Al Jazirah NewsPaper Tuesday  04/09/2007 G Issue 12759
أصداء
الثلاثاء 22 شعبان 1428   العدد  12759
الأديب الرشيق!!!

((قال أبو يارا: دلّت البحوث التي أجريتها بنفسي على عدد كبير من الزملاء والمعارف أن الإنسان عندما يفقد شيئاً من وزنه يفقد معه شيئاً من خفة روحه، ومن سعادته، ومن انشراحه..

فيا عُشّاق الرجيم ويا عاشقاته: حذارِ! حذارِ!.

جسد سمين خير من روح هزيلة!)).

لا أدري إن كان الشاعر غازي القصيبي قد يئس من الرجيم مع نفسه، أم أنه يقول الحقيقة؟ ولكن الأكيد أن القصيبي رشيق في روحه (روحه وحسب)، ويتمتع بخفة الدم والطرافة الجاذبة.. ولغازي شخصية واسعة المجالات بسعة ثيابه، تحار كثيراً في تناول شخصيته متعددة الجوانب، ولعل الأَلْيَق تناول جانب من جوانب شخصية غازي القصيبي.. ولم يثرني في غازي سعة اطلاعه ونهمه الشديد مع القراءة والكتب، وهو ما يكشف عنه كثرة مؤلفاته في السنوات الأخيرة، بقدر ما أثارني فيه نهمه الشديد مع أطايب الطعام، وهو الموضوع الوحيد الذي لم يفرغ للتأليف فيه، ولو ألف غازي - ولو مقامة - في أطايب الطعام لغطّى على كثير من تلك الكتابات في الموضوع، فلغازي صولات وجولات مع أطايب الطعام، ولديه ثقافة واسعة مع الطعام وفلسفة!.

وهذه النماذج جولة سريعة، أتمنى أن تكون ممتعة، مع الطعام وأطايبه وعن السمنة في أدب غازي القصيبي (الدبة والفات، على ذمة حفيده):

البَطّ.. البَطّ:

من أمتع النماذج التي كتبها غازي القصيبي (في باريس.. كانت لنا أيام: الشَّيل والحَطّ في أكل البَطّ!)، وكان القصيبي - عظّم الله أجره - مغلوباً على أمره تحت أمر أم البنت والبنين (زوجه) في مطعم لا يروق له، وكان المطعم قبل أن يكون قلعة يسجن فيها الناس ويُعذَّبون ويُعدمون، وقد شهد غازي وأم البنت والبنين (كما يسميها كثيراً) مذبحة للبَطّ - كما وصفها - في مطعم يهتم بفن تقطيعه وهرسه، وكان إلى جانب البَطّة المعروضة على القصيبي حينها بطاقة عليها جملة تقول: (البَطّة التي تأكلها الآن رقمها 1950011)!!.. ومشاهد المذبحة طويلة جداً، وقد عَلِقَ بها مقاطع فضائحية - إن صح التعبير - من ولع غازي، وهو نص بالغ الطول على المتاح في (أصداء) ونكتفي منه بهذه المقاطع، يقول غازي:

وكاتب هذه السطور يحب الأكلات البدائية كالكبسة والمحمّر وهامبورجرات ماكدونالد والبطاطس المقلية مع الكتشب والسباجتي (ومن يعتقد أن إنساناً يسمن دون سبب فقد أخطأ).

أنا، من حيث المبدأ، لا أتحفّظ على الحمام، خاصة إذا كان من فئة الزغاليل البلدي وجاء محشواً بالفريك..

وختم القصيبي فضائحية المفطّحات التيوس برجاء واستعطاف لأم البنت والبنين، حيث يقول:

يا أم البنت والبنين! هذي مو حالة (وهذا التعبير بدوره من تعابير العم يوسف الشيراوي الشهيرة)، إما بَط وإما حمام! أين الخرفان التيوس والعجول وسمك الكنعد والهامور والزبيدي؟! قولي يا أم البنت والبنين! إلى متى أتعرّض للمهانة والمذلّة على يد جرسونات باريس الذين يزجرونني زجراً ويدعّونني دعّاً ويتركون على طبقي أشياء لا نعرفها نحن ولا أنتم؟! يا أم البنت والبنين! ارحمي هواني على الجرسونات وانظري الجرامات التي فقدتها من وزني ودعينا في فندقنا هذا نطلب هامبورجر وسباجتي ونحاول الحصول على شيء من الرز (البسمتي) أو حتى الرز (الهورة).

بحارنيات وجبرانيات:

كتب القصيبي تحت عنوان (بحارنيات):

يقول صديقنا الأعز تقي البحارنة يصف نادلة (أي جرسونة) جميلة رآها في مؤتمر للبرلمانيين العرب تقدم الطعام للبرلمانيين الأفاضل:

فمشوا إلى غرف الطعام.. مع الهنا والعافيهْ

فالكل يدعو (ناديهْ).. ويقول: (هاتي زاديهْ)!

إلا أنا!.. فلقد فُتِنتُ بها.. وليست داريهْ

فأقول: قد تأتي عساها صدفَة.. أو ثانيهْ

تشتاق نفسي للطعام إذا مشَتْ بإزائيهْ

وافترّ مبسمها.. وضوّع عطرها في الآنيهْ

لاموا.. ولو عرفوا الحقيقة.. ما تجنَّوا ثانيهْ

إن الطعام يلذ من أيدٍ لطافٍ حانيهْ

ويسوء إن جاءَت به حوشية.. وزَبانيهْ

قال أبو يارا: أما أنا فأرى الطعام اللذيذ لذيذاً ولو قدمه لي (نادل) يشبه نتنياهو!!.

وألحق القصيبي (جبرانيات) ب(بحارنيات) حيث كتب:

كتب الأديب الشهير جبران خليل جبران إلى حبيبته مي زيادة، وقد كانت حبيبته بالمراسلة (أخبرني مَنْ أثق فيه أن حبَّ المراسلة قد انقرض مع تفشي الهاتف الجوال)، كتب يصف وضعه الصحي:

أي مي، في العامين الماضيين قد حَمَّلتُ جسدي فوق طاقته، فكنتُ أصوّر ما دام النور، وأكتبُ حتى الصباح، وألقي المحاضرات، وأختلط بجميع أنواع البشر، وهذا العمل الأخير هو أصعب شيء أمام وجه الشمس (تعليق من أبي يارا: صدق جبران!).. وكنتُ إذا جلستُ إلى مائدة الطعام أشغل نفسي بالكلام والمتكلمين حتى تحضر القهوة، فأتناول منها الشيء الكثير وأكتفي بها طعاماً وشراباً.

قال أبو يارا: من أسخف الأوهام التي يشيعها الشعراء أن فقدان الشهية من علامات النبوغ، وهو في حقيقته من علامات المرض..

ولعل المشكلة في (النادل) الذي لم يكن شكله مثل (نادية)!.

مع الشمطاء:

وكتب القصيبي تحت عنوان (خالد الدويسان.. وسهرة بقرب أم حديجان) بأسلوب مقامي، وهي صورة لمأدبة مشؤومة، كما ذكر:

دعاني سفير الكويت النشيط، إلى حفل عشاء يتعلق بالتنمية والتخطيط، وقال: أبشر بعشاء لذيذ، وكبش حنيذ، وسهرة جميلة، خفيفة ليست ثقيلة.. فذهبت بادي الانشراح، أمنِّي نفسي بالليالي الملاح، وإذا بالحفل قد بدأ بفيلم طويل، تجاوز الساعة بقليل.. قلت: الآن هان الموضوع، وسوف يجيء العشاء بعد هلاكي من الجوع.. وإذا بخالد الدويسان، يرحب بالضيفان، ويقدم زميله السير، الذي قال: (مساكم الله بالخير)!.. ثم جاء أربعة خطباء، وهذا كله قبل تقديم الحساء، ثم جاء ستيك مفتخر، الأغلب أنه مصاب بجنون البقر، وبعد العَشاء عاد الخطباء من جديد، والكل يبدأ ويعيد.. قلت: ما هذا البلاء المقيم؟ وكيف وقعتُ في هذا المقلب العظيم؟ والتفت فإذا بجارة شمطاء، حية رقطاء، تجاوز عمرها القرنين، بسنة أو سنتين!! اتضح أنها مصابة بالصمم، لا تسمع لا ولا نعم، ولم تسمع حديث الخطباء، ولا تفهم نشرة الأنباء، كما اتضح أن نظرها ضعيف، لا تفرّق بين كلنتون وكوزريف، وقد ظنتني توني بلير، ثم حسبتني عمدة ما فير، واتضح أن أسنانها صناعية، سقطت فوق المهلبية. وإذا بخالد من بعيد، يضحك على بلائي الشديد، الجارة الحيزبون، وخطباء لا يسكتون.. وانتهى الحفل الجميل، قبل الفجر بقليل، فأبشر يا خالد الدويسان، طال أو قصر الزمان، أني سأرد لك المعروف، وأُجلسك بقرب أرستقراطي حلّوف، لا يسمع ولا يشوف، ويبعبع كالخروف.

