أقرأ كثيراً في صفحة الجزيرة عن أن المعلم عندما يصل إلى سن التقاعد من عمره وتبدأ أوراقه الخريفية تتساقط واحدة بعد الأخرى تكون لديه قناعات وذكريات وثوابت مختزلة يصعب عليه نسيانها وأنا أحد هؤلاء المتقاعدين بعد خدمة في مجال التعليم امتدت أكثر من أربعين عاماً حاولت تقديم هذه الذكريات العزيزة التي مرت معي ومع طلابي عساها أن توقظ ذاكرةً غلفها النسيان.
|
كنت أدرس في المدرسة الخالدية بالمرقب بمدينة الرياض.. وكنت أحب طلبة الأمس الذين أحبوني وأحببتهم.. قال الشاعر:
|
الحب في الأرض بعد من تخيلنا |
لو لم نجده عليها لاخترعناه |
أحببت كل واحدٍ منهم كما يحب الأب ابنه. كنت أحس بسعادة غامرة عندما أقدم لكل واحد مساعدة وأتضايق عندما أرى أحدهم مهموماً فأحاول تخفيف ما به. كنت أستعمل صلاحية المعلم فأستعمل النصح والإرشاد حتى اتهمني بعض زملائي في المدرسة بالضعف. كان الطلبة يحبون المعلم اللطيف اللين المتسامح فحاولت أن أكون ذلك المعلم. ونجحت ولله الحمد. فتخرج على يدي منهم شعراء وفنانون وقضاة ورجال أعمال وعسكريون. وهنا تأكدت وسررت أن الشجرة قد أثمرت. وتذكرت كل مشوار التعليم وكم كنت أتمنى أن تكون ذاكرتي مثقوبة وضعيفة حتى أنسى بعضاً من الذكريات بحلوها ومرها.. وهنا تذكرت جملة لشاعر العراق محمد مهدي الجواهري عندما قال: (إنني أحسد كل ذي ذاكرة ضعيفة)، ولكن ذاكرتي أيقظت بعض الذكريات مع بعض الطلاب الطالب (فضيلة الشيخ العالم الجليل: صالح بن سعد اللحيدان) وهو يقف كل صباح في زاوية المدرسة لإلقاء السلام وهو في طريقه إلى كلية الشريعة. الطالب (.......) وأنا عبثاً أحاول إدخاله المدرسة فيحاول الهروب، وأتذكر الفنان (سعد خضر) وهو يقف على خشبة المسرح بالمدرسة وهو ابن الرابعة عشرة.. ذكريات جميلة غلفها الزمن وعلاها الغبار، فحاولت جاهداً إيقاظها في عالم كله خير ومحبة ووفاء، أتذكر طلابي واحداً واحداً في طابور الصباح كنت وقتها أمد يدي إلى بعضهم في الصف الأول الابتدائي لأصافحه فلا تقبض يدي إلا على الهواء والآن أصبحتم رجالاً في مراكز قيادية وأصبح هذا العمل جزءاً لا يتجزأ من ذاكرتي.
|
إنها حياة المعلم بعد التقاعد لم يبق منها سوى الذكريات بحلوها ومرها والحب والوفاء. وما ترونه الآن هي كلمات تشردت وحاولت الهروب من الذاكرة بعد مدة طويلة خفت عليها من الضباع خارج حدود الزمن أقول كثيراً ما تخسر حسابات الإنسان مع منهم حوله. ومشكلة الإنسان مع الناس ربما يجد لها الحل ولكن مشكلته مع نفسه من الصعب أن تحل، ولهذا فمن الأفضل أن نعطي أكثر ما نأخذ وأن نعمل بإخلاص ونقابل إساءة الآخرين بإحسان كما حثنا عليه ديننا الحنيف ثم حكومتنا الرشيدة.. ذكريات مليئة بالحفر والمطبات. جملة اعتيادية تبدو ذريعة لغياب طويل بيننا معلمين وطلاباً. أحكمته الظروف ومشاغل الحياة وسط ملايين شريحة من البشر. ولكن جميلة هي تلك المسافات بيننا.. لا يهم أن نبتعد حيناً ونقترب حيناً آخر نظراً لظروف كل واحدٍ منا ويبقى هاجس التواصل والاحترام محفوراً في ذاكرة كل واحدٍ منا كباراً وصغاراً معلمين وطلاباً، إنها حكاية الزمن والتي هي عنوان واضح لحكاية خطتها أنامل السنين وخلدتها الأيام. نحاول التواصل لنمارس فرحاً تلقائياً بطريقة حضارية في غياب أيام تاهت في غياهب الزمن. كل ما أتمناه ألا يتجزأ كل واحدٍ منا من ذاكرة الآخر ويصبح خيالاً منسياً في خاصرة الأيام. ولعلنا جميعاً نتذكر بالأمس كان معنا أحبة وزملاء طلاباً ومعلمين ومضى الأمس وأتى اليوم ونحن نترقب الغد المجهول وبين أمس مضى ويوم جميل نعيشه نتمنى أن يصبح الغد أمساً والأمس حاضراً لنرى من فقدناه من الأحبة الذين أصبحوا رهن الثراب. يتقابل الطالب مع معلمه السابق فتترقرق الدموع في المآقي، فوالله لا أدري هل هي دموع الفرح باللقاء أم دموع الفراق والوداع. عبثاً أحاول أن أجد القدرة على تلمس الخط الدقيق الذي يفصل بين هذين النقيضين. لقد عايشت طلبتي الكرام أعواماً عديدة أكثر مما عايشت أبنائي. ولكن من المؤكد أن هذه الدموع تتساقط كحبات المطر منتشية بحسن مشاعر الطالب تجاه معلمه، تلك المشاعر التي تنمو ببذورالمحبة وأريج الوفاء. والذكرى التي سوف تنمو ببذور المودة في لغة الزمان والمكان عطراً لا يعرف الخريف ولا الذبول، والآن ودعتكم وعلمت أن معلومة جديدة في صباح الغد ستبقى حبيسة الذاكرة فتذكرت قول (المتنبي).
|
خلقت الوفا لو رجعت إلى الصبا |
لفارقت شيبي موجع القلب باكيا |
|
أقول وربما قول يدل به ويبتهلُ |
ألا هل ترجع الأحلامُ ما كحلت به المقل |
ونحن المعلمين المتقاعدين قد سهرنا وتعبنا في الماضي من أجل تقديم وجبة ثقافية لكل طالب. وتمر الأيام والأعوام عاماً بعد عام. وكل أملي إلا ينسى أحدنا الآخر بعد أن كانت تجمعنا مدرسة واحدة ولنكن على صلة مستمرة إن تعذرت على المستوى الشخصي فلتكن حية في قلوبنا جميعاً يزيدها الزمن توهجاً وتمنحها الأيام ضياءً بدون استجداء.
|
أخيراً أقول لكم جميعاً وداعاً فربما يسأل أحدنا عن الآخر يوماً فلا يجد له أثراً.
|
وقد يجمع الله الشتيتين بعدما |
يظنان كل الظن ألا تلاقيا |
عبدالعزيز سعد عبدالكريم الخراشي - الرياض |
|