Al Jazirah NewsPaper Sunday  23/09/2007 G Issue 12778
اليوم الوطني
الأحد 11 رمضان 1428   العدد  12778

حبّ الوطن حقيقة لا وَهْم
محمد بن صالح السليمان الخزيم(*)

 

محبة الأشياء والميل إليها شعور إنساني طبعت عليه النفوس ولن تخلو نفس منه غير أن هذه المحبة تختلف قوةً وضعفاً بين الناس. ومن تلك المحبة الميل إلى البلدان والشوق إليها؛ إنه شعور أصيل منذ أقدم العصور؛ فالإنسان يألف وطنه ويحنّ إليه، بل يتوجع إن أحد نازعه إياه، أو اغتصبه منه، وحتى النيل منه بالكلام تأنفه النفوس الصادقة؛ قال ابن الرومي:

ولي وطنٌّ آليت ألا أبيعه

وألا أرى غيري له الدهر مالكا

عمرت به شرخ الشباب منعماً

بصحبته قوم أصبحوا في ظلالكا

إن محبة الأوطان والحنين إليها عرفها الإنسان وبرزت في كثير من تصرفاته كما يأتي، وهي أيضاً صفة تمثلت في كثير من الحيوانات والأشجار؛ فها هي بعض الكائنات لا تعيش إلا في موطنها، وقد تعيش بعضها في وطن الغربة، ولكن تفقد كثيراً من خصائصها؛ فسبحان الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى. قيل: (أكرم الإبل أشدها حنيناً إلى أوطانها). وقيل: (ثلاث خصال في ثلاثة أصناف من الحيوان الإبل تحنُّ إلى أوطانها وإن كان عهدها بها بعيداً، والطير إلى وَكْرِه وإن كان موضعه مجدباً، والإنسان إلى وطنه وإن كان غيره أكثر نفعاً).

ونلاحظ جميعاً الطيور تهاجر من وطنها ثم إذا هي بلحظة تعود إليها مع بُعد المسافة وطول الأميال. قال جرير واصفاً حنين الإبل:

تحنّ قلوصي بعد هدء وهاجها

وميضٌ على ذات السلاسل لامعُ

فقلت لها حِنِّي رويداً فإننّي

إلى أهل نجد من تهامة نازع

فإذا كان الحيوان يحنّ إلى وطنه؛ فالإنسان بعقله الكبير حنينه أشد وشوقه أقوى؛ لذا كان الواحد من البرامكة إذا سافر أخذ معه من تربة مولده في جراب يتداوى به.

كما تعارفت العرب أن من غزا أو سافر حمل معه من تربة بلده رملاً وعَفَراً يستنشقه عند نزلة أو زكام أو صداع، قالوا:

ولابد في أسفارنا من قبيصة

من التراب نُسقاها لحب الموالد

ولا يعني حب الوطن السجود له أو تعظيمه بما يخالف مبادئ الدين وقواعد الملة ولا بالغلو في حبه والتنطع في أمره، ولكن الواجب حفظ حقه وشكر فضله.

حب الوطن والشوق إليه في الإسلام

محبة الأوطان فطرة زرعها الله في قلوب البشر وأقرها الإسلام. قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ}؛ فالله تعالى قرن بين قتل أنفسهم والخروج من الديار؛ فجعل - سبحانه - الخروج من الديار كالقتل. وقال: {وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا}؛ فجعل الله - سبحانه - القتال ثأراً للجلاء عن الوطن. وهذا يؤكد منزلة الوطن في النفس البشرية.

وفي السنة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أُخرج من وطنه مكة المكرمة لشدة ما لاقاه من أذى المشركين؛ فقال - صلى الله عليه وسلم -: (والله إنك لأحب البقاع إليّ، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت). وقال: (ما خرجت عنك رغبة، ولكن الذين كفروا هم أخرجوني).

وإذا كانت مكة بهذه المنزلة فإن المدينة برزت محبتها بالحديث الذي رواه البخاري عن أنس قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قدم من سفر فأبصر درجات المدينة أوضع ناقته وإن كانت دابة حرَّكها من حُبِّها)؛ فالنفوس تواقة إلى وطنها؛ فمتى ما قدم المسافر فرأى بلاده فرح واندفع مسرعاً كمن رأى صبياً له، وطالت عنه غيبته ليعانقه شوقاً وحنيناً إليه.

سررت بجعفر والقرب منه

كما سُرَّ المسافر بالإياب

إن حب الأوطان مبدأ إسلامي أصيل جبل الله النفوس عليه، ولولا هذا المبدأ لخربت البلاد. قال عمر - رضي الله عنه -: (لولا حب الوطن لخرب البلد السوء). وقيل: (بحب الأوطان عُمِّرت البلدان).

وهذا بلال بن رباح - رضي الله عنه - لما خرج مهاجراً من مكة إلى المدينة فوجد شدة الوجع من حمى المدينة أنشد:

ألا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلةً

بوادٍ وحولي إِذْخِرٌ وجليل

وهل أرِدْن يوماً مياه مجنَّة

وهل يبدُوَنْ لي شامةٌ وطفِيل

ثم قال: اللهم العن شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة وأمية بن خلف كما أخرجونا من أرضنا.

غير أن هذا الحب لا يخرج عن طور الاعتدال إلى التعصب والاقتتال فتنقلب المحمدة مذمّة والمنقبة مثلبة.

حب الوطن والحنين إليه أدب عربي

هكذا رأيت تبلور محبة الأوطان في النفوس، ولا لوم على أحد في ذلك، لأنه تغذى بطعامه، وشرب من مائه، وعانق سماءه، وتمطى أرضه وفجاجه. كما ترعرع في جنباته، وتنعم فيه بلقاء أحبته وأصدقائه. ودرج من الصبى إلى الرجولة على ترابه؛ فارتبط ببيئته ارتباطاً وثيقاً يفرح لفرحه ويغتمُّ لكُربِه. حنينه إليه دائم وشوقه إليه لازم.

قال الأصمعي: سمعت أعرابياً يقول: (إذا أردت أن تعرف الرجل فانظر كيف تحننه إلى أوطانه وتشوقه إلى إخوانه).

المرأة والحنين إلى الوطن

المرأة أشد حنيناً إلى وطنها وأكثر تعلقاً به تبوح به متى ما زُفّت إلى بعلها خارج بلدها أو فرضت الظروف عليها تركه ومغادرته. قالت نائلة بنت الفرافصة لما حُملت إلى زوجها في المدينة فشق عليها الفراق:

ألست ترى يا ضَبُّ بالله أنني

مرافِقة نحو المدينة أركبا

أما كان في أولاد عوف بن عامر

لك الويل ما يُغني الخباء المُطنبا

أبى الله إلا أن أكون غريبة

بيثرب لا أُمّاً لدي ولا أبا

وهذا النوع من الشوق والحنين كثير عند العرب.

الاستشفاء بالأوطان

إن الارتباط بين الإنسان ووطنه له أثر في طبيعة المرء عرفها السابقون، وبالتجربة أثبتها المتأخرون؛ ففي الحديث: (بتربة ربنا بريقة بعضنا يُشفى سقيمنا بإذن ربنا) رواه أبو داود؛ إذا التربة لها أثر في صحة الإنسان. وقال - صلى الله عليه وسلم - في المدينة: (والذي نفسي بيده إن غبارها شفاء من كل داء) ذكره المنذري. قال أهل القيافة: (إذا أحسّت النفس بمولدها تفتحت مسامّها فعرفت النسيم). وقال بقراط: (يُداوى كل عليل بعقاقير أرضه فإن الطبيعة تتطلع لهوائها وتنزع إلى غذائها). وذكر الجاحظ جانباً من تداوي السلاطين والملوك بعقاقير أراضيهم فبرئوا من عللهم.

إن في البلاد دواء ناجعاً؛ فربما مرض المرء بمفارقة وطنه؛ فكان دواؤه بالرجوع إلى تراب أرضه يستنشق نسيمه حتى يزول همّه وينشرح صدره ويفرح قلبه؛ فالطبيعة البشرية تستلذ ما طاب من أرضها وتشتاق إليه. وتأنف مما خالف طبعها ومزاجها؛ فوطن حواك وأمصك ثديه وأرواك حق عليك برّه وإعلاء أمره.

(*)مدير المعهد العلمي بالبكيرية


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد