قرأت في (الجزيرة) عدد يوم الخميس 25-10- 2007م وفي صفحة سماء النجوم موضوعاً بعنوان (مسافر زاده الخيال) للشاعر المصري المعروف محمود حسن إسماعيل، وهذه مداخلة في هذا الموضوع وحوله:
الشاعر محمود حسن إسماعيل شاعر جاد، شعره جزل رصين وألفاظه قوية رقيقة عذبة، لمع في حقبة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي وعمل مراقباً للنصوص في الإذاعة المصرية، ولم يدخل في حومة الصراخ والضجيج في تلك الفترة بل التزم بالشعر العربي بكل ما يعنيه الشعر العربي من مقومات الوزن والقافية والجدّية حتى أنه رفض نصاً للشاعر المرحوم عزيز أباظة باشا وغنته كوكب الشرق الراحلة أم كلثوم ومطلعه:
على باب مصر تدق الأكفُّ
ويعلو ويعلو ويعلو الضجيجْ
(من البحر المتقارب)
ومع قصيدته التي نحن بصددها وهي بعنوان (النهر الخالد) ويقصد نهر النيل (ومسافر زاده الخيال) أول شطر في القصيدة.
الذي يسمع تَغنِّي المصريين بالنيل يظن أنه - النيل - ينبع ويصب في مصر: غنت له أم كلثوم في أغنية ليلة العيد:
يا نيلْنا ميتك عنبرْ
وزرعك ع الغيطان نوَّرْ
يعيش هارون يعيش جعفرْ
وهنّي القلب ليلة العيد
(من بحر الهزج)
والأغنية كانت في فيلم دنانير يحكي عن الخليفة هارون الرشيد ووزيره جعفر البرمكي.
وغنت له أم كلثوم أيضاً - للنيل - أغنية (شمس الأصيل)، ومنها:
شمسِ الأصيلْ دهّبِتْ فُوقِ النخيلْ يا نيلْ
تحفهْ ومتصوّره في صفحتك يا جميلْ
والناي على الشط غنى والقدودْ بتميلْ
على هُبوب الهوا لما يمرِّ عليلْ
يا نيلْ
(من البحر البسيط)
وهي من شعر أحمد رامي وتلحين رياض السنباطي وغنت أيضاً أم كلثوم للنيل أيضاً: (من أي عهدٍ في القرى تتدفقُ) من شعر أمير الشعراء أحمد شوقي رحمه الله (ومن البحر الكامل).
وغنى محمد عبد الوهاب مطرب الأجيال الراحل كما كان يسمى من زجل شوقي أيضاً:
النيل نجاشي
حليوه أسمرْ
عجب للونُهْ
دهب ومرمرْ
أرغوله بيْدهْ
يسبح لسيده
حياة بلادْنا
يا رب زيده
(من منهوك الرجز)
قلت هكذا غنى المصريون للنيل ولا أعرف شعراً سودانياً ولا غيره في النيل. وهذا قليل من كثير عن حبهم للنيل ولا عجب فمصر هبة النيل كما قال هيرودوتس المؤرخ وكنا ندرس الطلاب في النحو (لولا النيل لكانت مصر صحراء).
وعودة إلى قصيدة النهر الخالد وقد غناها أيضاً الراحل محمد عبد الوهاب بلحن لا يقل عذوبة - بل يزيد - عن كلماتها.
ولا ضير أن أقول إن للمطربين فضلاً في تعريف الناس (العامة) بالشعراء.
فمن أم كلثوم عرفنا أحمد رامي وحتى أحمد شوقي ونزار قباني وكذلك عرّف بنزار عبد الحليم ونجاة الصغيرة مما جعل جمهور العامة يطربون ويصفقون للشعر الفصيح. ومن يعرف شاعراً اسمه أحمد فتحي لولا أن غنت له أم كلثوم.. (قصة الأمس) التي مطلعها:
ذكريات عبرت أفق خيالي
بارقاً يلمع في جنح الليالي
نبهت قلبي من غفوته
وجلت لي ستر أيامي الخوالي
كيف أنساها وقلبي
لم يزل يسكن جنبي
إنها قصة حبي
(من بحر الرمل)
وغنى له - أحمد فتحي- عبد الوهاب قصيدة (الكرنك) ومطلعها:
حُلُمٌ لاح لعين الساهرِ
وتهادى في خيالٍ عابرِ
وهفا بين سكون الخاطرِ
يصل الماضي بيمن الحاضرِ
وكذلك عرّف عبد الوهاب الناس بالمهندس علي محمود طه بأغنية (كيلوباترا)، ومطلعها:
كيلوباترا أي حُلْمٍ
من لياليك الحسانِ
طاف بالموج فغنى
وتغنّى الشاطئانِ
وهفا كل فؤادي
وشدا كل لساني:
هذه فاتنة الدن
يا وحسناء الزمان
(من بحر مجزوء الرمل)
وأغنية الجندول:
أين من عينيَّ هاتيك المجالي
يا عروس البحر يا حلم الخيال
أين عشاقك سمّار الليالي
أين من واديك يا مهد الجمال
(من بحر الرمل)
وحتى ننتهي من هذا الاستطراد الذي لو تركت حبله على الغارب ما خلصت إلى غدٍ.. قلت حتى ننتهي فمن يعرف - من العامة - طبيب العيون الشاعر إبراهيم ناجي لولا غناء أم كلثوم لقصيدته الأطلال ومطلعها:
يا فؤادي لا تسل أين الهوى
كان صرحاً من خيال فهوى
(من بحر الرمل)
بالمناسبة قالوا إنه كان يكتب الشعر حينما يأتيه على الوصفات الطبية (الروشتات).
** ومن يعرف الشاعر السوداني الهادي آدم لو لم تغن له أم كلثوم:
(أغداً ألقاك يا خو
ف فؤادي من غد)
من بحر مجزوء الرمل.
قال محمود حسن إسماعيل في قصيدة (النهر الخالد) وهي من (بحر مخلع البسيط: مستفعلن فاعلن فعولُ: أو متفعل) في كل شطر لكنها متنوعة القوافي:
1- مسافرٌ زاده الخيالُ
والسحر والعطر والظلالُ
(ونعم الزاد لا يسمن ولا يغني من جوع).
2 - ظمآن والكأس في يديه
والحبُّ والفن والجمالُ
(كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ
والماء فوق ظهورها محمولُ)
(من البحر الكامل)
3 - شابت على أرضه الليالي
وضيعتْ عمرها الجبالُ
(وشابت الليالي معنى لطيف)
4 - ولم يزل يسكن الديارا
ويسكب النور للحيارى
5 - والناس من حوله سهارى
هاموا على شطه الرحيب
6 - آهٍ على سرك الرهيب
وموجك التائه الغريب
يا نيل يا ساحر الغيوب
(مغيب الشمس)
(والموج التائه الغريب.. حسن).
7 - يا واهب الخلد للزمان
يا ساحر العطر والأغاني
(ولا خلود لشيء؛ فالملك لله الواحد القهار).
8 - هات اسقني واسقني ودعني
أهيم كالطير في الجنانِ
(يسقيه من مائه - ماء النيل).
9 - يا ليتني موجة فأحكي
إلى لياليك أشجاني
* * *
10 - وأغتدي للرياح جارا
وأسكب النور للحيارى
(يغتدي: هو يريد معنى يصير وإلا فقد قال امرؤ القيس:
وقد أغتدي والطير في وكناتها
بمنجرد قيد الأوابد هيكلِ
مكرٍ مفرٍ مقبل مدبرٍ معاً
كجلمود صخر حطه السيل من علِ
(يغتدي: يذهب في الغدو وهو الصباح الباكر).
11 - فإن رماني الهوى وطارا
كانت رياح الدجى طبيبي
* * *
12 - سمعت في شطك الجميلِ
ما قالت الريح للنخيل:
يسبح الطيرُ أم يغني
ويشرح الحبّ للخميلِ
وأغصن تلك أم صبايا
شربن من حُمرة الأصيلِ
(والخميل: الأيكة والغابة والأصيل بين العصر والمغرب).
وكانت قصيدة النهر الخالد في وصف الطبيعة رومانسية رقيقة حالمة.
ونعرض بعدها لقصيدة وطنية تغنى فيها محمود حسن إسماعيل بأمجاد العرب والمسلمين (الشرق) وهي بعنوان (سماء الشرق) من البحر الرمل ومتنوعة القوافي وغناها عبد الوهاب أيضاً:
1 - يا سماء الشرق طوفي بالضياءِ
وانشري شمسكِ في كل سماءِ
(كما كنتِ قديماً)
2 - ذكّريه واذكري أيامه
بهدى الحق ونور الأنبياءِ
* * *
3 - كانت الدنيا ظلاماً حولهُ
وهو يهدي بخطاه الحائرينا
4 - أرضه لم تعرف القيد ولا
خفضت إلا لباريها الجبينا
5 - كيف يمشي في ثراها غَاصبٌ
يملأ الأفق جراحاً وأنينا
6 - كيف من جناتها يجني المنى
ونُرى في ظلها كالغرباءِ
(والحمد لله تحررت الدول العربية والإسلامية، وعقبال فلسطين - يا رب -).
* * *
7 - نحن شعب عربيٌ واحدٌ
ضمه في حومة البعثِ طريقُ
(البعث بمعنى النهضة).
8 - الهدى والحق من أعلامهِ
ونداء الروح والعهد الوثيق
9 - أذن الفجر على أيامنا
وسرى فوق روابينا الشروق
10 - كل شيء حوله من دمنا
قطرة تدعو قبور الشهداءِ
(رحمهم الله).
نزار رفيق بشير- الرياض
