تزامناً مع اليوم الوطني للمملكة، وضمن الأنشطة الثقافية التي تقوم بها كلية الملك عبدالعزيز الحربية، اختارت رئيس تحرير الجزيرة لإلقاء محاضرة بمناسبة هذا اليوم... وقد استحسن المالك أن تكون هذه المحاضرة عن الحياة العسكرية، واختار تجربته ومعايشته مع الحياة العسكرية نموذجاً للتحدي والصمود والكفاح والمثابرة..
أقيمت هذه المحاضرة في قاعة الأمير سلطان الثقافية بالكلية. وقد حضر هذه المحاضرة قائد الكلية اللواء شايح العتيبي وأساتذة وطلبة الكلية وعدد من رجال الصحافة..
المالك قبل أن يبدأ في تجربته، تحدث عن شخصية الملك عبدالعزيز -رحمه الله- وما يتحلى به من مزايا وخصال فريدة استطاع من خلالها أن يكسب الجميع.... وأن يحول الأعداء إلى أصدقاء ويكسب حب الناس...
تحدث عن الدولة السعودية الأولى والثانية وكيف توحدت البلاد بعزيمة الرجال المخلصين لدينهم ووطنهم..
تحدث عن هذه الإنجازات الحضارية الكبيرة التي تعيشها المملكة في شتى المجالات..
(نص المحاضرة)
من أجمل الذكريات التي يعتزُّ بها الإنسان ويستذكرها من حين لآخر ما التصقت أحداثها بسني طفولته أو بمرحلة شبابه المبكر، ومن المؤكد أن أقدرها على الرسوخ في الذهن ما كان منها مؤثراً في مسيرة حياة الإنسان العملية والتعليمية، سواء ما كان منها ذا تأثير سلبي أو ذا أثر إيجابي على حد سواء.
وكل مَن حاول أن يفتح صفحات ذكرياته القديمة، يستعرض ما فيها، ويغوص في أدق التفاصيل عنها، سيجد نفسه أمام ما يمكن البوح به للناس، وما ينبغي أن يحتفظ به لنفسه من هذا الكم الهائل من المعلومات، وقد نجد مستقبلاً بعض ما كنا نرى عدم وجاهة التصريح به من قبل وقد أصبح فيما بعد يتمتع صاحبه بحرية الحديث عنه دون أدنى حرج.
نعم هناك أسرار ينبغي أن يحتفظ بها كلٌّ منا في صندوق ذكرياته، مما تُصنَّف ضمن الذكريات الشخصية التي لا تخصّ إلا صاحبها، ولا تعني شيئاً لأي أحد غير صاحبها، ولا فائدة أو مصلحة من اطلاع الآخرين عليها، وهذا يعود تقديره لك ولي ولكل مَن يتَّجه نحو فتح هذا الصندوق الذي يحتفظ بشيء من الذكريات.
ذلك أنه ليس كل ما يُعرف يُقال، وهذا ما تعلِّمنا به أدبيات تربيتنا منذ الصغر، وبالتالي فإن بعض الأسرار هي شأن خاصّ لا علاقة للآخرين بالتعرّف عليها، حتى وإن وجد بعض الفضوليين الذين يسعون -ما أمكنهم ذلك- للتعرّف على شخصية الإنسان من خلال قراءة صفحات من ذكرياته.
والذكريات ليس أجملها دائماً ما كان جاداً؛ فقد يكون في غير ذلك من الذكريات عنصر إثارة وتشويق وقبول لدى الآخرين، بما لا أجد معه غضاضةً في أن يتحدث المرء عن شيء من ذكرياته ما كان منها جاداً أو غير جاد، وبخاصة حين يحسن اختيار المكان والتوقيت الزمني المناسبين لها.
وعليَّ أن أستدرك فأنوِّه بأن الذكريات لا تقتصر على ما يُدوَّن أو يُكتب على ورق، أو ما يُسجَّل بالصوت في شريط، أو ما يكون من خلال بعض الصور (الفوتوغرافية)، بل إلى جانب ذلك فإن أغلب الذكريات ما كان يحتفظ بها العقل؛ فهو بمثابة أرشيف أمين وصادق ودقيق في تسجيله لكلّ ما مرّ به المرء من تجارب في كل مراحل سني عمره.
* * *
ومن الطبيعي أن نفقد الكثير من المعلومات عن ذكرياتنا حين نتأخر في تفريغها من عقولنا، وتوثيقها كتابةً أو تسجيلاً؛ وكلما بكَّرنا في استحضار المعلومات عنها ونحن في كامل نشاطنا الذهني وفي مرحلة قوة ذاكرتنا، كلما كنا أقدر عندئذٍ على استذكار كل التفاصيل عن الذكريات التي نريد أن نتحدث عنها، لأنه لا شيء يُقلق المرء مع تقدُّمه في العمر أكثر من كونه قد بدأ في الشعور بفقدان رصيده الذي كان يحتفظ به من الذكريات، فينسى مثلاً أسماء الزملاء والأصدقاء، وتغيب من ذاكرته محطات كثيرة كانت غنية بذكرياته وكانت تمثِّل له جزءاً من حركته ونشاطه وتجاربه وعلاقاته بالآخرين، فضلاً عن أنها كانت تعطي له إشارات عن نجاحه وفشله وكل ما كان يمثِّل المصباح الذي ينير له الطريق ويعرفه بما سيؤول إليه حاله في المستقبل.
وإن مقاومة النسيان الذي يتزامن عادة مع سنوات الشيخوخة، ليس له من علاج؛ إلا بأن يباشر الإنسان في تسجيل ذكرياته وما مرَّ به في حياته من أحداث وتجارب وعقبات أولاً بأول، لكي لا يفقد شيئاً مما مرَّ به في مسيرته الحياتية مع تقدمه بالعمر، وبالتالي صعوبة استحضار ما كان قادراً على استحضاره حين كان يمر في مرحلة الشباب من عمره.
على أنه لا يغيب عن الذهن أن أهم الذكريات أو المذكرات أو السير الشخصية التي يرغب الناس أن يتعرّفوا عليها ويقتربوا منها ويلموا بكل التفاصيل عنها هي تلك التي تكون عن المشاهير والرموز والنجوم، وأسعد الناس - ربما - مَن لا يكون من بين هؤلاء حتى لا تلاحقه الفلاشات وعدسات المصوِّرين ووسائل الإعلام بمختلف أشكالها وأنواعها.
إذ إن خوف المشاهير من اختراق الآخرين حياتهم الخاصة، وتسابق وسائل الإعلام على معرفة كل أسرارهم، وبخاصة ما لم يُقَلْ من قبل عن ذكرياتهم، يجعل هؤلاء حريصين على ضبط ما لا يريدون أن يتعرّف عليه الآخرون، من خلال السيطرة على الجوانب التي يعتقدون أنها لا تعني أحداً غيرهم، بل إنهم قد يفضِّلون أحياناً الاحتفاظ بكل ما لديهم من ذكريات عن أن يتحدثوا عن بعضها فتكون عندئذٍ فرصة للمتربِّصين ليزيدوا عليها ويضيفوا إليها ما لا يكون صحيحاً.
على أن نجومية الإنسان، أو انكفاؤه على نفسه واقتناعه بما هو عليه من حال، هي - كما أتصور - بعضٌ من جوانب شخصيته، ولها دلالات وإشارات كثيرة لا نجدها إلا في الذكريات التي كانت تحتفظ بشيء من المتغيِّرات في السلوك، وبما يتواءم أو يتنافر مع ما تمَّ رصده لتحديد العلاقة بين شخصية الإنسان وما تقوله ذكرياته عن حياته بكل التفاصيل الدالة على ذلك.
* * *
وكما تعرفون، فهناك السير الذاتية التي يتحدث كاتبها عن نفسه بكل التفاصيل الدقيقة، بما قد يضطره هذا العمل السردي عن نفسه إلى العودة إلى جذوره، وإلى علاقتها بكل ما صقل شخصيته حتى ولو كان ذلك قبل ولادته من خلال حديثه عن أسرته ووالديه والبيئة التي نشأ فيها بعد ذلك، وما تركته تلك من تأثيرات في تكوين هذه الشخصية من حيث التوجهات والسلوك والتميّز في شيء من المهارات والتخصصات.
ويعد طه حسين الأسبق من بين العرب في كتابة سيرته الذاتية كفن أدبي من خلال كتابه (الأيام)، متأثراً بقراءاته لمفكرين ومثقفين غير عرب خلال إقامته ودراسته في باريس، وقد اقتفى أثره فيما بعد، العقاد والمازني وأحمد أمين وعبد الرحمن بدوي وفدوى طوقان وميخائيل نعيمة وغيرهم، بكتابة سيرهم الذاتية هم الآخرين.
وسيلاحظ المتابع أن أغلب السير الذاتية التي كتبت بأقلام أصحابها من العرب هي للمفكرين والمثقفين والأدباء، ومن يمكن وصفهم بالمبدعين، وإن نحا نحوهم في السنوات القليلة الماضية بعض السياسيين والاقتصاديين والمسؤولين في الأجهزة الحكومية، غير أن كتابة المرء لسيرته الذاتية بكل تفاصيلها الدقيقة شيء، وكتابة بعض مذكراته شيء آخر.
* * *
وإن الحديث عن الذكريات بكل شذراتها المثيرة، واستنطاق الإنسان لها، إنما هي - بنظري - من بين أهم جسور علاقة الإنسان مع غيره، حتى وإن تحدث المرء عنها بشيء من الحذر، بحيث لا يفرغ صندوق ذكرياته من كل ذخيرته، ضمن الحرص على الاحتفاظ بما لا ينطوي على أهمية لتعريف الناس به، أو حين تكون بعض هذه الذكريات مغرقة في معلوماتها بالحديث عن الذات، أو حين تكتسي سمة النرجسية على النحو الذي قد لا يكون مقبولاً.
وأهمية الذكريات أنها قد تنطوي عند البوح بشيء منها عن إمكانية كبيرة لتسهيل الوصول إلى معلومات عن صاحبها، وبخاصة إذا ما أوحت للمتابع عند استقرائها بشيء مهم عن الجانب الإنساني الدال على شخصيته ليمتد ذلك إلى الجوانب الأخرى، سواء أتى ذلك بفعل المتابعة الفضولية، أو نتيجة لإخضاع مثل هذه الذكريات للدراسة ذات القيمة العلمية.
* * *
أتوقَّف عند هذه المقدِّمة، وأقول لكم: لا تتوقَّعوا أن تعرفوا مني شيئاً ذا قيمة كبيرة وتفاصيل كثيرة ودقيقة عن ذكريات مضى عليها أكثر من نصف قرن، بما لم تعُد الذاكرة بالقوة التي تسمح لي باستعادة كل ما كانت تختزنه من ذكريات متى أردت وفي أي مكان أو موقع أريد، وبذلك فإن ما سأقوله هذه الليلة ليس أكثر من تجربة متواضعة لها علاقة غير مباشرة بالمكان الذي نجتمع فيه هذا المساء، بما يعطيها -ربما- شيئاً من الأهمية أو الوجاهة التي ما كان لها أن تكون لو كان الحديث عن هذه الذكريات يتم بغير كلية الملك عبدالعزيز الحربية.
على أني لا أتحدث عن سيرة ذاتية كما عاشها أي إنسان بروحه وحسه وشعوره وعواطفه في رحلة قد تكون ممتعة أو لا تكون في هذه الحياة المتقلبة، حيث تتداخل فيها مراحل العمر منذ الطفولة مروراً بالشباب، وإلى أن يأخذنا بعد ذلك قطار العمر إلى مرحلة الشيخوخة المتقدمة، وإنما أستذكر فقط سنوات قليلة كنت بتوجيه من سيدي الوالد - رحمه الله - أرنو إلى أن أحمل على كتفي رتبة عسكرية ضمن زملائي المنخرطين آنذاك في قواتنا المسلحة الباسلة، غير أن هذا المشروع بعد سبع سنوات من الدراسة والانتظار حال - على ما يبدو - حائل دون إكماله، على ما في السلك العسكري من اعتزاز وفخر واعتداد وإغراء يشعر به ليس فقط من ينتسب إلى هذا القطاع، وإنما هذا هو شعور كل من يتابع بطولات وتضحيات رجال القوات المسلحة.
* * *
لقد بدأت الخطوة الأولى في علاقتي مع العسكرية مع حلول أول الشهور القليلة المتأخرة من عام 1374هـ؛ إذ إنه مع مجيء فصل الصيف اللاهب بمناخه المشوب عادة بارتفاع درجة الحرارة، ومع ما يصاحب هذا الجوّ من تساقط متواصل لحبات من العرق على أجسادنا، دون وجود مقاومة أو علاج في ظل انعدام خدمة الكهرباء، وافتقارنا إلى خدمة أجهزة التبريد، فقد كنت آنذاك على موعد مع نمط جديد من الحياة؛ تحول مفاجئ ومتغيّر في حياتي، من اللهو البريء في فضاء واسع ضمن حرية تحكمها تقاليد القرية، والبيئة التي كانت إحدى سماتها العيش المشترك بين الناس على مساحة صغيرة من الأرض، إلى حياة عسكرية صارمة ومنضبطة وجادة في كل شيء بعيداً عن البيت والوالدين والأسرة، وعن كل الأماكن الأثيرة عندي.
وفي ذلك العام، أي منذ أكثر من خمسين عاماً، كان يسود منزلنا - كما أتصور - حوار متواصل عن العسكرية ومدى ملاءمتها لطفل يتجه نحو بلوغ العاشرة من العمر، بينما كان هذا الطفل منشغلاً في لهوه مع مَن هو في سني عمره في الشارع على بُعد خطوات من منزله، كما لو أن الأمر لا يعنيه أو أنه لا يخصه؛ إذ ترك الجمل وما حمل بالنسبة لقرار انضمامه إلى السلك العسكري لوالديه، دون أن يشترك بالمناقشات أو أن يطلب والده منه ذلك.
وكان من الواضح لي حرص والدي -رحمه الله- على إنجاح افتتاح المدرسة العسكرية في محافظة الرس، وإقناع كل المواطنين بإلحاق أبنائهم بها، ولم يكن مقبولاً أن يقدّم النصيحة لغيره، بينما يبقى أبناؤه بعيداً عن المدرسة التي بذل شخصياً جهداً كبيراً من أجل الحصول على قرار بافتتاحها في محافظة الرس؛ لهذا لم يكتف الوالد بالمشاركة في الاحتفاء بالمدرسة بإلحاقي بها وحيداً من بين أبنائه فقط، وإنما اختار اثنين آخرين من أشقائي، بخلاف ثالث فشل في تجاوز الكشف الطبي الذي كان من ضمن متطلبات القبول في المدرسة التي حلّت ضيفاً عزيزاً على محافظتنا، لنكون ثلاثتنا من بين أوائل الملتحقين بها ضمن سعيه -رحمه الله- لإنجاح افتتاح المدرسة.
* * *
لم أكن يومها -كما أشرت- على علم أو معرفة بما كان يدور حولي من اجتماعات ومناقشات عائلية، لكني كنتُ على يقين بأن والدي هو صاحب الكلمة والقرار مهما تباينت وجهات النظر؛ لهذا لم تكن المدرسة العسكرية خياري الشخصي، وإنما هي رغبة الوالد التي يجب أن تحترم، مع أنه كان يُفترض قبل التحاقي بها، الإلمام بالثقافة العسكرية ضمن التهيئة النفسية المفترضة والتكيُّف مع البيئة الجديدة التي سأنتقل إليها وأتعايش معها.
وقد صادف بعد سنتين فقط من انتظامي طالباً بالمدرسة العسكرية أن تعرَّضت مصر للعدوان الثلاثي أو ما يُسمى (حرب السويس) التي شاركت فيها كل من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل في العام 1956 ميلادية؛ مما نبَّهني إلى أنني أُهيَّأ وبقية الزملاء من الآن للمشاركة مستقبلاً في حروب قد تكون قادمة ومشابهة لهذه الحرب، وهو ما كان خافياً عليَّ، فبدأت أتابع ذلك العدوان بشيء من الحماس متأثراً بما كانت تقوله إذاعة صوت العرب المصرية عن مسار هذه الحرب، ومثل ذلك حين بُلِّغ لنا بأنه سيتم استقطاع 25% من مكافأتنا الشهرية البالغة مائة ريال كانت تدفع لنا بالجنيه السعودي، ثم بعد ذلك بالريال العربي المسكوك من الفضة لدعم الجزائر في نضالها ضد الاستعمار الفرنسي، وكأن صاحب القرار كان يريد أن يضعنا مبكراً في مثل هذه الأجواء الساخنة.
ومع كل يوم يمضي من أيامي في المدرسة العسكرية كنتُ أقترب أكثر فأكثر من معرفة تفاصيل الغرض من إقامتي في هذه المدرسة بعيداً عن والديّ وبقية أفراد أسرتي، وكان شعوري الذي لم يتغيَّر أبداً أنَّ أقلَّ ما يمكن أن يستفيده طفل مثلي من الإقامة والسكن في مدرسة عسكرية هي تربيته وتهذيبه وبناء شخصيته، وتمكينه من أن يعتمد على نفسه سواء واصل مشواره في الحياة العسكرية أو اختار فيما بعدُ طريقاً آخر.
* * *
لا بأس أن أحدِّثكم عن الدموع والآهات وأجواء الحزن التي تزامنت مع اليوم الأول لمغادرتي المنزل إلى المدرسة العسكرية عند افتتاحها وبدء استقبالها لطلابها، وتكرار ذلك حين عودتي إلى المدرسة من جديد قبيل عصر يوم الجمعة من كل أسبوع بعد قضاء الإجازة الأسبوعية التي تبدأ عادةً بعد صلاة عصر يوم الخميس من كل أسبوع، هذا إذا لم أتعرض للتوقيف والحرمان من التمتع بإجازتي في حال ما ارتكبت شيئاً من المخالفات.
إذ بينما كانت تخيِّم السعادة والفرح على نمط تصرفاتي وحركاتي حين مغادرة المدرسة إلى المنزل في يوم الخميس، فإن شيئاً من نقيض ذلك هو ما كانت تتَّسم به أجوائي عند العودة إلى المدرسة في يوم الجمعة من كل أسبوع، وهو شعور تشاركني فيه والدتي التي يبدو أنه لا يكفيها أن تظلِّل ابنها الصغير بحنانها يوماً واحداً من كل أسبوع بعد أن كفكفت دموعها من قبلُ حين مغادرتي لأول مرة منزلنا إلى المدرسة العسكرية، مع قناعتها بأن هناك مصلحةً لا يمكن أن تغيب عن ذهنها في كون ابنها يُهيَّأ لما هو مفيد له ولبلاده من خلال التوجُّه نحو هذا الخيار الجميل من التعليم والتدريب، واستطيع أن أؤكَّد أن هذا هو حال ومشاعر وعواطف بقية الأمهات مع الزملاء من أبنائهن، وبخاصة من كانوا في مثل عمري.
* * *
أتذكر أنه تم افتتاح المدرسة العسكرية بالرس في نهاية عام 1374هـ بفصول دراسية تبدأ مستوياتها - وكانت مقتصرة على المرحلة الابتدائية - من السنة الثالثة إلى السنة السادسة، باستثناء أول دفعة من حملة الشهادة الابتدائية، حيث درسوا السنتين الأولى والثانية من المرحلة المتوسطة في سنة واحدة، غادر كبار السن منهم بعد ذلك المدرسة العسكرية بالرس إلى كلية الملك عبدالعزيز الحربية؛ ليتخرجوا فيها، أما من كانوا أصغر منهم سناً فقد تم إلحاقهم بالمدرسة الثانوية العسكرية بالمدينة المنورة ليكون تخرجهم من كلية الملك عبدالعزيز بعد زملائهم الأكبر سناً، ولم يكن الانضمام إلى المدرسة العسكرية بالرس مقتصراً آنذاك على سكان محافظة الرس فقط، وإنما كانت نسبة عالية من الطلاب الملتحقين بها من جميع القرى المحيطة أو البعيدة منها، بل إن بعض طلابها كانوا من مدن جنوب المملكة ومن الطائف وربما من مدن أخرى، بينما كان التشكيل العسكري والتعليمي والإداري ومن كان يقوم بمسؤوليات الخدمات الأخرى أغلبهم من خارج منطقة القصيم بل إن بعضهم من خارج المملكة؛ لندرة الكفاءات والقدرات المؤهلة في المنطقة آنذاك للقيام بهذه المسؤوليات، وكان من الواضح لي أن حجم الانسجام كان كبيراً بين الطلاب على الرغم من انتمائهم لعدد من مدن ومناطق المملكة، كما أن العلاقة بين المسؤولين بمختلف تخصصاتهم كانت تتسم هي الأخرى بشيء كبير وكثير من التعاون والتفاهم، مع أن أول لقاء تم فيما بينهم كان في هذه المدرسة دون سابق معرفة.
* * *
وقبل أن يتم قبولنا في المدرسة العسكرية لم تكن هناك حاجة تستدعي إلزام الطالب بالحصول على (التابعية) التي تؤكِّد أنه سعودي الجنسية، لكن مع انضمامنا إليها أصبح ذلك ضرورياً ومطلوباً وملزماً ولا مجال للتساهل فيه أو إعفاء أحد منه، وبخاصة أن من بين شروطها أنه لا يقبل فيها إلا من يكون سعودي الأصل والمنشأ والولادة.
ولمعالجة ذلك فقد تم استقدام جهاز كامل من المنطقة الغربية - على ما أعتقد- ضم مسؤولين ومصوِّرين لإنجاز المطلوب؛ إذ لم تكن يومها هناك إدارة مختصة بالأحوال المدنية في منطقة القصيم أو محلات للتصوير، مما وفَّر على الطلاب جهد السفر للحصول على ما يثبت هويتهم وانتماءهم إلى هذا الوطن.
بينما كان الكشف الطبي على الطلاب لمعرفة ملاءمتهم وصلاحيتهم للحياة العسكرية يتم في مدينة الرياض؛ بسبب افتقار مدينة الرس وباقي مدن القصيم للخدمات الطبية؛ مما أعطانا الفرصة التي انتظرناها طويلاً، وهي ركوب الطائرة لأول مرة في حياة كل منا، وذلك منذ أكثر من نصف قرن، وهي بالمناسبة من نوع الداكوتا التي كانت من حيث تواضع الخدمة ومستوى الإمكانات الفنية والراحة التي توفرها لركابها أسوأ بكثير مما لو تم استخدام أي وسيلة أخرى للوصول إلى مدينة الرياض والعودة منها إلى مدينة الرس.
* * *
وكانت منطقة القصيم تضم خمس مدارس عسكرية، في كل من: بريدة وعنيزة والرس والبكيرية والخبراء، بما لا يوجد مثل هذا العدد في أي منطقة من مناطق المملكة، ومن المصادفات أن يأتي افتتاح مدرسة الخبراء على حساب أكبر مدن القصيم، وهي مدينة بريدة، حيث قوبل قرار افتتاح مدرسة عسكرية في بريدة بالرفض من قبل الأهالي لتخوفهم من سلبيات افتتاحها في مدينتهم، فسارع الشيخ صالح الميمان -رحمه الله- نيابة عن أهالي الخبراء بطلب افتتاحها بالخبراء بدلاً من بريدة، وهو ما تحقق، حيث عض الأهالي في أكبر مدن القصيم أصابع الندم بعد ذلك، لكن ليس بعد فوات الأوان؛ إذ إن أهالي بريدة تراجعوا عن موقفهم فيما بعد، وطالبوا المسؤولين بافتتاح مدرسة عسكرية أسوة بمدن القصيم الأربع الأخرى، فتم لهم تحقيق ما أرادوا، على أن ما هو جدير بالتنويه والتذكير هو صدور قرار بضم مدرسة البكيرية العسكرية إلى مدرسة الخبراء العسكرية بعد مرور سنتين تقريبا على افتتاحها.
ولابد من التذكير عن التعاون الممتاز بين هذه المنظومة من المدارس العسكرية بمنطقة القصيم، في مختلف المجالات، إذ لا أزال أتذكر ذلك اللقاء الذي ضم جميع طلاب هذه المدارس في مدينة البدائع؛ لتمكين الجميع من التعارف فيما بينهم من خلال تنظيم المنافسات الرياضية والثقافية، فقد أمضينا أسبوعاً كاملاً في مخيمات بمدينة البدائع ومارسنا هناك مختلف النشاطات والفعاليات، بما كان يمثل - بنظري - عنصر جذب للاهتمام بهذه المدارس من قبل الأهالي، فضلاً عن أن ذلك الأسبوع يعد نقلة نوعية مبكرة لم نعد نرى مثله الآن، وقد لا يتكرر بمثل ذلك التنظيم مستقبلا لو فكر أحد بإقامة ما يماثله.
* * *
ولكن لم يطل العمر بمدرستنا طويلاً، إذ يبدو أن الغرض من افتتاحها -كما هي بقية المدارس العسكرية الأخرى- قد استنفد بإنهاء طلابها المرحلة الابتدائية من دراستهم، حيث تم إقفالها وانتقال خريجها إما إلى كلية الملك عبد العزيز الحربية أو إلى المدارس الثانوية، ومن الواضح لي أن الغرض من افتتاحها كان تغطية حاجة كلية الملك عبد العزيز الحربية من الطلاب المدربين والمؤهلين قبل التحاقهم بالكلية؛ بمعنى أن هذه المدارس كانت بمثابة مصدر لتزويد الكلية بحاجتها من الطلاب الذين تعدهم ليكونوا ضباطاً في أفرع القوات المسلحة، وقد انتفت هذه الحاجة بعد أربع سنوات فقط من افتتاحها.
وبهذا أكون قد قضيت سبع سنوات ضمن الطلاب العسكريين؛ أربعاً منها في مدرسة الرس العسكرية - وهذه الذكريات التي أتحدث عنها تتركز على أحداثها - حيث أنهيت المرحلة الابتدائية فيها، وثلاث سنوات بين مدرسة بريدة العسكرية التي تأخر إقفالها سنة واحدة - على ما أتذكر - بعد إقفال مدرسة الرس وبقية المدارس العسكرية في منطقة القصيم، ومدرسة الرياض العسكرية، حيث أنهيت المرحلة المتوسطة من دراستي فيها.
* * *
أريد أن أقول لكم إنه منذ مغادرتي مدينة الرس إلى مدينة الرياض لم أعد متحمساً لمواصلة مشواري في السلك العسكري؛ بسبب ما رأيت وبدا لي أن مشوار التخرج قد أخذ يطول زمنه ويتمدد سنة بعد أخرى، فقد كان الزمن المحدد عند دخولي إلى المدرسة العسكرية لا يزيد بعد المرحلة الابتدائية على ثلاث سنوات، ليصبح الطالب ضابطا برتبة ملازم ثان، وكانت بالمناسبة أسماء الرُّتب العسكرية للضباط آنذاك تبدأ بالتدرُّج من ملازم ثانٍ إلى ملازم أول، ثم رئيس، فوكيل قائد، وبعد ذلك قائد، فعقيد، ثم زعيم، فلواء، وأخيراً فريق. ثم استبدل بالأسماء القديمة ما هو معروف من أسماء جديدة، وهي: ملازم، وملازم أول، ونقيب، ورائد، ومقدم، وعقيد، وعميد، ولواء، وفريق، وفريق أول، تدرج التطوير لحصولنا على رتبة ملازم ثان إلى ست سنوات ثم بعد ذلك إلى تسع سنوات؛ ما أدخل الشعور باليأس والإحباط لديّ؛ حيث اتجهت بعد ذلك نحو خيار التعليم المدني، بعد إتمام المرحلة المتوسطة من تعليمي في المدرسة العسكرية، بينما بقي ست سنوات على تخرجي من كلية الملك عبدالعزيز الحربية لو واصلت دراستي فيها، أي أن عليّ أن أمضي ثلاثة عشر عاماً قبل تخرجي من الكلية، وكنت كما أشرت من قبل قد بدأت الدراسة في المدرسة العسكرية عند المستوى الثالث من المرحلة الابتدائية وتركتها بحصولي على شهادة الكفاءة المتوسطة، ما يعني أنني أحتاج إلى ثلاث سنوات للمرحلة الثانوية وثلاث سنوات أخرى للكلية الحربية.
* * *
ومع أنه كان هناك ملل أصاب بعض الطلاب -وإن كانوا قلة- منذ السنة الأولى على التحاقهم بالمدرسة العسكرية، فقد كان التخلص من هذا الملل بكسر القيد أي ترك المدرسة العسكرية أمراً بالغ الصعوبة والخطورة في آن؛ إذ إن على من يترك المدرسة الالتزام بأن يدفع ولي أمره كامل ما ترتب عليه من مصاريف منذ قبوله فيها، بل إن من يهرب منها كان يلاحق من منطقة إلى منطقة ومن قرية إلى قرية، ويتم التعميم عنه، حتى يتم إحضاره مخفوراً، وإذا فشلت الجهود فإن الخيار الثاني هو مطالبة ولي أمره بإحضاره أو إلزامه بدفع ما صرف عليه من نفقات.
على أن فئات الطلاب كانت تتفاوت من حيث سني العمر والمرحلة الدراسية، ومن الطبيعي ضمن هذا التباين أن يتم توزيع الطلاب بحسب مستويات أعمارهم على مهاجد النوم التي كان يطلق عليها بالمصطلحات العسكرية لواء وسرية وفصيل وحظيرة، ولكل منها عريفها الذي يختار من بين أكبر الطلاب سناً وأكثرهم التزاماً وأقدرهم على ضبط النظام، وكان نصيبي - كما أتذكر - أن أكون في الحظيرة التي كان عريفها معالي الفريق أول علي المحمد الخليفة، علماً بأن المدرسة كانت تضم فصيلين وعدداً من الحظائر.
* * *
كان بعضنا صغاراً بحق، غير قادرين -زملائي وأنا- حتى على حمل العتاد أو ما يسمى (العهدة)، غير أن هذا لم يحل دون الاعتماد على أنفسنا في مهمات كثيرة، وأكثر ما لفت نظري آنذاك اختيار طالب في كل يوم ليكون مراقباً للإعاشة نيابة عن زملائه، يحضر الوزن ويفحص المواد الغذائية، ويتأكد من سلامة ما يقدمه المتعهد المسؤول عن تأمين الإعاشة لزملائه، ويواصل رقابته على المطبخ وعلى تقديم الوجبات الثلاث، ما يتطلب تفريغه وإعفاءه من الدراسة ومن طابور الصباح والتمارين العسكرية الأخرى وغيرها.
وكانت الوجبات الغذائية الثلاث التي تقدم للطلاب غنية بكل ما يحتاج إليه الجسم، وأكثر أنواعها لم نكن على علم أو معرفة به من قبل، إذ إن وجباتنا قبل الانضمام للمدرسة كانت محدودة الأنواع، وقد اعتادت عليها المعدة، وبالتالي فلم يعد لغيرها نفس المذاق والشهية، غير أنه مع مرور الأيام وبالتدرج أصبحت الشهية مفتوحة لتناول كل ما كان يقدم لنا في الفطور والغداء والعشاء.
وهناك شيء مهم، وهو أن ما كنا نتساهل به بالنسبة لتنظيف أجسامنا وأسناننا وملابسنا من قبل، أصبح الالتزام به ضمن أجواء الحياة في المدرسة العسكرية، حيث هناك جولات تفتيشية في كل أسبوع على الأسرة للتأكد من نظافتها وحسن ترتيبها، ومن توافر كل أدوات استخدام النظافة من صابون وفرش أسنان ومعجون أسنان وشامبو وغيرها في خزائن كل طالب، فضلاً عن استخدام قائد الطابور الأسبوعي قطعة من القماش أو القطن المبلل لفرك جسم كل طالب حتى يتبين له إن كان نظيفاً أم أنه دون ذلك.
لكن أكثر ما كان يزعجني في الحياة العسكرية أنذاك، تكرار مرؤوسينا من الضباط لمقولة: الخير يخصّ والشر يعمّ؛ فهي مقولة يبنى عليها ظلم من لم يكن قد ارتكب خطأ يستوجب العقاب؛ ليساوى بزميله الذي ارتكب هذا الخطأ، مع أنه يمكن لي أن أتفهم هذه المقولة في حالة واحدة وهي عند لجوء الطلاب غير المذنبين إلى التعتيم على اسم المذنب مع معرفتهم إياه، وإخفاء المعلومة عن المسؤولين، وكثيراً ما فعلوا ذلك، وهي ظاهرة لا يمكن إنكارها أو التعامي عنها.
* * *
هذا ما سمح به الوقت للبوح به من ذكريات كثيرة، وقد طوى غيرها النسيان، وبقي بعضها الآخر ضمن الخصوصيات، وعلي أن أؤكد في نهاية ما استمعتم إليه أن افتتاح تلك المدارس العسكرية في ذلك الزمن البعيد، يمثل جزءاً من تاريخ القوات المسلحة الذي ينبغي أن يسجل وأن يوثق، بالاعتماد على الشهود الأحياء الذين عاشوا وعايشوا تلك المرحلة من تاريخنا، قبل أن يرحلوا فتختفي معهم مسيرة التاريخ الذي لم يكتب بعد.