حينما انتقل فضيلة الشيخ عبدالعزيز المسند إلى رحمة الله تعالى هب الناس جميعاً للصلاة عليه ومن ثم الانتقال للمقبرة بصورة مهيبة وفريدة، ويتكرر المشهد ذاته حيث توجهت حشود هائلة من خلق الله رجالاً ونساءً، كباراً وصغاراً، لتقديم العزاء لأهله وأولاده وذويه، واستمر ذلك أكثر من أيام العزاء المعروفة، وسجلت العديد من المشاهد المؤثرة لنفر من الطاعنين في السن أو المعوقين حضروا من مناطق بعيدة لأداء واجب العزاء. وقد كان منزل الفقيد طيلة أيام العزاء يعج بكل مشاعر الحب الممزوجة بالدموع وألوان الدعاء، وتكرر سماعنا لعبارة: (من لنا بعد رحيل الشيخ؟!) من أناس محتاجين كان الشيخ يشملهم برعايته وعطفه. وكان الإعلام مواكباً للحدث في نشر مآثر الفقيد والحديث عنه وكنت - بحكم ارتباطي وعلاقتي به والتي تمتد لأكثر من خمس وثلاثين سنة - راغباً في المساهمة بهذا الشأن، لكن عظم المصيبة وهول الفاجعة شتتا الذهن وحالا دون المطلوب؛ وعليه ألتمس العذر من أبناء الشيخ ومحبيه، ولعل مما يعوّض عن ذلك أن نستعرض فيما يلي بعضاً من الصور الخاصة لحياته رحمه الله تعالى.
|
- يكثر الشيخ من القراءة ويعتبرها جزءاً من حياته اليومية، والكتاب مصاحب له في حله وترحاله، ولم يكن قارئاً عادياً؛ فالكتاب الذي يقع بيده ينهيه بسرعة عجيبة مع استيعاب نادر للمحتوى، وهو حينما يقرأ يستخدم القلم؛ فيعلق ويهمّش وينتقد ويثني، وكنا نحرص على الاطلاع على شروحاته؛ لأنها مفيدة جداً.
|
- حينما يتحدث راوياً للقصص يكون مثيراً بارعاً يشد المتلقي، ولديه حافظة متميزة لجميع القصص، وكان خلال سرده العجيب للقصة يلمعها ويضيف إليها ما يزيدها إثارة ومتعة، ويمضي الساعات الطويلة في سرد القصة دون أن يشعر السامع بأي ملل.
|
- يتحدث في كل اتجاه ويتطلع إلى الإحاطة بكل جديد ويحاول الدخول في كل المسائل حتى أنه في إحدى رحلاتنا ترك مقعده بالطائرة واختفى على حين غفلة منا، وبعد مضي فترة ليست بالقصيرة اضطررنا للبحث عنه بين الركاب ولم نجده؛ مما اضطرنا إلى سؤال أحد الملاحين الذي أفادنا بأنه في كبينة القيادة يتحدث مع قائد الطائرة، وبعد عودته إلى مقعده تحدث معنا أن الوقت الذي أمضاه مع قائد الطائرة ومساعديه كان مناصفة بينهم؛ حيث شرح لهم الجوانب الشرعية في السفر من حيث الجمع والقصر وأمور أخرى كان يسأل عنها الملاحون، ومن ثم قام بطرح مجموعة من الأسئلة والاستفسارات بشأن الملاحة الجوية وأساليبها وجميع ما يتعلق بذلك، وقد سجل الكثير من الملاحظات والمعلومات الهامة.
|
- كان شديد الحرص على سرية مشاريعه الخيرية، وكنا نحن الأقربين إليه لا نعلم عنها أي شيء إلا من قبيل الصدفة وبعضها والمهم منها لم نعلم بها إلا بعد وفاته.
|
- كان يفرغ نفسه لإنهاء النزاع الذي ينشأ بين الأطراف على اختلاف مستوياتها؛ فأحياناً يتم ذلك بين زوجين، ومرات بين شركات كبيرة ورجال أعمال، ولأنه يملك مهارة فائقة وحكمة نادرة فإن رأيه مسموع وقراره نافذ، وهو يستخدم لمعالجة النزاع تجربته وعلمه وفقهه وفطنته، وأحياناً يستخدم ماله الخاص، ومن شدة ولعه وحرصه في هذا الشأن فإنه قد يضطر للسفر من منطقة إلى منطقة في سبيل الإصلاح.
|
- للشيخ صلات وثيقة بعلية القوم وكبارهم من أمراء ووزراء وعلماء ورجال أعمال، وقد لوحظ عليه في الأيام التي سبقت وفاته تكثيفه لزيارة محبيه وأقاربه، وكان آخر ذلك زيارته لآل الجميح في منزلهم قبل وفاته بأربع ليال حيث لقي منهم ومن ضيوفهم كل حفاوة وتقدير.
|
- ولأن هاتفه المحمول لا يهدأ أبداً ولا يدع له فرصة للراحة، وكل ذلك في مجال الفتاوى الشرعية ومعالجة القضايا الاجتماعية؛ فقد اقترح عليه البعض أن يخصص جزءاً من وقته لتلقي المكالمات ويستريح بقية الوقت، وكان رده - رحمه الله تعالى -: طالما لديّ القدرة والاستطاعة فلن أبخل على أحد بسماع سؤاله وشكواه.
|
- على الذين لاحظوا شدة التأثر واستمرار وتيرة الحزن على أبناء وبنات الفقيد أن يدركوا أنه - وهو الشخص المهيب في مجلسه الحازم في قراراته - ذو شخصية مختلفة بين أفراد أسرته؛ فهو الأب والأخ والصديق للجميع يلاطفهم ويلاعبهم ويشاركهم في جميع ألوان نشاطهم ومسابقاتهم. يتعامل مع الجميع بإحساس مرهف، وعطف جمّ، وشعور صادق.
|
- كان في يوم من الأيام ينتظر عودة ابنه الأكبر عبدالله - رحمه الله تعالى - من أوروبا حاصلاً على شهادة الدكتوراه، وكان يعد العدة لإظهار الفرحة بقدومه وتجهيز الموقع الوظيفي الذي يناسب تخصصه ويفيد به الأمة، وإذا به يفاجأ بخبر وفاته - رحمه الله تعالى - بصورة مذهلة؛ فالتف الناس حول الشيخ يواسونه ويعزونه في مصابه الجلل، وقد واجه الموقف باحتساب وصبر نادرين، وقال في ذلك أبياتاً خاصة استأثر بها لنفسه تمكنت من اختطاف بعضها، ومما قاله:
|
تكلم الهاتف الناعي على وجل |
فاستل قلبي بجرح ليس يلتئم |
(الله أكبر) عبدالله قد عصفت |
به المنون ومنه الروح تستلم |
إنا إلى ربنا يوماً سنرتحل |
دنيا تزول وعمر المرء يخترم |
في الليل كنت أناجيه بصحته |
وفي الصباح طريح ما له كلم |
قد كنت آمل منه العلم يرفعه |
على المنابر يملي وهو يبتسم |
وللحياة يؤدي بعض واجبه |
للأهل والصحب معوان ومحترم |
فجاء هاذم لذات الورى عجلاً |
وغاله وهو (للدكتورا) يستلم |
- وللحساسية المفرطة في شعوره نحو أبنائه فهو يمرض مع المريض منهم وينشغل به ويتفرغ لمتابعته. وفي واحدة من الحالات المرضية لأحد أبنائه أشفق واشتد خوفه عليه حتى منّ الله تعالى عليه بالشفاء، وقال في ذلك أبياتاً خاصة أختار منها:
|
يقول لي الأهلون فيك تغير |
وعينك تخفي ما بدا من دموعها |
ويغمزني طفلي فأفزع مسرعا |
أحاول أخفي علتي فيذيعها |
ويسألني باباه ماذا أصابنا |
وأين ثنايا قد أضاءت شموعها؟ |
فلي كبد مطروحة بين نسوة |
يقلبنها في مدية فتروعها |
وتمتص منها الدم في كل ساعة |
بحجة تحليل لبعض فروعها |
فيا رب يا رحمن سلم فإنما |
أمور الورى حتما إليك رجوعها |
ومرّ بشفاء عاجل لحبيبنا |
فغيرك لا يدري ولا يستطيعها |
وصل إلهي ما هل وابل |
على خير هاد للملا وشفيعها |
- ضريبة شهرة الشيخ وحب الناس له أنه يواجه الحرج حينما يظهر في الأماكن العامة؛ فالكل يعرفه ويود الحديث معه والسلام عليه والظفر بأي جزء من الوقت معه، ويحصل هذا حتى في المناطق النائية والقرى والأرياف والهجر، وفي رحلة لنا معه لشمال المملكة واجهنا هذا الواقع؛ مما اضطره للتقليل من الظهور، وحينما وصلنا منطقة تيماء حرص على الوقوف على (هداج تيماء)؛ فاقترحنا عليه التنكر في لباسه، رغم أننا في تيماء المنطقة الصغيرة النائية؛ فاستجاب لذلك، وبينما نحن في طريقنا للبئر تم التركيز من قبل المارة على شخص الشيخ، وبمجرد وصولنا للموقع شاهدنا أعداداً من الشبان يجرون نحونا وهم ينادون: (الشيخ المسند)، فتحلقوا حوله وجلس معهم وأعطاهم درساً شاملاً منوعاً استفاد منه الجميع، ولم نتخلص من هذا الجمع إلا بصعوبة بالغة.
|
- في ذات يوم دعينا مع الشيخ من قبل شخصية مرموقة لزيارته في مزرعته، وأثناء الزيارة والتجول في المزرعة أدركنا أن هناك نزاعاً قوياً بين مضيفنا وجيرانه، ولم نكن نعلم أن النزاع يبلغ درجة الانتقام الشخصي، وحينما أدركتنا صلاة المغرب تقدم الشيخ للصلاة بنا، وبعد أن شرع في الركعة الأولى حضرت تجاهنا سيارة محملة بالرجال والعصي يقودهم صاحب الشأن؛ وذلك للاعتداء على صاحبنا؛ فأطال الشيخ في صلاته بصورة لافتة، وبعد الفراغ من الصلاة نودي عليه من قبل هؤلاء بصوت ينمّ عن الفتنة؛ فألزمه الشيخ بالجلوس، وأرسل واحداً منا للحديث معهم، وبمجرد أن سمعوا اسم الشيخ عدلوا عن فكرة الاعتداء وعادوا أدراجهم.
|
- كانت لفتة مباركة موفقة من قبل نادي القصيم الأدبي حينما قام النادي بإدارته السابقة بإقامة حفل تكريمي للشيخ حضره سمو أمير المنطقة وكبار المسؤولين والأعيان فيها، ومما قاله الدكتور حسن الهويمل عن الشيخ المسند: (الناس يختلفون في تحصيلهم العلمي؛ فمنهم من يأخذ شيئاً من كل شيء، ومنهم من يأخذ كل شيء عن شيء، أما الشيخ المسند فقد أخذ كل شيء من كل شيء).
|
- مما يخفف عنا وقع مصيبة فراق شيخنا أنه ترك أولاداً صالحين يدعون له وينفعون الأمة وصدقات جاريات وعلماً ينتفع به.. رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته.
|
|