كم راودني أمل في الكتابة عن هذا الجهبذ، أو لأقل العصامي، والألمعي ذو الروح اللطيفة، يراها كل من يقرأ له، وذو الإلقاء المصاحب ببساطة من لا يتكلف - فلا يخطئ وأحسبه لا يبطئ- بخاصة من يذكر له (رحلة الكلمة) والتي لا أدري ما الذي كبا بذلك البرنامج.. عن أن يعود للدورة التلفزيونية، بخاصة وقد كانت تُدار بإمتاع من قِبل شخصه، ثم إشرافه بعد رحيل قبطانها حسن الذكر (حسن آل الشيخ) - رحمه الله - أعني (المجلة العربية) والتي أجزم لا تقليلاً من سادنها الجديد (د. السبيل) ودعته بدموع ثرة وحرّى من تعفره على خطاه.. فأوصلها اليوم إلى هذا المقام. وإن كان له دين على قلمي إذ سُرّ به، وحظي من لدنه برواج ومقام في أوداج مجلتنا (العربية) الفحوى والمواد والإطار، لكنه وهذا من تواضع الكبار لم يُلفت لشيء من هذا ك(منٍّ)، إذ كان يكفيني حسن استقباله (الدائم) واستبشاره بأي مادة أحملها إليه، لأجدها مناسبة كي أحظى باحتفاله بي. فأعيد (اعتذاري) عن وهن المادة؛ إذ وأنا في أدراج رحلة عمل تلقيت (مصادفة) نبأ ترك أديبنا الحميد الصنيع (حمد) بن عبدالله القاضي إشرافه على من استخلف عليها من نعم سلف (حسن آل الشيخ) يرحمه الله منذ قضى نحبه في 1406ه؛ أي ما يفيض على عقدين من الأعوام. حقيقة إن الكتابة عن الشخصيات لا تستهويني كثيراً، بخاصة حال حياتهم مؤثراً سلامة النبز بالمصلحة أو المنفعة، على الوسم بالجحود أو عدم الوفاء. وكما أن المرء يقع بمثل هذا الحال بين ريبة المستصلح إن كتب أو تهمة (الجاحد) إن أمسك، فكذلك الحال موازية إن كتب و.. ثم قصّر في حق من يكتب عنه، بل وأكبر الرزايا في هذا: إن كتب وتمادى في القول فيصبح كأنه وضع المكتوب عنه بمقام من ذم المولى (فئة) من تُحب أن تحمد بما لم تفعل، فأنى عندها يكون بمفازة عن اللوم من القارئ المقسط، وكيف يعتذر لمن مدحه فأسرف في الإثراء.. عنه!! ثم لأنك كلما استجررت أو أوغلت أخذتك العاطفة وخرجت من الموضوعية، وإذا ما تخليت عن العاطفة حال بك مدادك إلى النقد الصِّرف الذي قد يحسب عليك أكثر مما يحسب لك، ولو من خلال اجتهادك فيه، هذا إذا ما عُددت ممن يجسد الناس على ما آتاهم الله من فضله، لكن -وقد جعل الله لكل شيء قدرا- المضي بميزان العدل والقول الحق هو السيل الوحيد لكي تبلغ مرادك ولا يحسب عليك ما قد يخرج -تجاوزاً- من فيك. لكن -ومع هذا..- فلا أخفي القارئ أن هناك شخصيات تأطرك على أن تقول بها ولو من باب رد بعض جميلهم إن لم يكن (دَينهم) عليك، وأحسب أن (حمد بن عبدالله القاضي) من أولئك، لأجل ذلك.. أعطي قلمي هذه السانحة يسيح فيها مع القارئ عن أحد جوانب أبي بدر، بخاصة تلك المؤثرة في شريحة أحسبها عريضة ممن تقرأ له، وأفيض بهذا حين يكتب بمشاعر (الوفي) عن أقوام علموه وعلمّوا به الكثير مما انعكست عليه شخصياتهم، أجل.. فهذا باب يحق لكل أحد أن يدلف منه أنى شاء، فإني لأحسب (قاضينا) من خزنته، كما وأجدها فرصة سانحة حال تركه- لا استقالته- من الإشراف على تحرير المجلة العربية. ف(الخبر) الذي طالعتنا به غاليتنا (الجزيرة) في صفحتها الأخيرة يوم الأحد الخامس عشر من شهر رجب الماضي بعنوان (حمد القاضي يغادر المجلة العربية) أطرني لأُثري عنه.. أطراً، بل كنت من البعض الذي نزل عليه هذا الخبر كالصدمة، هذا في حين اعتبره بتمحص أو عساه بداية لعطاء علمي وأدبي جديد؛ لمَ لا وقد كان لها على يديه وبعد تلك السنين الطويلة (الجادة) قد أوصل أبو بدر ب(العربية) إلى تلك المنزلة العالية الرفيعة التي ترفل بها الآن،... واليوم: يودعها أو يغادرها متفرغا - وهذا ما (قد) نعذره عليه- لمسؤولياته الأخرى.
ف..لأثري له عما يجيش له في صدر محبٍّ قَبْل أن يكون ناهم من وارد عطائه.. فأقول لا عنه.. بل فيه: فهو (القاضي) حمد.. إنسان وأديب، وصحفي معرق ومغرق، أو مغرم بها حتى الأعراق.. وأيضاً (أخ) تكسبه من أول لقاء، ليس لديه تكلف ولا من قبل صنيعة تزيف، ولا تستشم لأثر ذلك تزلف. لأنه باختصار يسر العشرة ويحَب لأنه يُحب، وكم أعجبني إيجاز (العشماوي) ب:(يتعبك في ملاحقة طيبته وتواضعه وحسن خلقه).
أجل فنحن نشهد له بما علمنا ونشيد بصفاته المجيدة، ونقدِّمه أنموذجاً حيا للشباب يمكن أن يقتدوا به فيما برع فيه من صفات الحقِّ والخير. وأعيد وأكرر: .. لا أعتقد أن قاضينا يحتاج إلى تعريف به -حفظه الله- في المولد والمنشأ....
(فالفتى من يقول ها أنذا) وقد قال لنا - عن شخصه- وبملء ما أملى علينا عبير نثره ما يكفي عن شخصه. وأبو بدر يكاد يكون لقلمه سمة خاصة، فهو ذو أسلوب لايحتاج بالغالب أن يوقّعه باسمه،.. وأيضاً مع أنه عاكس عن شخصيته، دال على جمال روحه. وباب آخر حي يسرح -هذا المؤطر شخصه.. بهذه المادة- بك بذكريات منشئه أو بواكير قدومه للرياض و..و..، تلك الزاوية الجميلة التي يهفو لها القلب فيأخذ لبابك من حاضره بمعانٍ كم تود أن لا يكفّ حين يحبِّر عنها؛ فإنه -حفظه الله- يلا مسها بأخيلة لا تقلّ عن الشعر في معزوفة يقف لبابك مشدودها من رونقها. بل.. وحظّه في هذا الفن قلما تجد محاكيه بخاصة تلك الجُمل التي تعبق الذكريات فيها.. فلا تجد ما يوازيها -على الأقل- في جملة ما تقرأ لدى لداته.
بل وأعطه قول الشاعر:
خذي الروح يا ريح الصبا وتنسمي
ويا برق حيي حيهم وتبسم
لترى أو تقرأ بأم عينيك كيف يسكبها نثراً.. بل ربما بأجمل من هذا النظم.
وما منهجه في ختم زاويته (جداول)- والتي يكفيها اسمها- في اختيار أبيات من (ديوان العرب) حديثه والقديم إلا انعكاس لذوقه، وتعبير عن جماليات ما يقرأ.. فأحب أن يشرك معه القارئ، وكذا.. بأن يخرجه من حياة الجمود أو العطاء العلمي والاجتماعي الصِرف، إلى ملكوت الإبداع.. والإمتاع. ونفس هذا النمط.. ما يتبعه في زاويته بالمجلة (مرافئ).
وذاك- ما تقدم- باب، والباب الآخر لهذا المعطاء:
حين يتمم هذه (الروح) فيُصدر منها بقوله -بزاويته الأسبوعية-: (جداول) بعنوان (أجمل هزيمة أمام من اتسع لهم فضاء القلب) يوم السبت 21-7-1428هـ الموافق 4-8-2007م بالعدد رقم 12728 حيث أشار فيها إلى ( الكم الهائل من تلك المشاعر الصادقة التي احتشدت من أولئك المحبين فملأت صفحات القلوب قبل أن تزين صفحات الصحف والمجلات، بالإضافة إلى الكثير من تلك الاتصالات الهاتفية).