أنعم الله عليكم:

وفي أمسية أحياها القصيبي في الكويت كان لغازي موعد سعيد مع وجبة محترمة، قال في وصفها:

أخذني الدكتور أحمد الربعي إلى وليمة حافلة بما لذَّ وطاب من الأكلات الخليجية جعلتني أفكر في الأخ فؤاد الهاشم وأُنشد:

آه لو كنت معي نختال عبره

فوق رز يطفح الهامور إثره

وجريشٍ يتمنّى الثغرُ ثَغرهْ

أنا مَن ضيَّع في الأكلات عُمره..

غير يوم لم يعد يَذكر غيرهْ

يوم أن أكّلتهُ الرز وقِدرهْ

وفي هذه الأثناء كان الدكتور الربعي ينشدنا روائع الملاحم من شعر النبط.. أقول لصديقنا البرلماني النبطي الفيلسوف: (أنعم الله عليك)!.

مقارنة بين الشِّعر والطعام:

يقول غازي: (ما يهمني ويهمكم أن (بياض الأزمنة) ديوان شعر جديد لعلي الدميني فيه الكثير من الشعر الجميل.. ومن هذا الشعر ما استعصى عليَّ فهمه، ومنه ما فهمته بدون عناء، وهذا لا يضير الشعر؛ فذوقي لا يقيِّد أحداً غيري، وفهمي ليس معياراً أُلزِم به الآخرين.. ومن الأدب النبوي العالي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يَعبْ طعاماً قَطّ، إنْ أعجبه أكل، وإن لم يعجبه أمسك.. وقد ألزمتُ نفسي، وأولادي، بهذا المنهج، فلا أقول عن طعام ما إنه رديء وأكتفي بالقول إنه لا يعجبني.. وأنا، بالمناسبة، يندر أن أمرَّ بطعام لا يعجبني، وإنْ كان لزوجتي رأي غير هذا الرأي، على أن هذه قضية عائلية لا أظنها تهمّ القرّاء الكرام.

والمقارنة بين الطعام والشعر سائغة، فالشعر طعام الأرواح، باستثناء تلك الأرواح التي تصرّ على الرجيم).

الطعام الحاضر دائماً:

وقد حضر هاجس الطعام وتوابعه في حوار نشرته جريدة الوطن مع غازي، ونشره بعنوان (أسئلة وأجوبة في عصر السرعة)، ونقتطف من تلك الأسئلة وأجوبتها:

س: ما هي مميزات موقعك الحالي؟.

ج: الطعام المجاني.

س: وماذا عن مساوئه؟.

ج: الطعام المجاني.

س: شخصية نسائية تعجبك؟.

ج: الطبّاخة.

س: ماذا ينقصك؟.

ج: أن ينقص وزني قرابة 30 كيلو جراماً.

س: بماذا تفكر الآن؟.

ج: في العَشاء.

وجاء في حوار آخر في الجريدة نفسها، وكانت الإجابات كلها شِعرية من شعر المتنبي:

ما هي آخر نكتة سمعتها؟.

كفى بجسمي نحولاً أنني رجلٌ

لولا مخاطبتي إيّاك.. لم تَرَني

قال أبو محمد: حتى في جد الجد، وقلم غازي يتناول موضوعاً بجدية، أجد بداخلي شيطاناً ينظر إلى الجد بنظرة غير النظرة، ويحادثني بما لا يسمع الناس.. سُئل القصيبي هذا السؤال (أي القضايا تؤلمك)، فجاء جوابه جادّاً:

قضية الجوع في العالم، يؤلمني أنه - في اللحظة التي نتحدث فيها - هناك عشرات الأطفال يموتون كل دقيقة بسبب نقص الغذاء والجوع! وأعتقد أن هذه هي قضية القضايا، ونحن - بفضل الله وحمده - لا نعاني منها، ولكن آلاف الملايين يعانون منها.

الإنسان الجائع هو وصمة في جبين الإنسانية كلها، وهذه القضية هي القضية الرئيسية التي يجب أن تتعامل معها البشرية في القرن الحادي والعشرين الميلادي.

أريد للبشرية أن تبلغ مستوى الكرامة التي قدّرها الله لعباده عندما قال في محكم كتابه: (ولقد كَرَّمْنَا بني آدم..).. قضية الجوع يجب أن تحسمها البشرية، وكل القضايا الأخرى ستكون فرعية.

إذا انتهت قضية الجوع، انتهت قضية الأمية، والانفجار السكاني، وتعثُّر عملية التنمية.. ولو تتبعت كل هذه القضايا إلى جذورها لوجدتْ لها جذراً واحداً هو الفقر المدقع الذي عبّرتُ عنه بالجوع، ومن هنا يجب أن يكون الشغل الشاغل في هذا القرن الذي يليه.

إشارات إلى الضخامة:

ما أكثر إشارات غازي النثرية إلى ضخامة جسده، وأظنها وصلتْ إلى حدّ العقدة في حياة غازي، وإنْ لم يقلها، وللطعام دوره بلا شك في تلك الضخامة، ولست أدري لماذا تجنّب الشعر، فمن ذلك:

(إنّ أطول استمارة في أي سفارة معاصرة هي استمارة طلب تأشيرة الدخول إلى أمريكا، هذه الاستمارة تحمل أنواعاً من الأسئلة: أسئلة عن ماضيك وأسئلة عن نواياك، ومعها أسئلة أخرى تدور حول صحتك الجسدية، وحول صحتك العقلية.. أسئلة عن أي مرض معد أو عن أي فكر معد.

قال أبو يارا:

ومن ضمن هذه الأسئلة سؤال يريد معرفة الوزن!!.

وقد رفضت ذات يوم أن أُجيب عن السؤال.

وقلت لموظف القنصلية:

لا أتوقع منكم أن تحملوني على ظهوركم!.

وضحك، وحصلتُ على التأشيرة.. ولعلّي كنت الأجنبي الأول والأخير الذي دخل أمريكا دون إنذار مسبّق لجمهورية النظرية عن الضغط الذي ستتعرض له شتى مرافقها من وزن الزائر الكريم).

ويقول: (ثم شدَّني حجم الديوان - وهو حجم ضئيل نحيف رقيق - وأنا أفزع من الدواوين الضخمة فزعي من الأجساد الضخمة (حتى ولو كنتُ منها، أعني الأجساد)!.

ويقول: (الشعراء الكبار نادرون، وهم أندر من العلماء الكبار.. وصف الكبار يخيفني، فالشاعر قد يكون كبيراً في الحجم، ولا مبرر للأمثلة).

وما سَلِم القصيبي ولن يسلم أبداً من تلميحات أحبابه وأصدقائه إلى كثرة قطع شحمه ولحمه وضخامتها، وأهل نجد يدللون السمين أو يذلّونه ويعايرونه بتسميته (أبا القطع)، يقول القصيبي: (قلت لعبد الرحمن السدحان معابثاً: لو كتبتُ أنا ما كتبتَ أنت لغضب أقوام، ولا يغضب منك أحد فكيف تفسِّر هذا؟.

قال ضاحكاً: الفرق في الحجم!.

... والمعنى في بطن السدحان!).

لستُ أدري، هل يكون لهذا المقال السريع أي أثر عند أصحاب الولائم مع غازي: فيكثرون من دعوته، أو يتجنّبونه!؟ لا أدري، ولكني أتمنّى مع غازي أمنيته منهما.. أو لعل أصداء تفحل في استفزاز القصيبي للكتابة المقامية أو الشعرية فيها عن مفاتن الأكل!!.

وإلى لقاء قريب مع جانب آخر من غازي القصيبي.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد