رحلت أفكاري بذكرياتي حيث كنَّا في أعمار الزهور .........
كنَّا عيال الحارة المكونة من مجموعة شباب نجتمع يومياً على جلسة عادية، كنا بسيطين والزمن أبسط حيث لا مجاملات ولا محسوبيات ولا تكلفات ولا نحتاج لمواعيد عبر الجوالات فالموعد بعد كل صلاة في العاير(1) ومن يسبق يجلس على العتبة(2) ويتكي على الجدار ونتجاذب أطراف الحديث وأخبار حارتنا وشيئاً من أحداث مدينتنا. وتطول الجلسة بعد العشاء أحياناً لساعة أو أكثر ويحضر أحدنا الشاي - يعتبر الشاي مثل الوليمة الكبيرة - وخلال شهرين أو أكثر نعمل جاهدين للتنسيق للكشتة، فبعد عقد عدة اجتماعات مكثفة ودراسات مركزة نتواعد في يوم خميس للكشتة، فمنذ صلاة الفجر ونحن جاهزون للسير وسوف تكون بعيدة جداً في شعيب أبو عوض(3) أو شعيب الحجناوي(4) ونزيد في التهور أحياناً ونصل للقشيعين(5) وعلى ددسن صاحبنا الوحيد الذي معه سيارة فبعضنا يركب بالدرجة الأولى الغمارة والبقية بالدرجة السياحية الحوض، وكان ذلك منذ خمس وعشرين سنة أو أكثر، وأشبه ما نكون بالأطفال الأشقاء في المنزل ثم خرجوا للشارع يظنون أنهم يرون الدنيا بأكملها، فهذا مبلغنا من العلم ....، وعند وصولنا للمكان المقصود نعمل جاهدين طوال الوقت لتوفير الحطب وتهيئة المكان ثم نلعب ونتسابق ....
وجلوسنا فقط للأكل ثم نعود من الرحلة العظيمة ونستمر شهوراً نتحدث عنها وعن الأحداث التي حصلت فيها مثل تغريز السيارة أو غيره، كما نقوم بتغسيل السيارة شكراً وعرفاناً لصاحبها....
ومضت الأيام وتفرقنا لأن السلمي (سليمان) التحق بالأمنية وعبادي (عبدالله) في الجامعة والبرهم (إبراهيم) توظف خارج مدينتنا... والحمدي (محمد) وفق بوظيفة داخل مدينتا...
كنا نتشوق لأخبار بعضنا البعض فكيف إذا اجتمعنا فنضحي بالغالي والنفيس لنلتقي.... وبعد سنوات تزوج سليمان ثم عبدالله... تغيرت الأحوال والأفكار....
تشعبت الاهتمامات واتسعت آفاق التفكير عند الأغلب وكل شخص كون علاقات جديدة وزملاء عمل وجيراناً جدداً....
وبعد ربع قرن من الزمن من أيام عيال حارتنا جلست مع نفسي ذات يوم أقلب صفحات الماضي فلاحظت أن أحدنا هو نفسه لم يتغير، طبعه وتعامله وحتى ثقافته، على النقيض في الأغلبية الباقية بأن تغيروا حيث إن الثاني توسعت آفاق تفكيره وبحثه ومعلوماته وثقافاته واهتماماته كما أنه سافر إلى أقطار المعمورة...
والثالث كون رؤوس أموال من تجاراته وعلاقاته.... فلربما أمواله غيرت نظرته ونسي أو تناسى عيال الحارة.
والرابع سلك في الوظيفة وكسب المناصب العليا.... فأشبه ما يكون بالثالث.
والآخر أكثر من الرحلات الداخلية والخارجية فله اطلاع كبير واهتمام بالرحلات فأشبه ما يكون بمرجع لنا جميعاً...
والأخير طلب العلم وأبحر فيه فهو مشغول بالدروس والمحاضرات والفتاوى والجمعية الخيرية فهو يبذل من وقته الكثير في ذلك.
فكل منهم نهل من منهل غير الآخرين واستفاد وأفاد سوى الأول، وبينما أنا كذلك عادت بي الذاكرة إلى كلام والد أحدهم حيث كان يقول عن الشباب في ذاك الوقت: إنه تغير وترك عادات الآباء والأجداد وكان أغلب الآباء يريدون من أبنائهم بأن يكونوا أمثالهم تماماً....
فما أجمل تلك الأيام في زمن براءة الأطفال وزهور الشباب .وأخيراً: عندما يتذكر الإنسان أصدقاء وإخواناً له تآلفت قلوبهم رغم تباعد أجسادهم لا يملك حينها إلا أن يدعو لهم ويذكرهم بالخير، فنعم الأصدقاء والإخوة أولئك .
****
1- هو ركن المنزل الواقع على شارعين.
2- هي درجة باب المنزل.
3- شعيب جنوب الرس يقع على طريق دخنة يبعد عن الرس ما يقارب عشرة كيلو مترات .
4- شعيب يقع شرق الرس على طريق البدائع يبعد عن الرس كيلو متر واحد.
5- جبلان يقعان جنوب الرس يفصلهما طريق دخنة ويبعدان خمسة عشر كيلو متراً عن الرس.
محافظة الرس
saqo@maktoob.com