أقول له: لا تعجب أبا بدر من أمة ديدنها الوفاء، وشعارها (قول الحق) وميزانها -بإذن ربها- الصدق.
أو ل(راحة) ارتآها- في ترك مجلتنا: (العربية).. اللغة والروح والكيان-: وهي بعنوان: الربان والمرسى. أو: لكل شيء خاتمة، ولكل شيء مدى، ولكل شيء منتهى، فالعمر الموت خاتمته، والدنيا القيامة مداها، والسفينة الشاطىء منتهاها.
أجل أبلغكِ (الربان) شاطئك أو نقلة أخرى من حياتك نحسبه بإذن الله على يد نعم السلف: د. عبدالعزيز السبيل - والذي أحسبه في موقف العاطفين على ترك الربان أو.. هو في موقفٍ رهيب إن لم يتم إتمام.. سلفه على بناء أعلى، ومقام أزكى. فطوبى لمن استطاع ملك القلوب، وأعطف إليه -بأعماله، أو آثار شخصيته- الأفئدة، وقد منحها الأديب والصحفي والكاتب من روحه وقلبه وثقافته، وسعة علاقاته مع حسن خلقٍ، ما جعلها مشرقة، وذات رونق وبهاء. وأحسبه رمى قول جبران خليل جبران: (إن تكريم الأديب.. ليس في أن نُعطيه ما يستحق! بل هي أن نأخذ منه ما يعطي). وبالمناسبة فإني لأقترح، وهذا لعله من أقل حقوق المحفي به أو الذي أتمنى منها- وفاء لصاحب الوفاء- تخصيص (عدد) لا أقول لوداعه، أو لإيفائه حقه، وإنما إعطاء فرصة لمحبيه للتعبير عما يجيشهم تلقاء (أبي بدر) حفظه الله. والذي أهنيه بما بلغ، فما أجمل أن يُجمع على حبك أو مدحك! بل أعتبرها أجلُّ شهادة ما تود هذه المنزلة، فلم أقرأ حسب اطلاعي لشخص من جيله مثلما نال (هو) من ذلك الحب والمدح أيضاً- أو كأنها مناسبة ليعبرّ أحبابه.. من خلالها -والذي أُمطِره إثر تركه ( لا استقالته) من مجلتنا (العربية) ذات الاسم والمسمى. أجل أنعم بهذه القلوب التي نثرت عليك عبارات من جوفها.. لا من مدادها، وأحباب كسبتهم بتعامل راق قل نظيره. ولأقول - بعدها-: الترك نوعان مرحلي ومجالي، فهناك مرحلي ينطوي مع تواري العمر عن عهده ك(ترك التصبب للشيخ) خجلاً أو خوفاً لوقاره أن يُمس. ومجالي -كما أحسب- ترك أدبينا حمد ابنته كما يصفها أستاذنا الخويطر. ولئن كان أبو بدر لا يَحمْد.. وقد لا يقبل مني أقول فيه ذلك، فلست بمقام من يستشيره بذلك، فما ذلك إلا (ونحن شهود الله في أرضه) نقول- بل ونبث- عما نعلم، فكما حُقَّ علينا أن نقول للمسيء: أسأت، فقد حُمّلنا أمانة القول للمحسن: أحسنت.
ثم لماذا الترك؟!
فإن كان السبب كما أدليت (التفرغ لمسؤوليات أخرى) فلا بأس -كما سيأتي فيما أشار إليه (الدامغ)- إذ إني أحسبها بداية رحلة أدبية أخرى، والعذر هنا يُخبت العذل إن لم يكن مدحضاً، وإلا فالعتب من قبلنا قد حلّ، إذ كيف يتخلّى المولى عن موليته، بخاصة وقد استطعت -كما يقول سليمان الفندي-: (استطاع حمد القاضي بحنكته وثقافته أن يوصل المجلة العربية لما وصلت إليه في المحتوى والمضمون والشكل والإخراج، استطاعت المجلة أن تكسب نخبة الكتاب من وزراء وأكاديميين وإعلاميين، لقد وصلت المجلة العربية إلى كل الأقطار العربية، بحق إنها مجلة جامعة جمعت جميع العلوم، تُقدِّم لنا مائدة أخّاذة كل (شهر) ببراعة رئيس التحرير ومدير التحرير ومسؤولي التحرير). وإن كان لعذر أبطنته، فشفه عنك القصيبي بقوله: (أود أن أهنئك بالخروج سالماً غانما بذكرى عطرة ومنجزات عديدة.. وأحباء لا يحصيهم العد...). فقد يلحقك بعض تأنيب؛ إذ كيف يدع أحد أثمن كنز خوفاً أن لا يستطيع الحفاظ عليه. ويكفي أنها على يديك استطاعت كسب ومخاطبة كل الفئات -وبتوازن- فهي (على دعايتها: مجلة كل الأسرة) وبمهارة صحفية عالية أهلها لحصد كل الألقاب من المحبين والقراء. وأكتفي -قبل أن أختم- لك هنا حين أدلى بدلوه.. أديبنا (الوالد): عبدالله بن إدريس، إذ كان مما قال: (وإذا كان التغيير من طبيعة الحياة.. فإن إراحة أبي بدر من المسؤولية الأولى في هذه المجلة شيء طبيعي لا يدل على نقص في المهنة أو العمل، وإذا كان الخلف على رئاسة تحرير المجلة العربية هو الدكتور عبدالعزيز السبيل -وكيل وزارة الثقافة والإعلام والشؤون الثقافية- فنعم الخلف، وأكرم بأبي حسان قبطانا جديداً لسفينتنا الأدبية ولقد رأينا في الدكتور السبيل شعلة لا تنطفئ من النشاطات والحركات اليومية التي استنبتها بالتعاون مع الأستاذ د.مدني وزير الثقافة والإعلام منذ حل في هذه الوزارة). ثم ب(شهادات) أتت من أربع قمم: أورد هنا شافعاً -إن كان في مقالي وهن-.. أو لأني أخاف أن أكون جئت بعدهم بجهد مشتت، إن لم أكن كمستبضع التمر إلى هجر.
قول -أو وصف- د. عبدالعزيز الخويطر: ترك ابنته من قبل أبيها (وهذا تعبير كافٍ وافٍ)؛ فقد أوجز معاليه: (البر المتبادل بين ولي الأمر وابنته) الذي سطر فيه ذلك الحديث العذب على لسان (المجلة العربية).
ومن تلك المشاركات ما كتبه د. حسن الهويمل في مقاله: (القاضي والمجلة العربية) ومما قاله فيه: (وما كنت أتوقع أن أودعه من موقع اصطبغ باسمه، وارتبط ارتباط بالشاخص لولا أن الحياة كالنهر تطوي أشياءها وأناسيها كطي السجل للكتب... إلخ.
وجميل أن تنهال أقلام الكبار والأعلام بحديث الوفاء والمحبة والنبل، حديثاً لا يخالط صفوه كدر ولا يشوب بياضه سواد أو عتمة).
ثم أجزلها مما يُحمد لك يا (حمد) للمجلة في عهدك.. على لسان (د. غازي القصيبي): (وأذكر للمجلة العربية في عهدك ضمن ما أذكر حفاوتها بالفصحى وإعراضها عن الشعر النبطي (كالسونامي) يجتاح ما أمامه ومن أمامه. وأذكر للمجلة العربية في عهدك لسانها العف وملامحها الطلقة، فهي لم تخرج قط عن مقتضيات الأدب ومتطلبات الشهامة.
وأذكر للمجلة العربية في عهدك وفاءها مع أصدقائها من تعرف ومن لا تعرف). كما وأشاد لك (أحمد الدامغ): (لقد أعلنت وداعك العربية التي تركتها وهي منبر من منابر الأدب الذي تتعشق الوصول إليها أقلام الكتاب في بلادنا العربية عامة).
ثم يقول:
(فإننا نطالبك بأن تجرد قلمك لتتحفنا بما مر بك من مواقف نعدها الآن تراثاً أدبياً فيه من متعة القراءة ما فيه، وأتمنى عيك يا أبا بدر أن تباشر العمل في ذلك).
وأعقّب بعدها بالقول لأبي البدر:
شهم تدثّر بالعزيمة يافعا
وسمت به نحو العلا أخلاقه
آباؤه صيد تألق نجمهم
وإلى دروب المجد كان سباقه
قفل:
ولو زاد حمد من جم لطفه ووقعه في القلوب لزدنا؟
mohsnali@yahoo.com