Al Jazirah NewsPaper Tuesday  18/09/2007 G Issue 12773
أصداء
الثلاثاء 06 رمضان 1428   العدد  12773
الكتاب الأول من نوعه في شموله للألغاز العربية
مجمع الألغاز لخير الدين شمسي باشا 2 - 2

خطا علماء العربية القدامى بموضوع الألغاز والأحاجي خطوة متقدّمة سريعة غير مسبوقة، وهم أول من لفت الأنظار إلى أهمية موضوعها وطرافته، ودليلنا على ذلك ما سطروه في مصنفاتهم النحوية من قضايا ملغّزة، وما دوّنوه في مؤلفاتهم الفقهية من مسائل مبهمة.. ويسهم كتاب (مجمع الألغاز) لخير الدين شمسي باشا في دراسة كتب الألغاز والأحاجي وحصر ما فيها من إفادة وتجديد لباع اللغة العربية، فكم احتضنت الألغاز النحوية قواعد نحوية سهل على الباحثين نقلها للدارسين، وكم ضمت من قواعد فقهية سهلت ولوج الباب وقطع الطريق، والعرب هم أسبق الأمم إلى موضوع الألغاز والأحاجي والمعميات، ويشير مؤلف الكتاب إلى نقطة جوهرية في تاريخ اللغز العربي فيقول: ((إن هذه الأمة انبثقت من الجزيرة العربية في الأعوام الست مئة (القرن السابع الميلادي) وأشعّت فوق مساحات شاسعة من العالم المعروف، فأخرجت بسرعة واحدة من أرقى الحضارات التي عرفها التاريح حتى ذلك الوقت، لقد ازدهر العلم فأصبحت علوم الطب والرياضيات أفضل ما في العالم، ومن الرياضيات جاءت كلمة التعمية في اللغات اللاتينية عامة وهي كلمة Chipher ، كما ازدهر الفن التطبيقي وتطورت علوم الإدارة.

ولما كانت ديانة هذه الحضارات قد حرّمت الرسم والنحت لذوات الأرواح فقد حضّت بالمقابل على التعمق في تفسير القرآن الكريم، مما أدى إلى أن تنصبّ الطاقات الخلاقة الكثيرة في متابعة الدراسات اللغوية، مثل كتاباتهم الأدبية في ألف ليلة وليلة، وفي الألغاز والأحاجي والرموز والتوريات والجناس، وأمثالها من الرياضات الذهنية، هذا وقد أصبح النحو علماً أساسياً.. فأدى كل هذا إلى أن يتضمن الكتابة السرية (علوم التعمية).

وقد عقد القلقشندي في (صبح الأعشى) فصلاً (في إخفاء ما في الكتب من السر) قال فيه: وهو مما تمس الحاجة إليه عند اعتراض معترض من عدو ونحوه يحول بين المكتوب عنه والمكتوب إليه من ملكين أو غيرهما، حيث لم تفد الملطفات لضرر الرصد وزيادة الفحص عن الكتب الواردة من الجانبين).

وفي نهاية مقدمة (مجمع الألغاز) الضافية كتب المؤلف عن عمله في مجمعه: (الألغاز فن من فنون الأدب ازدهر ردحاً من الزمن حيث مال الأدباء والشعراء إلى المحسنات البديعية واشتد ولعهم بها وجعلوا همه في التنافس في فصاحة الألفاظ دون بلاغة المعاني، فكانت مقامات بديع الزمان الهمذاني فالحريري ثم الوهراني في مناماته، وكثرت المساجلات في الأحاجي والألغاز والتلاعب باصطناع المعميات العويصة، والمعاياة الخفية التي يُحتاج لاستخراجها إلى سرعة البديهة، وكدّ الخاطر وجهد القريحة وقدح زناد الفكرة، وتمكّن من علوم البلاغة وإتقان علوم اللغة والتصرف بمفرداتها.

وقد عمد بعضهم إلى التأليف في هذا الفن وضمن بعض الشعراء دواوينهم الكثير منها، وفي نهاية هذا الكتاب سجل لما عُرِفَ من مصادرها.

