Al Jazirah NewsPaper Monday  29/07/2007 G Issue 12722
محليــات
الأثنين 16 رجب 1428   العدد  12722

دفق قلم
هذا أَثر فأسك
عبد الرحمن بن صالح العشماوي

يقول المثل العربي: (كيف أُعاودك وهذا أَثَرُ فأسك؟)، وهو مثل ذو دلالة عميقة، وقد ذكرت له العرب قصةً كعادتها في عنايتها بالقصص، وربطت العرب بين هذا المثل وبين الجنّ، والعرب لها قصص كثيرة مع الجنّ، منها ما يصح ومنها - وهو الأكثر - ما يمليه الخيال العربي المتَّسع باتساع الصحراء وامتدادها. أما قصة هذا المثل فيرويها الميداني في كتابه (مجمع الأمثال) على النحو الآتي:

أصل هذا المثل على ما حكته العرب على لسان الحيَّة أنَّ أخوين كانا في إبلٍ لهما، فأجدبت بلادهما، وكان بالقرب منهما وادٍ خصيب لا يقربه أحد، وكانت في هذا الوادي حيَّة تحميه من كل أحد، فلما طال بأرض الأخوين الجدب، قال أحدهما للآخر: يا فلان لو أني أتيت هذا الوادي الذي تحميه الحيَّة فرعيت فيه إبلي وأصلحتها.

فقال له أخوه: إني أخاف عليك الحية، ألا ترى أنَّ أحداً لا يهبط ذلك الوادي إلا أهلكتْه؟ قال: فوالله لأفعلنَّ، وأبى أن يطيع أخاه، فهبط الوادي ورعى فيه إبله زمناً، وكان يتحاشى الحية ويحذر منها، ثم إنَّها باغتته ذات يومٍ فنهشته فقتلته، وبلغ الخبر أخاه فحزن على موت أخيه، وقال: والله ما في الحياة بعد أخي خير، فلأطلبنَّ الحية ولأقتلنَّها أو لألحقنَّ بأخي، فهبط ذلك الوادي وطلب الحية ليقتلها، وكان شديد العزم شديد الحذر، ففطنت الحية إلى قوته وحذره، وعلمت بصعوبة قتله، فقالت له: ألست ترى أني قتلت أخاك بعد حين، فهل لك في الصلح، فأدعك بهذا الوادي تكون فيه أنت وإبلك، وأعطيك كلَّ يوم ديناراً ما بقيت؟ قال: أَوَ فاعلةٌ أنتِ ما تقولين؟ قالت: نعم، فتحالفا وأعطى كلُّ منهما المواثيق لصاحبه، وجعلت الحية تعطيه كل يوم ديناراً، فكثر ماله حتى صار من أحسن الناس حالاً، ولكنَّه بقي حَذِراً من الحية، وبقيت هي حَذِرةً منه، ثم تذكَّر ذات يومٍ أخاه فقال: كيف ينفعني العيش وأنا أنظر إلى قاتل أخي؟ أمَّا الحيَّة فقد سكنتْ، ووثقت بما بينها وبينه من المواثيق، ووقر في نفسها أن الوادي الخصيب والدينار الذي يأخذه كلَّ يوم قد أزال ما في نفسه، ولم تعلم أن الرجل قد عزم على الأخذ بثأر أخيه، وبقي الرجل زمناً يحمل معه فأسه ويتحيَّن الفرصة للانقضاض على الحية وقتلها، وقعد لها ذات يوم، فمرَّتْ قريباً منه، فتبعها فضربها بالفأس فأخطأها ودخلت الجحر ووقعت الفأس على حجر فوق جحرها فأثَّرت فيه، فلما رأت الحيَّة صنيعه قطعت عنه الدينار، فخاف الرجل شرَّها وندم على ما فعل، فقال للحيَّة: هل لك في أن نتواثق ونعود إلى ما كنَّا عليه؟ فقالت: كيف أعاودك وهذا أَثَرُ فأسك؟

يُضرب هذا المثل العربي لمن لا يفي بالعهد، وهو من مشاهير أَمثال العرب، وفيه أثرٌ واضح من معنى الحديث: (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين)، وحينما نتأمل هذا المثل العربي، ونتأمل تفاصيل القصة التي رَوَتْها العرب عنه، نشعر أننا أمام مثل جديرٍ بالتأمُّل الذي يوصِّل أمتنا المسلمة إلى درسٍ من دروس الحياة، فهذه الحيَّة رأت صورة الغدر متمثلةً في ضربة الفأس المباغتة التي نجت منها، وظلَّ أثرها واضحاً على جُحرها، فلم يعد لديها مجال لإعادة ترميم بناء الثقة الذي تحطَّم أمام عينيها، فأعلنت للرجل رفضها القاطع لمد جسورٍ جديدة للتعاون بينها وبين الرجل، لقد عاهدها وواثقها على أمرٍ واضح، وجنى من ذلك العهد مصلحة كبيرة ببقائه في الوادي الخصيب، وبحصوله على دينارٍ يومياً، وهو مبلغ جديرٌ بالاحترام، ولكنَّه في لحظةٍ من لحظات الشعور بالحزن على فقد أخيه، نسي ذلك العهد والميثاق، فكان منه ما كان، وكان من الحية ما كان من موقفٍ حاسمٍ أغلقت به الأبواب أمام رجلٍ تقف ضربة الفأس على جحرها شاهداً قوياً عليه.

تُرَى، كم من ضربةٍ فأسٍ على جحر أمَّتنا في هذا العصر؟!

إشارة

ما الخوف أن تفنى النفوس، وكلّما

نخشاه أن تفنى الكرامةُ فيها

www.awfaz.com

لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5886 ثم إلى الكود 82244

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد