Al Jazirah NewsPaper Monday  30/07/2007 G Issue 12723
الثقافية
الأثنين 16 رجب 1428   العدد  12723
البُعد الفلسفي في شخصية راشد المبارك
علي بن سعد القحطاني

اختزل الفيلسوف الجزائري المفكر المعروف الدكتور محمد أركون تاريخ الفلسفة في شخصية ابن رشد عندما أشار في إحدى محاضراته الثقافية إلى أن الفلسفة توقفت بوفاة العالم الجليل ابن رشد الحفيد المتوفي عام 1198م ولم تُعنَ الساحة الثقافية بالفلسفة منذ ذاك الحين حتى وقتنا المعاصر، مع العلم أنه ما زالت تدرس أفكار ابن رشد وأطروحاته العلمية في كثير من صروح العلم والجامعات بالغرب. وللفلسفة قصة من أفلاطون إلى جون ديوي دونها (ول ديورانت)، وتاريخنا العربي زاخر منذ العصور الجاهلية بالإيماءات الفكرية والإشارات الفلسفية في كثير من إبداعاته الشعرية، ويطلق تجوزا على الشاعر زهير بن أبي سلمى (فيلسوف العصر الجاهلي)؛ إذ تختزل أشعاره كمّا هائلاً من الحكم والرؤية الموضوعية للأحداث والواقع المعيشي للحياة، والفلسفة - كما تحدثنا المصادر - كلمة يونانية الأصل معناها الحرفي (محبة الحكمة)، وجوهر الفلسفة يكمن في نسف الحقائق وإثارة الأسئلة اللامتناهية، ولا تقف عند حدود الأشياء وحرفيات المصطلحات بل تخوض في تفاصيله وتفتت جزئياته، ولذلك فعلم الفلسفة يسعى للإجابات على أسئلة تطرحها الطبيعة والقوى الغيبية، وإن كانت عاجزة عن ذلك، وازدهرت الفلسفة ونمت شجرتها وأثمرت في العصور الإسلامية الأولى، وأكبر مثال على ذلك ما كانت تتسم به الدولة العباسية من تعددية وثنائية وحوار بين كافة القوميات والأجناس والأطياف الثقافية. والفلسفة علم مدني - بأسلوب ابن خلدون - لا ينشأ إلا في مجتمع متحضر يؤمن آلية النقاش ويمتلك أبجديات الحوار كما يؤمن أيضا بقيمة الكلمة والمحافظة على قداستها. وقد كان أول من برز من فلاسفة العرب (الكندي) الذي لقب بالمعلم الأول عند العرب، كما اشتهر في هذا الفن (الفارابي) وعد (ابن رشد) أهم الفلاسفة المسلمين، وعرف بشروحاته لكتب وفلسفة (أرسطو)، وكان متعمقا في أصول الدين والشريعة الإسلامية بحكم منصبه كقاضي إشبيلية - وهو فقيه مالكي، طبيب - حاول التقريب بين الفلسفة والدين، ومع ذلك أوذي وضيق عليه في معاشه بالدسائس والمؤامرات كما يحدث عادة مع المصلحين ودعاة التجديد في كل مكان وزمان.. وقد كانت المجالس الأدبية في العصور الأولى حافلة بالنقاش والأطروحات الفلسفية ولا يمكن إغفال دور (المعتزلة) في إثراء الدروس العربية بالفكر الفلسفي والمنافحة في الدفاع عن القومية العربية ضد تيار الشعوبيين الذين نشأت واشتدت شوكتهم في العصر العباسي الأول إلا أنهم تورطوا في جانبين: الجانب الأول إيغالهم بالشروحات الاعتزالية في جانب العقائد ومناقشتهم في تفاصيل أصول الدين، والجانب الآخر إيعاز السلطة التنفيذية في إيذاء مخالفيهم وأكبر مثال على ذلك محنة الإمام أحمد بن حنبل في فتنة خلق القرآن وكان عليهم أن يؤمنوا بالرأي والرأي الآخر.. وقد كانت هذه الفتنة بمثابة الشرارة الأولى والعداوة من قبل المجتمع تجاه الفلسفة حتى أن الإمام أبي حامد الغزالي صاحب الإحياء في علوم الدين كان له رأي عدائي تجاه الفلسفة وقال: (وأما الفلسفة فليست علما برأسها)، وكان يزدري أصحاب الفلسفة ويراهم أصحاب بدع وزيغ وضلال، وفي ذلك قال: (وإنما مصدر ضلالهم سماعهم أسماء هائلة، كسقراط وبقراط وأفلاطون وأرسطو) وكتب سفره (تهافت الفلاسفة) الذي رد عليه فيما بعد قاضي إشبيلية وعالم دين مثله ابن رشد وأسماه (تهافت التهافت)، وكانت حضارتنا العربية الإسلامية مثالا للحوار والتسامح والألفة، فقد تفيأ في ظلالها جميع الملل والنحل، ولو اطلعت الأجيال على تراث أجدادهم لعلموا أن في الأطروحات الفكرية لابن رشد والشاطبي والغزالي والجاحظ وابن سينا ما يفوق جرأة ونقاشا مما يطرحه مثقفو اليوم، وهذا كله راجع إلى ثقة أجدادنا بعقيدتهم وأنفسهم وإيمانهم بقيمة العقل.

