رحلت شحرورة الشعر الحر والتي دافعت عنه سنوات طويلة وجعلته قضيتها الأولى وخط دفاعها الأول وكتبت الكثير من المقالات والدراسات التي تدافع عن هذا التوجه الجديد للشعر العربي في الخمسينات من القرن الماضي ووثقت كل كتاباتها عنه في كتابها (قضايا الشعر المعاصر).. نازك الملائكة تلك الشاعرة العراقية التي حملت هموم الوطن والأمة والناس والحياة رحلت عنها جميعاً بكل صدق ووفاء وهي تبكي وطنها الذي انهار، وانكسر أمام أعينها الدامعتين أبداً وقبل موتها كانت تردد: بلدي سيهزم الأعداء ويبقى حراً أبياً.. ولكنها توفيت صامدة (كما الأشجار حين تموت واقفة) ونتمنى أن تتحقق أمنيتها قريباً بتحرير وطنها مما هو فيه من أعداء وانتهاكات وخصومات وخيبة أمل. نازك الملائكة رحلت ولكنها ستبقى في ذاكرتنا وثقافتنا وأدبنا وشعرنا، فهي من أصدق وأنبل الأصوات الشعرية. فهي ابنة بغداد حيث ولدت عام 1923م ونشأت في بيت علم وأدب برعاية أمها الشاعرة سلمى عبدالرزاق التي نشرت شعرها في المجلات والصحف العراقية باسم (أم نزار الملائكة) ووالدها الأديب الباحث صادق الملائكة الذي ترك مؤلفاته وأهمها موسوعة (دائرة معارف الناس في عشرين مجلداً).. درست نازك وعينت أستاذاً في جامعة بغداد، وجامعة البصرة ثم جامعة الكويت. ودرست الموسيقى بمعهد الفنون الجميلة ثم عاشت في القاهرة منذ العام 1990م. تلكم هي (عاشقة الليل) وصاحبة أنشودة (الموت والحياة) وزميلة السياب والبياتي وبلند الحيدري وفدوى طوقان، وسلمى الخضراء الجيوسي. هي صاحبة قصيدة (الكوليرا) و(قصائد الألم) التي تميزت بالتجديد الإيقاعي والبنائي للقصيدة الكلاسيكية وبالنبض الإنساني العميق وملامسة الألم.. رغم انقطاعها عن الظهور والإنتاج منذ أكثر من عشرين عاماً لما وجدته من زيف مقصود في المجتمعات الثقافية التي أصبحت تسيطر عليها قوانين التجارة في الآونة الأخيرة.. لنازك الملائكة عدد من الإصدارات منها: (عاشقة الليل)، (شظايا ورماد)، (شجرة القمر)، (قرارة الموجة)، (للصلاة والثورة)، (مأساة الحياة وأغنية للإنسان)، (الأعمال الكاملة) مجلدان.
ونازك كتبت الشعر السياسي في ديوانها (للصلاة والثورة) فقالت في إحدى القصائد وهي تصرخ في وجه الداعمين للسلام:
فكيف نهادن الطغيان؟
وكيف نصافح الشيطان؟
ألم تخصب مدائننا بعطر الورد
والقرآن؟
فكيف نبيت مسبيينْ؟
وكيف ننام منفيينْ؟
عن الأوطان؟؟
ولها الكثير من القصائد الرومانسية أيضاً منها:
لحبيبي أكتب تحت الليل رسالة حبْ
والظلمة كلبٌ وحشي
يجثم قربي.. والريحُ تهبْ
هل أكتبها بفمي؟ بفمي؟
أأريق على الصفحات حروفي
أعصابي، وصراخ دمي؟؟
نازك الملائكة شحرورة الشعر الحر درست اللغات اللاتينية والإنجليزية والفرنسية وحصلت على الماجستير في الأدب المقارن. وهي وطنية جداً لذلك توجهت إلى لبنان وتركت العراق في (عهد عبدالكريم قاسم) بعد انحراف سلوكه في البلاد. ثم تركت العراق مرة ثانية إثر اندلاع الغزو العراقي للكويت متوجهة إلى مصر حيث أصيبت بمرض السرطان الذي عانت منه حتى توفيت. نازك الملائكة.. حصلت على جائزة البابطين عام 1996م وأقامت دار الأوبرا المصرية في مايو 1999م احتفالاً لتكريمها بمناسبة مرور نصف قرن على انطلاقة الشعر الحر في الوطن العربي، ولكنها لم تحضره كونها مريضة ولكن حضره زوجها (عبدالهادي محبوة) والد ابنها (البراق). نازك الملائكة شحرورة الشعر الحر.. (والملائكة لقب أطلقه على عائلة الشاعرة بعض جيرانها سبب الهدوء الكبير الذي كان ينتشر في بيتها). أكدت في كتابها قضايا الشعر الحديث أن بداية حركة الشعر الحر كانت سنة 1947م في العراق، ومن بغداد زحفت هذه الحركة وامتدت حتى غمرت الوطن العربي. آخر إصداراتها (الشمس التي وراء القمة) ومن أعمالها النقدية والنثرية (قضايا الشعر المعاصر- سيكولوجية الشعر - التجزئية في المجتمع العربي - الصومعة والشرفة الحمراء).
ولا بد أن أذكر أن والدها صادق الملائكة اختار اسم (نازك) تيمناً بالثائرة السورية (نازك العابد) التي قادت الثوار السوريين في مواجهة جيش الاحتلال الفرنسي في العام الذي ولدت فيه الشاعرة (1923م) وقد قالت في السبعينات:
إني أنا عاطرة كالبرعمة
إني أضيء مثلما تشتعل الأقمار
أنير للثوار
دروب الليل المعتمة
أفتح في وجوههم نافذة النهار
نازك الملائكة شحرورة الشعر الحر كانت دائما في خضم أحلام وقضايا وطموحات الشعب العربي قالت في ديوانها (للصلاة والثورة) قصيدة (مليكي) وتعني به (الله) طالت الرحلة:
طالت الرحلة
طالت وانقضت أحقاب
وبين عوالم مقفلة
أبحرت أسأل.. أسأل الأبواب
حملت معي جراحات الفدائيين
وطعم الموت في أيلول
طعم الطين
حملت معي هموم القدس
يا ملكي، وجرح جنينْ
وليلاً شاهق الأسوار لا ينجاب
فأين الباب؟ أين الباب؟
قرابيني مكدسة على المحرابْ
وقرآني طواه ضباب
وذلة مسجدي الأقصى
تقلبني على سكينْ
ولا معتصم أدعوه
لا فينا صلاح الدينْ
ننام الليل، نصحو الفجر
مجروحينْ
ومقطوعين، مقتولين.