ومنذ سنين كنت أنقل ما أقع عليه من الأحاجي والألغاز حتى تجمع لدي عدد وافر منها، فعكفت على تصنيفها وتبويبها وترتيبها على الهجاء؛ ليسهل على أبناء هذا الجيل الرجوع إليها، ففيها من التسلية الممتعة والرياضة الذهنية والفائدة اللغوية ما يغنيهم عن إضاعة الوقت بحل جداول الكلمات المتقاطعة التي تملأ صفحات الصحائف والمجلات حتى الرصينة منها).

وتنقسم الألغاز إلى نوعين:

ألغاز لفظية: هي ما كان الإلغاز فيها عن شيء بذكر كلمات تتضمن اسمه أو بعض حروفه، ويُشار إلى ذلك بعكس الملغز فيها أو بتصحيفها، أو بحذف حرف منها أو تبديله أو معادلته بالرقم في حساب الجمّل.. ويشمل هذا النوع من الألغاز المعماة والعويصة والمرسومة، وعلى الألغاز الفقهية واللغوية شعراً ونثراً، ومثال ذلك قول أحدهم ملغزاً في (أسد):

أي شيء لدى السماوات يُلفى

وهو في الأرض بالجراءة يسعى

ذو ثلاث وأربع إن عددنا

وتراه إذا تحققت سبعا

وحلّه كالتالي:

من الأبراج الفلكية برج (الأسد)، والثلاث هي أحرف (أسد)، والأربع هي أطرافه، والسبع مرادف (أسد).

ألغاز معنوية: وهي ما يُشار إلى اللغز فيه بذكر صفاته وخصائصه دون الإشارة إلى اسمه بتصحيف أو قلب أو إبدال أو حذف، ويحتاج استخراجها إلى طول الباع، وسعة العلم والاطلاع، وإلى حذق البيان، وحدة الجنان، وإلى كشف اللثام عن خفي الكلام، ومثال ذلك ما قاله أبو العلاء ملغزاً في (إبرة):

سعت ذات سم في قميصي فغادرت

به أثراً والله شاف من السم

كست قيصراً ثوب الجمال وتبّعاً

وكسرى وعادت وهي عارية الجسم

ويتحدث الكتاب عن ملغّزين أفذاذ برزوا في هذا الفن، بل بزوا من سبقهم ولحقهم، ومنهم ابن عُنين ومساجلاته.. والجميل في الكتاب أنه يذكر ترجمة لذلك العلم الذي اشتهر بألغازه كابن الجيّاب، كما أفاض المؤلف - رحمة الله عليه - في سرد ألغازه ومعمياته، وترجم الكتاب لآخرين من أمثال ابن عُنين ومساجلاته، وابن الفارض وألغازه، وغيرهم ممن اشتهروا وبرزوا في هذه الألغاز كالعاملي، والدماميني، والصلاح الصفدي، وجار الله الزمخشري بأحاجيه المشهورة، وشريح قاضي الكوفة الذي عُرِفَ بأنه صاحب عويص، ومنهم ممن يشار إليه بالبنان أبو العلاء المعري، فقد ذاع صيته وكان يرد على اللغز بمثله نظماً وارتجالاً، وهذا مشاهد في مؤلفاته التي لا تكاد تخلو من هذا الفن، بل لقد ألف فيه ديواناً سماه (ديوان الألغاز).. وقد اشتهرت ألغاز عويصة دونَ حلِّها خرط القتاد، ومن ذلك اللغز المشهور الذي ورد من الشام أو من السودان إلى الديار المصرية قال فيه الحلواني: وهو لغز اشتهر بأندية مصر ورأى الناس دون حلّه الإصر، وهو:

ألا أيها الساري على ظهر أجرد

يجوب الفيافي فدفداً بعد فدفدِ

تحمل رعاك الله مني رسالة

تبلغها أهل المدارس في غدِ

تقول لهم: ما خمسة خلقوا معاً

وما سبعة في ثوب خزٍّ وعسجد

حواجبهم خمسون في وجه واحد

وأعينهم سبعون في خلق هدهد

أبوهم له حرفان من اسم جعفر

وحرفان من اسمي عليّ وأحمد

ولكن جاء كتاب (مجمع الألغاز) غفلاً من مبحث مهم جداً، وهو ما قاله البلاغيون في فصاحة اللغز وبلاغته، يقول الأستاذ أحمد محمد الشيخ في كتابه (كتب الألغاز والأحاجي اللغوية وعلاقتها بأبواب النحو المختلفة) ما نصه: (لقد وضح اختلاف وجهات النظر حول فصاحة اللغز من عدمها، فهو تارة ليس يتعلّق به كبير بلاغة ولا عظيم فصاحة كما ذكر صاحب (الطراز)، أو تارة هو بين بين وعليه سمة البلاغة، ولا يعد من الأحاجي ولا يعد من فصيح الكلام، كما يرى ابن الأثير، وهو تارة أخرى غير معدود في الصنائع البديعية، ولم يقبله البلغاء إلا بشرط كونه على وجهٍ لا تنبو عنه الأذهان المستقيمة ولا تمجه الأذواق السليمة، فعندئذٍ متقبل ومقبول ولكنه لم يوضح فصاحته من عدمها، ولسنا ندري له وضعاً يكون بين بين فلا هو إلى الفصاحة ولا هو إلى الركاكة، ولكننا نرى أن قول الخفاجي لا يعدو الصواب والحقيقة، حيث جعله مذهباً مفرداً وطريقة أخرى من الكلام، إذ خالف وضعه وضع الكلام، وهذا يوافق مذهب السيوطي في (المزهر) من أنه الألفاظ التي قصدت العرب الإلغاز بها وضعاً، وجعلتها من هذا المنحى في عرف اللغة العربية، وبهذا تنتفي صفة الغرابة والحيرة في عدة من أبواب الفصاحة على قدم القول في مذاهبه من الجاهلية إلا إذا كانت الشكوك تحوم حول هذه النقول على قلتها، على مذهب قضية الانتحال في الأدب العربي).

وأختم هذه القراءة لكتاب (مجمع الألغاز) بلغز من الألغاز المثيرة التي حيّرت الأدباء، وتواردت عليه أكثر النبلاء الفضلاء، فعجزوا عن حلّه، يقول صاحب اللغز:

ما قولكم في شيء يطير بلا جناح؟

يَبيض ويُفرِّخ في البِطاح.

رأسه في ذنبه.

وعينه مَوْضِعَ قَتبه.

يسمع بأذن واحدة.

ويُبْصِرُ بعين زائدة.

له قرن كالنخلة السحوق.

يعجب مَن أبصره ويروق.

يُصلي إلى المغرب بالليل.

ويسجد طول دهره لسهيل.

تتقرّب به الملوك إلى الخالق.

ويوحّدونه بقلب صادق.

النصارى تتبرك به واليهود.

والكتب المنزلة بذلك شهود.

ريشه كثير، ووبره غزير.

طعامه الجوز والعسل.

وبه يضرب في الدنيا المثل.

شرابه اللبن والخمر.

ونقله الملح والتمر.

يكره النسوان.

ويحب الغلمان.

يحمل الأثقال وهو ضعيف.

ويعدي الأسد وهو نحيف.

إنْ طَلَبَ أدرك.

وإنْ طُلِبَ أهلك.

يَقطع الأرض في ساعة، بلا مال ولا بضاعة.

تعرفه الملوك ولا تنكره، وتفهمه السوقة وتخبره.

يسكن القصور.

ويأوي بالليل إلى القبور.

يبكي على الأحباب، ويندب على فَقْدِ الشباب.

ما ملكه قَطّ بَشر، ولا حازه أنثى ولا ذكر.

تلعب به الصبيان.

تغلي من سعره الأثمان.

ويُتلى في سورة الأنفال.

يُصلّي ويصوم.

ويقعد ويقوم.

خلقته لا تحصى، وصفاته لا تستقصى.

أفيدونا أثابكم الله بمنّه وكرمه.

ومن أراد حلّ اللغز وشرحه أحيله إلى الصفحات 463 - 470 من (مجمع الألغاز)، وأنا واثقة أن مَن يطالع هذا الكتاب سيجد الكثير من المتعة والفائدة.

قراءة: حنان بنت عبد العزيز آل سيف
عنوان المراسلة: ص. ب 54753 - الرياض 11524 فاكس: 4656444



 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد