|
لم تكد بعض القنوات الفضائية تعرض الحلقات الأولى من مسلسل (نمر بن عدوان) حتى وقع الخلاف حول القصيدة المحورية لهذا العمل التاريخي الذي عرض لأول مرة في رمضان المنصرم، الصحف والمجلات الثقافية ومواقع الشبكة الإلكترونية المعنية بالموضوع كانت مسرحاً للكثير من سجالاته، وسبب الخلاف أن القصيدة المتنازع عليها ومطلعها:
|
البارحة يوم الخلايق نياما
|
بيحت من كثر البكا كل مكنون
|
باتت منسوبة إلى شاعرين معاً؟! إلى نمر بن عدوان بحسب المسلسل وغيره، وإلى محمد بن مسلم الأحسائي بحسب آخرين، (الوراق) لم تغب عن تجاذبات هذه القضية ورصدت بعض تقاطعاتها عن كثب، ولتضع النقط على الحروف فقد حاورت الأستاذ عبد الله بن أحمد آل ملحم المهتم بالبحث التاريخي، الذي سبق له في وقت مبكر البرهنة على نسبة هذه القصيدة إلى محمد بن مسلم في مقالة نشرت قبل اثنتي عشرة سنة تقريباً.
|
في البدء سألناه عن الضجة المثارة بعيد خروج القصيدة في عمل تلفزيوني وهو ما لم تحدثه مقالته إبان نشرها قبل أكثر من عقد مضى؟ فقال: أولاً دعني أبين أن التنازع على بعض القصائد الشعرية قديم قدم الشعر نفسه، وكم من القصائد ادعاها غير شعرائها، وهناك قصيدة ادعاها ستون شاعراً، ليس هذا فحسب، بل إن التنازع يتعدى الشعر إلى الشعراء أنفسهم، وقديما تنازع النقاد انتماء المتنبي ما بين مصر والشام، كما تنازعوا انتماء ابن المقرب العيوني لمذهب دون آخر، وفي عصرنا الحاضر يصر بعض نقاد البحرين على جعل الدكتور غازي القصيبي شاعراً بحرينياً لنشأته فيها، كما تنازعوا الشاعر عبد الرحمن المعاودة ما بين قطر والبحرين، والسيد عبد الجليل الطباطبائي ما بين البصرة والكويت وقطر، ومبارك العقيلي ما بين الأحساء ودبي... وغيرهم كثير، وإذا كانت ثقافة البادية توطئ للفضيلة بمثلها القائل: (يا ليت كل طيب من عربنا) فلم لا تجيء هذه القصيدة من باب: يا ليت كل قصيدة رائعة من شعرنا؟!
|
أما سبب الضجة المزامنة للمسلسل وهو ما لم يحدث مع المقالة، فلأن مقالتي نُشرت في جريدة أما المسلسل والقصيدة المنحولة فعرضا في عدد من القنوات الفضائية، وبالطبع فقوة تأثير المادة التلفزيونية آكد وقعاً وأسرع وصولاً للمشاهد من المادة الصحافية، لا سيما أننا نعيش الآن ثقافة الصورة المهيمنة على الجماهير أكثر من أي ثقافة أخرى.
|
كما سألناه عما استدل به في نسبة القصيدة لابن مسلم؟ فأكد الملحم أنه بنى استدلاله على استقراء موضوعي لشعر الشاعرين، وما تضمنته القصيدة (القضية) من دلالات تؤكد نزوعها لأحد الشاعرين دون الآخر وهو ابن مسلم بالطبع!
|
وحين سألناه عن سبب هذا اللبس ودوافع نسبة هذه القصيدة لغير شاعرها؟ قال: كلا الشاعرين فجع بموت زوجه الأثيرة إلى قلبه، وكلاهما رثى زوجه بقصيدة أو أكثر، وقد كان للرواية الشفهية دور في نسج أسطورة حولها، إلا أن البحث التاريخي يدحض حبكتها التراجيدية ولا يثبتها.
|
وعمن نسبها لكل من الشاعرين قال: من الذين نسبوها إلى نمر بن عدوان صاحب كتاب (الدرر اليتيمة) لمؤلف مجهول، وصاحب كتاب (الأزهار النادية) لجامعه محمد سعيد كمال، ومن جاء بعدهما ينقل عنهما في الغالب، وعندما استشهد الأستاذ عبد الله بن خميس بأبيات من هذه القصيدة في (الأدب الشعبي في جزيرة العرب) ذكر أنها تنسب لمحمد بن مسلم ولم يجزم بنسبتها إلى نمر بن عدوان، أما الذين نسبوها لمحمد بن مسلم فهم كثر منهم عبد الله الحاتم في: (خيار ما يلتقط من شعر النبط) وهو من أوائل من أصدروا مجاميع هذا الشعر، وعبد العزيز الدويش في: (مختارات من أعلام النبط)، وغيرهما ينقل عنهما أيضاً، وأنا سمعتها من الراوية الأحسائي فهد أبو ناصر منسوبة لابن مسلم، ومما يؤكد هذا أن الأستاذ روكس العزيزي مواطن نمر ألّف كتاباً عن حياته وشعره، وقد التزم فيه الدقة والتوثيق، وروى شعره عن أحفاده ورواة قبيلته فلم ينسب هذه القصيدة إليه، والعزيزي باحث كبير وهو في الأردن كالجاسر عندنا، ومع هذا فما ذكرته لا يقطع بنسبة القصيدة لابن مسلم بقدر ما يترك القارئ متذبذباً ما بين رأيين لا مرجح لهما!! والفيصل في ذلك هو ما وجدته كامناً في بعض أبيات القصيدة التي كانت معانيها تنطق باسم شاعرها، وأوجز قراءتي في الآتي:
|
أولاً: لو نظرنا إلى القصيدة الرائية المتفق على نسبتها إلى نمر، وهي التي قالها في رثاء زوجه، ومن ثم إلى النونية المتنازع عليها وهي التي لا أشك في نسبتها إلى ابن مسلم، فسنجد فروقاً بينها من حيث: الشكل والمضمون، وفي الصياغة والتعبير، وفي تلقي المصيبة والتعاطي معها، ومن حيث التسخط والجزع لدى نمر، والصبر والاحتساب عند ابن مسلم... فنمر يقف في رائيته معترضاً على موت زوجه فيقول بنفس ثائرة أكسبتها الصحراء غلظة وتذمراً:
|
يا ليتني و ياه نتنى المشارا |
فوق السبايا واشهب الملح زجار |
لكن ملك الموت جاله اعثارا |
فرق وشتت واودع القلب محتار |
أما محمد بن مسلم فينشد أبياتاً رقيقة سهلة، تعبر عن نفس هادئة، روضتها الحضارة وألبستها من حلل الإيمان ثوب الرضا بقضاء الله وقدره، يقول:
|
جاه القضا من بعد شهر الصياما |
صافي الجبين بثاني العيد مدفون |
راحوا بها حزة حروت اليماما |
وعند الدفن قاموا لها الله يدعون |
برضاه والجنه وحسن الختاما |
ودموع عيني فوق خدي يهلون |
ثانيا: إذا ما عدنا إلى رائية نمر ألفيناه يبث حزنه فيها إلى ولده (عقاب) الشاب الذي يعي ما يخاطب به، ويدرك مصاب والده، بل ويسليه بذكر امرأة من قومه يصف له حسنها لعله يجد فيها السلو عن زوجه فيقول:
|
يا يبه يا نمر أنا شفت زوله |
ريمية في بيت عواد تمشي |
يخلف رزين القلب رزت حجوله |
والرمش الاسود للرمامين رمشي |
أما محمد بن مسلم فلا يجد أمامه إلا صبيته يبكون أمهم جزعاً لموتها، وأسى لفراقها، فيقول:
|
واكبر همومي من بزور يتامى |
وان شفتهم قدام وجهي يبكون |
ثالثاً: إذا ما عدنا إلى نمر في رائيته ألفيناه يصوغ تشبيهاته من وحي بيئته الصحراوية الغليضة الخشنة، فيصور ما أصابه كوقيد نار تضطرم في أحشائه، وكأن وحوشاً كاسرة تنهش من لحمه، وكأن نجاراً ينحت جسده نحتاً ويقد عظامه قداً، في سادية مؤلمة لا نراها لدى ابن مسلم، يقول نمر:
|
من ضامري كنه وقيدات نارا |
يا نيرة النمرود تشبه لها نار |
لكن ينهش بي غليث السعارا |
والحال مني تقل يبراه نجار |
أما محمد بن مسلم فلشعره رواء تفيض به قريحته كما تفيض بمثله عيون واحته الأحساء، حين يشبه أنينه لفراق زوجه بأنين أنثى الحمام الراعبي، التي تعيش في ريف الأحساء لا في قفار البلقاء حيث لا ريف هناك، وتئن تحت جريد نخله في الأحساء أيضاً لا في البلقاء حيث لا نخل هناك، وهنا يقول ابن مسلم:
|
والا فونة راعبي الحماما |
غاد ذكرها والقوانيص يرمون |
تسمع لها بين الجرايد حطاما |
ومن نوحها تدعي المواليف يبكون |
رابعاً: لا يترك نمر الأخذ بألفاظه الغليظة الجافية، كما في قوله مثرباً على من يعاتبه في أحزانه المتواصلة:
|
من لامني به ثور أو هو حمارا |
والثور أخير إن قيل دير يندار |
ومثل هذا التعبير الفض لا يصلح في قصيدة رثاء، لأن الرثاء نوع من أنواع المدح، وتلك المفردات الصادمة لا تليق بغير الهجاء، فهل تراه كان يهجو أحداً ما؟
|
خامساً: ومما يؤكد نسبة القصيدة إلى ابن مسلم أيضاً قوله:
|
والله لولا هالبزور اليتامى |
وأخاف عليهم من السكة يضيعون |
والسكة بلهجة أهل الأحساء زقاق الحي المفضي إلى دوره ومنازله، فكيف يتأتى ذلك لنمر بن عدوان وهو ابن البلقاء القاطن قفارها حيث لا زقاق هناك، وهل من المعقول أن يتحفظ نمر وهو ابن الصحراء على خروج ولده وهو يحضهم على الرعي والقنص والغزو؟!
|
سادساً: في نهاية قصيدته الرائية نجد نمر يختتمها بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كعادة شعراء عصره، إلا أنه لا يتخلى عن ألفاظه الجافية التي طبعتها الصحراء بشظفها وخشونتها على شاعريته فيقول:
|
صلاة ربي عد وحش القفارا |
والا عدد نبت يروى بالاقفار |
على النبي المبعوث سر وجهارا |
سيد البشر اللي قهر كل جبار |
فانظر إلى قوله: (وحش القفارا - قهر كل جبار) وهما تعبيران غليظان لا يحسن الإتيان بهما في قصيدة رثاء والنفس متطلعة لاستهلال العبرات واستنزال الرحمات.
|
أما محمد بن مسلم فيختتم قصيدته بألفاظ رقيقة عذبة، قاطعاً على نفسه وعداً بالدعاء لزوجه في كل يوم فيقول:
|
عليه مني كل يوم سلاما |
عدة حجيج البيت واللي يطوفون |
وصلوا على سيد جميع الأناما |
على النبي ياللي حضرتوا تصلون |
سابعاً: لو أعدنا هذه القصيدة إلى أصلها في منظومة ابن مسلم الشعرية فسنراها تسد ثغرة تركتها، بل سنراها تأتلف مع سائر قصائده باتساق واتفاق لا تنافر معه، لأن شعر ابن مسلم جله من هذه الديباجة الناعمة، ولن تكون كذلك مع قصائد نمر، شاعر المدر ليس كشاعر الوبر ولكل منهما أسلوبه، وهذه القصيدة بصمتها الفنية حضرية بامتياز، ومعطياتها الموضوعية حضرية بامتياز، ولغتها الشعرية أيضاً حضرية بامتياز، فكيف تنسب لفارس من أهل الصحراء؟
|
|