الذي جاء في الأثر (عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أول ما خلق الله العقل وإن الله عز وجل لما خلق العقل قال له اقبل فأقبل، ثم قال له أدبر فأدبر) فقال تعالى: (وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أكرم علي منك).

كان أوائلنا أكثر رحابة صدر منا اليوم، ويؤمنون بالتعددية واختلاف المشارب واحترام الآراء وفتح النوافذ على الآخر وطلب الحكمة ولو كانت في بلاد الصين، وهذا ما أدى إلى إثراء حضارتنا الإنسانية بالعلوم والفكر وتميزها بالإبداع في شتى حقول العلم.

ساحتنا الثقافية للأسف تعاني من عمى الألوان ولا تؤمن إلا باللونين فقط (الأبيض) أو (الأسود) الذي يمثل اتجاهات إما (معنا) أو (ضدنا) وتفتقر إلى المنهجية الصحيحة للحوار، وتبالغ في إطراء (الذات) ونسف (الآخر)، وتقديس (الأنا) ونبذ (المخالف)، وقد غابت الفلسفة عن تلك الساحة منذ وفاة ابن رشد قبل ألف عام - كما أشار محمد أركون في حديثه - ولم تعد تدرس في الجامعات وصار ينظر إليها على أنها فُضلة وليس بعلم أساسي، وتجرأ الدهماء والعامة عليها وعدوا الفلسفة ضربا من العبث والعدمية والهذيان والجنون وجعجعة لا تأتي بطحين، واختزلت الفلسفة في وقتنا الحاضر في نظرات تربوية وعلم النفس. والفلسفة وإن اختفت بغياب قسري في المجتمع إلا أنها تأبى الانكفاء والتقوقع على ذاتها وتخرج من جديد وبأسلوب مغاير، وذلك من خلال الإيماءات والإشارات والتوضيحات التي تأتي عادة في مقدمة واستهلال العلوم والآداب الإنسانية.. ويمكن على سبيل المثال اعتبار كتاب (المقدمة) مادة فلسفية أوجز من خلالها العلامة الاجتماعي ابن خلدون رؤيته للإنسان من جميع جوانبه السياسية والتاريخية والعقائدية والاجتماعية بعد أن استقرأ التاريخ من حين خلق الإنسان ونشأته حتى وقته المعايش، وتحمل بعض الكتب التراثية إشارات فلسفية كما في قصة (حي بن يقظان) لابن الطفيل، وفي وقتنا الحاضر تظهر الفلسفة بجلاء ووضوح في بعض المجتمعات العربية وإن كانت غائبة عن البعض، ويحتفى بهذا العلم من خلال تدريسه في الجامعات والاهتمام بطباعة الكتب الفلسفية تحقيقا وشرحا وإيضاحا، كما يبدي بعض الباحثين العرب اهتماما بهذا العلم بشكل مباشر كما نراه عند الدكتور عبدالرحمن بدوي أو غير مباشر، ويظهر من خلال تخصصاتهم وميولهم العلمي، كما نجد ذلك في كتابات محمد جابر الأنصاري ومحمد عابد الجابري وأضرابهما.

ومن بين الذين تظهر الأبعاد الفلسفية بجلاء ووضوح في أطروحاتهم العلمية في ساحتنا المحلية الدكتور راشد المبارك الذي يلقب بابن رشد الصغير، وأحيانا يوصم بأنه (مصطفى محمود). والدكتور المبارك من أوائل الأكاديميين السعوديين الذين تخصصوا في علم (كيمياء الكم) الذي يعرف بأنه كيمياء الكم أو فيزياء الكم أو آلية الكم بصفة عامة، وهو فرع من الرياضيات يعالج الجسيمات الدقيقة جدا وهي جسيمات ذرية وما داخل الذرة من نواة. نشأ المبارك في أسرة علمية عرفت بانشغالها بعلم الشريعة واللغة والأدب منذ 300 سنة، له ولع واهتمام وشغف بالفكر والفلسفة وتتلخص رؤيته الأخيرة في كون الفلسفة هي عطاء العقل بأوجه نشاطه عن الكون والحياة، ويؤكد دائما في محاضراته التجانس والتعالق ما بين الفلسفة والعلم، ويرى أن الصلة بين الفلسفة والعلم بدأت منذ كتاب بيكون الجديد الذي هدم من خلاله الفلسفة اليونانية. تتسم ذاكرة الدكتور راشد المبارك بالموسوعية ويغلب على أسلوبه الطابع العلمي من إيراد المعلومات وذكر الحقائق. صدر للدكتور المبارك في السنتين الماضيتين كتابان، أحدهما: كتاب (التطرف خبز عالمي) والآخر (أوراق من دفاتر لم تقرأ). والكتاب الأخير صدرت الطبعة الأولى منه في القاهرة عام 1995م وقامت بتوزيعه مكتبة مدبولي هناك إلا أن هذا الكتاب - كما جاء في المقدمة - نشر ولم ينتشر، فقد اختفى من الأسواق بعد ثلاثة أو أربعة شهور من ظهوره ثم أعيد طباعته للمرة الثانية خلال العام المنصرم، من أهم فصول الكتاب: (من صور الجذوة والخمود في فكر المسلمين)، و(المتنبي ليس شاعرا) و(الفريضة الواجبة الغائبة) وقد قام بتقديم الكتاب فضيلة الشيخ محمد الغزالي يرحمه الله. وتعتبر أحدية راشد المبارك من الصالونات الثقافية المهمة في ساحتنا المحلية بل وعلى امتداد وطننا العربي، وما يميز هذا الصالون هو ديمومته واستمراره في الحدث الثقافي؛ إذ دأبت الأحدية على إصدار جدول بالفعاليات الثقافية المقامة طيلة العام الدراسي توضح فيه من خلال التواريخ عناوين الندوات وأسماء المحاضرات، وتتسم تلك الأحدية بثرائها المعرفي وتنوعها واحتفائها بالرأي الآخر ومدى اتساع دائرة الحوار فيها. وكم بودنا ونحن نحتفي بهذا الصالون المبارك في عامه السادس والعشرين أن تحتذي بعض الصالونات الأخرى حذو هذا الصالون من حيث الديمومة وتفعيل الحراك الثقافي بالأوراق المهمة واستضافة ذوي الرأي والفكر المستنير.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد