|
تكثر هذه الأيام مناسبات الزواجات في مختلف مناطق بلادنا الحبيبة، ومن صور التراث الأصيل المصاحب لمناسبات الزواج في مكة المكرمة والمدينة وجدة لون المجس المصاحب لزفة العرسان، وهو لون تراثي جميل نقف على جوانب منه من خلال هذا التحقيق؛ كونه لا يزال يحظى بعناية المجتمع المكي والمدني حتى اليوم في مناسبات الزواج والملكة. ونقف بادئ ذي بدء على منازع وتخريج الاسم (المجس)، ونسبته إلى الحجاز.
|
المجس: مصدر من الفعل الماضي جس، ومنه جس الطبيب قلب المريض. المجس هنا هو جس للمستمعين وشهود الفرح والزفة الحجازية تحديداً في (مكة المكرمة)، وليس كذلك فحسب بل هو جس للمستمع في الزمن القديم في البراري والخلاء والبساتين الوارفة وفي الليالي المقمرة ونحو ذلك..
|
الأبعاد الفنية للمجس: وفقاً لعدد من أهل الخبرة في المجس يؤدى من مقام (حجاز)، إذاً فهو حجازي، ومن المقامات الأخرى له حجاز يماني، المنايري، ومقام البنجكه، ومقام الحراب الذي يقوم على عدد من قطع النص العربي الفصيح ومجالاته وفق المناسبة.
|
ففي الأفراح يؤديه (الجسيس) يختار من عيون الشعر ما يمدح المعرس ويصور واقع حال الزفة الحجازية والدعاء للعريسين ونحو ذلك. والأصل في أدائه دون مصاحبة الآلات الموسيقية، فلعله كان يؤدى على غرار ما كانت تؤديه أصوات الحداء للإبل لتسليتها من كَلّ ومَلّ الطرق و(تطمين) مَنْ بالقافلة وطرداً للخوف.. أقول لعله انتقل من هذا الوضع القديم إلى التغني به للترويح فيما بعد محتوياً نصوصاً؛ لهذا فإننا نكاد نجزم بأن هذا المجس (الموال الحجازي) ولد في حضن قبيلة (قريش)، وربما أنه ولد في أحضان قبيلة خزاعة بمكة المكرمة، فيقابل هذا المجس موالات في الجزيرة العربية مثل طرق الجبل، والأصوات الموالية، وغيرها؛ ما يعني أن لكل قُطر من أقطار الخليج العربي صوت موال؛ الشيء الذي يمكن أن نؤكد به على احتمال عودة هذا اللون الحجازي إما إلى عهد عرب (عاد) أو إلى عهدي خزاعة وقريش لارتباطه (بالنص العربي الفصيح).
|
فاصل المجس: أن يؤدى بالشعر العربي الفصيح الموزون المقفى، فهو بهذا قديم المنزع وليس للعامية أو النبطية حضور في أداء لون المجس إلا ما ندر.
|
فإما يرجع إلى عاد فنسبة إلى الجرادتين وغنائهما في منزل ابن جرعان بمكة المكرمة، وإما إلى عهد قريش فإن قوافل السفر والتجارة لا تخلو من أن يكون هناك حاد وحداء، فلعل المجس قد انشطر تحت ظروف من تلك الأحديات أو الأحادي.. أما الشاهد الآخر في قدم هذا اللون فهو تناقل أداء المجس لنصوص من أشعار عمر بن أبي ربيعة وعنتر وقيس وغيرهم، ولم يطرأ على هذه الخاصية تغير ولا تبديل، ولو كان طرأ عليه تبديل وتغيير لكان النص نصاً شعبياً أو نبطياً أو نحو ذلك، فهذا شاهد على أصالة المجس وحرص الجسيسة حتى عصرنا الحالي أن يؤدى على صورته، وسيبقى كذلك على حاله حتى الأجيال القادمة.
|
ومقامات المجس كما سبق إيضاحه: الأول الأصل حجاز، وحراب، وبنجكية، وسيكا..). وأشهرها مقام حجاز.
|
وطرأ التحسين أو لمسة من التطوير على المجس وأدخل على مقاماته الستة المعروفة ما يمكن أن نسميه بتطعيمات وزخرفات من الجاكار وبعض مقامات الموالات في بعض الأقطار من الشام والعراق ونحو ذلك ولكن في حدود ضيقة. وخلال القرن الرابع عشر الهجري وفي الخمسينيات وما تلاها ظهر عدد من أمهر الجسيسة منهم الجسيس حسن جاوه، وهو ملك المجس بلا منازع، وتفوق على من كان في زمنه وعلى من وجد في الساحة من بعده إلى هذا اليوم؛ فقد كان يملك مساحة صوتية نادرة إلى جانب صوت رخيم عذب ونَفَس طويل لا يمكن أن يجارى. ومن الجسيسة إسماعيل كردوس، سعيد أبو خشبة، حسن لبني، عبدالرحمن مؤذن، محمد أمان، منصور بغدادي وعدد آخر من المعاصرين.
|
ومن أمثلة نصوص المجس التي يؤدى بها حتى اليوم في الزفة الحجازية بقصور الأفراح:
|
سبحان من جمع القلوب بفضله |
وعلى رحاب الود عمر دارها |
طاب اللقاء وزاده تشريفكم |
في ليلة قد أشرقت أنوارها |
|