثة من عمره تقريباً مهما تكن هذه اللغة. وسبب ما يتوهمه شبابنا من صعوبة للغتهم العربية هو عدم تعلمها تعليماً سليماً وكافياً، وعدم ممارستها، والظلم الواقع عليها من أهلها، هذا الظلم الذي امتعض منه حتى غير أهلها، فأحد المستشرقين أو المستعربين يقول: (ما رأيت لغة في العالم أغنى من اللغة العربية الفصيحة، وما رأيت لغة في العالم مظلومة من بنيها كاللغة العربية الفصيحة).

والثانية أن أحد المشاركين في البرنامج جعل (الخجل من الهوية العربية) أحد أسباب تراجع اللغة العربية، فتأملوا كيف أن الأمر لم يعد هوان اللغة العربية على أهلها، وإنما هوان أهلها على أنفسهم!

والثالثة هي تساؤل يبعثه مستوى هؤلاء الشباب والشابات في لغتهم العربية، ورؤيتهم إليها. والتساؤل هو: هل وصل العرب أو شرائح منهم إلى مستوى يوجب إعادة تأهيل لغوي؟! وفيما يتعلق بلبنان واللبنانيين نؤكد أن هذا البلد الجميل ليس بطبيعته فحسب بل بثقافته بعامة والعربية بخاصة كان له تاريخ محمود مع اللغة العربية جسده علماء لا يزالون في الذاكرة ببحوثهم ومؤلفاتهم في اللغة العربية والدفاع عنها. بل إن الشعب اللبناني نفسه كان متمسكاً بلغته العربية في وقت كان فيه بعض العرب في بلدان عربية أخرى يتبارون في التحدث بالتركية أثناء محاولة تتريك العرب لغوياً. فهل تباري العرب الآن في التحدث بلغة أجنبية (إنجليزية أو فرنسية) على حساب لغتهم الأم هو إعادة لهذه الحكاية المؤسفة.

والرابعة هي أن هؤلاء الشباب والشابات بمواقفهم من اللغة العربية إنما هم ضحايا، كما قال المشارك الرئيس في البرنامج الدكتور عصام نور الدين أستاذ اللغويات في الجامعة اللبنانية، وأقول: نعم إنهم ضحايا لخطط ومناهج تعليمية وإعلامية.

وبعد:

بعد أن وقفنا على واقع اللغة العربية ومظاهره، نعيد التساؤل: هل نعمل على انقراض لغتنا؟ هل نحفر قبرها بأيدينا وندفعها إلى هذا القبر؟

في الختام: إن كنا حريصين حقاً على ألا تنقرض هذه اللغة الجميلة فلنحرص على تحقيق أمور ثلاثة:

1- تعليمها تعليماً جيداً.

2- التعليم بها في كل مراحل التعليم.

3- ممارستها في الإعلام مسموعه ومرئيه، وممارستها من قبل المسؤولين والمثقفين في أحاديثهم وحواراتهم وتخاطبهم مع الناس، ولسنا نقصد ممارسة العربية الفصيحة التي لا يأتيها الخطأ من بين يديها ولا من خلفها؛ فليس هذا بمستطاع إلا للقليل منا، وإنما نقصد الفصيحة الميسرة (في حالة المشافهة)، والنأي عن اللهجات والعاميات وبخاصة في الإعلام والندوات والمؤتمرات.

4- جعلها اللغة الرسمية في المنتديات والمؤتمرات التي تعقد في العالم العربي، وتوظيف الترجمة للنقل إلى اللغة الإنجليزية.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد