السعيد هو من يغتنم فرصة هذا الشهر الكريم - شهر رمضان المبارك - في فعل الخيرات والتقرب إلى الخالق سبحانه بالطاعات، وكلما أخذت أيام رمضان تنقضي فإن الحكيم والأكثر سعادة هو من يشتد عزمه وتقوى عزيمته على.....
|
..... المسارعة لأبواب الخير ليسابق في دروبها ويزداد من عطاء الله لأصحابها.
|
وكم هي متعددة تلك الدروب، وكم هي متنوعة فرص التسابق فيها والمسارعة إليها، وما أشد حاجة المجتمعات المسلمة لطرق أبوابها والسير فيها للخلاص من كثير من مشكلاتها سعياً لتحسين واقعها متى رغبت في التحسين وحرصت عليه.
|
فرمضان فرصة عظيمة لمن أراد أن ينتقل إلى حال أحسن أو مناخ اجتماعي أفضل، كما أنه فرصة لمن رغب في العودة إلى طريق الصواب ليبدأ حياة جديدة سعيدة يتوافق فيها مع نفسه ويتعايش فيها بسلام مع غيره من بني البشر، ولن يتم ذلك له إلا بالتخلص مما علق به من أمراض نفسية واجتماعية.
|
ولعل أعقد تلك الأمراض وأسوأها ذلك الحسد الذي يفسد القلوب وينشر الضغائن ويولد الأحقاد بين الناس، فما كان الحسد في قلب إلا وأفسد وحرك بقية الجوارح نحو الشر والآثام، فهو مدخل من مداخل الشيطان إلى النفس، وبه يمتلك الشيطان فكر الإنسان ويحرك سلوكه إلى جحور الشر المظلمة التي توقع في التهلكة، ولذا فالحسد هو مرتع وخيم لبقية الشرور، وبيئة مذمومة تتولد فيها بقية الآثام، فالحاسد يقف في موقف المعترض على ما قدّر الخالق سبحانه وما خصّ به بعض خلقه من نعم، ومن هنا فالحاسد لا يعترض بالدرجة الأولى على المحسود، بل هو يتمنى زوال النعمة منه وكأنه في جانب يعترض فيه على المنعم جل وعلا؛ مما يجعله يدخل في دائرة من قال فيهم الحق تبارك وتعالى: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ) (النساء: 54). كما يدخل في دائرة الشرور التي يجب أن نتعوذ بالله منها كما جاء في قوله تعالى: (وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) (الفلق: 5).
|
فالحاسد صانع لشرّ مستطير يعود إليه حيث يوقد ناره ويشعلها في نفسه دون أن يدري، فتأخذ حسناته في التآكل دون أن يدري أو ينتبه، فما يهمه هو زوال النعم عمن يحسده، فيسعى ضده بالبغضاء والشحناء والعداوة ناسياً أو متناسياً ذلك التوجيه النبوي الشريف حين قال ناصحاً أمته: (الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب)، رواه أبو داود وابن ماجه. وينسى الحاسد أن الحسد قد فتح عليه من أبواب الشر ما لا يطيق، ويكفيه شراً ما حذّرنا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (لا يجتمع في جوف عبد الإيمان والحسد)، رواه البيهقي وابن حبان.
|
وهل هناك شرّ يعدل ذلك حين يكون الجوف خالياً من الإيمان حينما يطرده الحسد من قلب الحاسد، ولذلك فقد نهانا صلى الله عليه وسلم عن الحسد والتحاسد وحذّرنا منه حتى نعيش في صفاء مع أنفسنا وفي أخوة وسلم مع غيرنا حين قال: (لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخواناً)، متفق عليه.
|
ولا يقف شر الحاسد عند نفسه وما يجرّه عليها من آثام وشرور، بل إن آثاره السيئة تمتد إلى المجتمع؛ حيث يسعى الحاسد إلى الإضرار بالمحسود حين يمتلئ قلبه عليه بالأحقاد والأمنيات الدنيئة بتمني زوال النعم منه، فتجده يكيد له في عمله ويسعى لإيذائه بالنميمة تارة وبالوشاية تارة أخرى علّه يبلغ منه ما يريد، وكأنه قد جعل هذا المقصود قضيته الأساسية في حياته، ولن يستقر له حال أو يهنأ له بال إلا إذا وجد صاحبه المحسود وقد فقد تلك النعم، وقد يكون هذا المحسود أخاً له كما فعل إخوة يوسف عليه السلام، أو كما فعل أحد ابنَيْ آدم أبي البشر عليه السلام حين قتل أحدهما الآخر، فكان الحسد محركاً وباعثاً على جريمة القتل؛ لما أورثه الحسد من بغضاء، وما أوقعه في القلوب من ضغينة، وما تولّد من سلوك مشين.
|
ولما كان الحسد داءً خطيراً فإن التخلُّص منه يصبح واجباً على مجتمعاتنا حتى لا تتقطع الأوصال بسببه أو تسود الشحناء والعداوات عن طريقه.
|
ولعل فرصة هذا الشهر الكريم تنادي كل مَن في قلبه هذا المرض اللعين والداء الخطير بأن يقلع عنه فيراجع نفسه ويحاسبها، ويحدد بينه وبين نفسه مسببات هذا الداء ويشخص حالته المرضية ويضع العلاج مستخلصاً له حين يحاول أن يجيب سؤالاً واحداً يدور على ألسنة العامة ويقول: (ماذا يفعل الحاسد أمام الرازق؟)، ثم يعود الحاسد إلى نفسه مرة أخرى ليتساءل: ماذا جنى من حسده هل غيّر من الواقع شيئاً؟ وإذا كان قد تصوّر أنه قد أوقع بصاحبه أو تسبّب في إيذائه فليحاول أن يتفهم ما يشير إليه قول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: (دبَّ إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، وهي الحالقة، أما إني لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين. والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على ما تتحابون به؟ أفشو السلام)، أخرجه الترمذي عن الزبير بن العوام.
|
إن مثل هذا التوجيه النبوي الكريم كفيل بأن يرجع الحاسد إلى صوابه ويعيده إلى رشده متى تأمل معانيه السامية في هذا الشهر الفضيل. أما ذلك المحسود المظلوم فليتعوذ بالله سبحانه وليصبر وليعامل الحاسد بالحسنى متذكراً قول الشاعر:
|
وجاريت كل الناس لكن حاسدي |
مُداراته عزّت وعزّ منالها |
وكيف يداري المرء حاسد نعمة |
إذا كان لا يرضيه إلا زوالها |
حمانا الله وإياكم من شر هذا الداء.
|
|
وكيل الوزارة بوزارة الثقافة والإعلام (سابقاً) |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|