Al Jazirah NewsPaper Sunday  18/11/2007 G Issue 12834
مقـالات
الأحد 08 ذو القعدة 1428   العدد  12834

الثقة بين حكمة الاعتدال ونعمة السؤال
سلامة بن هذال بن سعيدان

 

إن الثقة شعور وجداني تعتريه القوة تارة، وينال منه الضعف تارة أخرى، بحيث تتأرجح هذه الثقة غالباً بين الزيادة والنقص تبعاً للمواقف والظروف التي يمر بها المرء، وأثرها وتأثيرها عليه، حيال أمر من الأمور، وهذه المؤثرات الحالية، وما سبقها من أرصدة إيجابية أو تراكمات سلبية،

تؤدي مجتمعة إلى ثبات الثقة وقوتها، أو اهتزازها وضعفها، على ضوء محصلة التقلبات النفسية والمواقف السائدة.

والثقة التي يتمتع بها الإنسان في موقف من المواقف، أو تجاه حالة من الحالات لها منطلقات تنطلق منها، ومقومات تقوم عليها، وهذه الأمور تتجاذب ثوابتها مع متغيراتها، متذبذبة بين الزيادة والنقص، على النحو الذي يزيد من قوة الثقة حيناً، ويضعفها حيناً آخر، فالدوافع المادية والمعنوية الدافعة لها إلى أعلى، يقابلها منغّصات جاذبة لها إلى أدنى، تتحكم فيها الصفات الشخصية والظروف الموقفية، وكمية الدوافع والمنغّصات وكيفيتها، وما هو الطرف الغالب فيها، بالشكل الذي تتحدد معه درجة الثقة ومستواها في وقت من الأوقات، إزاء أمر ماثل ومبرر حاصل.

والإنسان بقدر ما يتنازع ثقته جهات متعددة، ويتعاقب عليها حالات متجددة، بقدر ما تستند هذه الثقة إلى صفات موهوبة وأخرى مكتسبة، وتعتمد على مقومات أساسية تحافظ عليها في مكانها الصحيح، وتجعلها في منأى عن مهب الريح، مضبوطة بضوابط مقننة، ومتدرجة ضمن مستويات معينة، بدءاً من ثقة المرء بنفسه، والحصول على نسبة مقبولة ومعقولة من ثقة الوسط الذي يعيش فيه، وانتهاء بالحد النهائي الذي لا يصح تجاوزه عند الثقة بالآخرين.

والثقة بالنفس، تبدأ من معرفتها والتعمق في سبر أغوارها، حيث إن من عرف نفسه استطاع أن يسوسها، ومن ساسها نحو تهذيبها وتأديبها وتحصيلها وتأهيلها، فقد توفرت له مقومات الثقة بها، موطّناً إياها على الالتزام باللزوميات اللازمة لهذه الثقة، بالصيغة التي تجعله دائم الاعتداد بها والاحترام لها، مما يؤكد ثقته بها، محصناً لها من الآفات التي تضربها، وتلحق الأذى بمصداقيتها، والثقة بالنفس هي المدخل والأساس لكسب ثقة الآخرين، ومنحهم الثقة، ومن لم يثق بنفسه انقاد لشطحاتها وخضع لنزواتها، وبالتالي فقد ثقة غيره، ومن هذا لسان حاله، خرج عن اعتداله، والخسران المبين مآله.

والثقة تعتبر مطلباً مشروعاً، يطلبه كل إنسان سوي، ولكن تزداد قيمتها وترتفع مكانتها بالنسبة لمن يمثل سلطة ويشغل وظيفة، تجمع بين رئيس ومرؤوس إذ يتعذر الإنتاج في العمل ويستحيل تحقيق الهدف في غياب الثقة المتبادلة بين الرئيس ومرؤوسيه، فالإرادة المؤثرة، والكلمة المعبرة، والجهود المستمرة في سبيل المصلحة العامة، تضفي على المتصف بها، حزماً لا يتحول، وثقة بالنفس لا تتزعزع، والحزم والثقة صفتان لازمتان لكل رئيس، والرئيس الناجح هو الذي يتحلى بالمرونة إلى الدرجة التي يتقبل فيها المشورة، ويظهر عليه الحزم والثقة بالنفس إلى الحد الذي يتخذ فيه القرار وحده، منمياً في نفسه الشعور بقدرته على أداء واجباته وإنجاز مهامه بطريقة تبعث الثقة والاطمئنان في نفوس مرؤوسيه.

وبالطبع فإن المهارة الحقة تتجسد بوضوح عندما تفرض الإرادة بدون قوة، ومصدر القوة يكمن في استخدام السلطة، والبديل عنها هو تأثير شخصية ممثل هذه السلطة، فإذا ما حل تأثير الشخصية، محل قوة السلطة، وما يترتب على هذا التأثير من بذل المرؤوسين أقصى ما يمكن من الرغبة مقابل أقل ما يمكن من الجهد، وذلك في تناسب عكسي، فإن هذه المعادلة النسبية مردها يعود إلى قوة الشخصية وتأثيرها، وما ينبني عليها من الثقة بالنفس التي هي انعكاس لها، إذ إن قوة الشخصية هي على رأس المقومات التي تنمي الثقة بالنفس ووجود الثانية مرهون بوجود الأولى.

ورغم أن قوة الشخصية تأتي قبل الثقة بالنفس، فإن هذه الثقة تشكل جزءاً منها، ونتيجة من نتائجها، كما أنه يجمع بين الصفتين قواسم مشتركة، وتقوم إحداهما على مقومات الأخرى، علاوة على أن بيئة ازدهارهما واحدة، مع مراعاة أن قوة الشخصية هي الأصل ولها أسبقية التأثير، فقي حين تمتزج معها الثقة بالنفس وتتفرع منها، معززة إحداهما الأخرى، والتأثير في الآخرين هو السبيل إلى إقناعهم واكتساب ثقتهم، وإذا ما فتر المؤثر ضعف الأثر، ومن غير المنطق أن يتصور أحد الحصول على الثقة بالنفس في غياب قوة الشخصية وتأثيرها.

وثقة أي رئيس بنفسه، تنبثق من صفات عدة وجملة مقومات، إذا ما تمتع بها هذا الرئيس كان أكثر وثوقاً بنفسه، كاشفاً عن جدارته وإمكاناته، بالأسلوب الذي يدفع المرؤوسين إلى احترامه ومنحه الثقة، بفضل تعمقه في فهم الطبائع البشرية ونوازعها والتعرف على ما يؤثر فيها ويستثير حماسها وكوامنها من جهة، وكذلك إلمامه بالكثير من الأمور المسلكية والمهنية التي تعزز ثقته بنفسه من جهة أخرى، والثقة بالنفس تعد مطلباً من مطالب القيادة، وصفة من صفات القائد، يصعب على أي رئيس يفتقدها أن يؤثر في مرؤوسيه ويغريهم باتباعه والالتفاف حوله نحو تحقيق هدفه، بوصفها تمهد الطريق نحو إقناع الآخرين وحيازة ثقتهم.

وبما أن الناس لا يثقون إلا بمن يثق بنفسه، ومن الخطأ أن ننتظر منهم عكس ذلك فإنه لا يستطيع أحد أن يقنع الغير بالانقياد له والسير خلفه، دون أن يكشف إلى حد ما عن نفسه، فتتجلى أمام المرؤوسين معرفته ومقدرته وذكائه وشخصيته، والحكيم من يعمل جاهداً ليعرض كل هذه الصفات في أجلى صورها بصورة طبيعية لا تكلف فيها بعيداً عن النرجسية وإبراز الذات، وهذا يعني أن تكون هذه الثقة غير مبالغ فيها، مشوبة بالتواضع والشعور بالمسؤولية والواقعية بمنأى عن الزهو والمغالاة في تقدير المواهب والإمكانات.

والموازنة بين الثقة بالنفس والثقة بالآخرين أمر مطلوب وهدف مرغوب حيث إن المغالاة في الثقة بالنفس والمبالغة فيها، يشكل خطراً على الثقة بالآخرين ويخل بالعلاقة معهم، كما يدفع إلى الأنانية، وتجاوز الحد المقبول في الاعتماد على الذات، وما يعنيه ذلك من التجاهل المفرط للغير، ومن لم يثق بالناس وغالى في تجاهلهم خسرهم، فالاعتراف بالمرؤوس وتقدير ما يبذله من جهد من أقوى الدوافع لشحذ همته ومضاء عزيمته خصوصاً عندما يكون هذا الاعتراف من قبل رئيسه الذي يتولى مراقبته وتقويمه، ورسم ملامح مستقبله الوظيفي.

وعلى هذا الأساس فإن من لزوميات الثقة بالنفس وحيازة ثقة الآخرين، أن يضع أي رئيس من نفسه قدوة، وأن يقرن القول بالعمل، مثبتاً للمرؤوسين أن الأمور القائمة على الثقة لا يمكن صياغتها على نحو عارض، وأن ما قام منها على المظاهر الكاذبة، لا يمكن أن يبقى لأمد طويل، إذ إنه مع مرور الأيام وكر الأعوام تنكشف الأقنعة، وتظهر حقيقة الأشياء.

وثمة مقومات تقوم عليها الثقة بالنفس ولها دور مباشر في التأثير على الآخرين، وهي مقومات تنطوي على قيم ومبادئ، يمكنها أن ترفع من قدر ممثل السلطة وتعزز سلطته تجاه المرؤوسين، فقدرة شاغل المنصب على الإقناع والمشاركة في النقاش بعقلية متفتحة، مدافعاً عن وجهة نظره وتوجهاته، مبدياً احترامه لأراء الغير ووجهات نظرهم مع بيان الأسباب والحجج التي يستند إليها والدفاع عن موقفه، وكذلك مقارعة الحجة بالحجة مع بقاء التواصل مستمراً حتى بلوغ نتائج مشتركة ومقنعة، كلها أمور تدعم موقف المسؤول وتجعله أهلاً للثقة كما تجعل شخصيته مؤثرة وقراراته حاسمة.

وحتى يقدم شاغل المنصب الدليل على ثقته بنفسه، وتحلياً منه بالشجاعة الأدبية وأن لديه قابلية للتعليم فإن الأمر يستلزم منه الابتعاد عن المكابرة والإقرار بأنه لا أحد بإمكانه الإجابة عن كل ما يثور من تساؤلات في مجال المهنة وميدان العمل، وأنه ليس بالضرورة دائماً حضور الذهن لنقد وتقويم كل ما يبديه الآخرون من وجهات نظر ومواقف أو ما يكون لديهم من خبرات.

وكما تتطلب طبيعة المهنة من كل رئيس التمسك بالمواقف، فإن الاعتقاد بإمكانية مراجعتها وضرورة إعطاء فرصة لهامش محدود من الشك في مدى صحتها وسلامة حيثياتها يمثل جانباً مهماً في سلوك الرئيس وإصراره على التأكد من صحة قراراته، وامتصاص أي تذمر أو مشاعر سلبية تجاه سلطته، زد على ذلك فإن اعتراف هذا الرئيس بالأخطاء وإظهار الرغبة في أن ينحو المرؤوسون النحو نفسه مع الاستعداد لتصحيح هذه الأخطاء من خلال العمل في جو العناية والاهتمام، لهو من الأمور التي تشجع هؤلاء المرؤوسين على سلوك هذا المسلك دون خشية أو تردد.

والسيطرة على المرؤوسين، تعتمد على مقدار الثقة المتبادلة بينهم وبين رئيسهم الذي توحي شخصيته بهذه الثقة لكل من يتعامل معه، الأمر الذي يجعله محل ثقة مرؤوسيه، لقاء ما يتحلى به من سجايا وصفات خلقية، وما يتمتع به من براعة قيادية وكفاءة مهنية.

وأول ما يستدل به على نجاح الرئيس هو تمتعه بثقة مرؤوسيه، وما يكنون له من التقدير والاحترام مقابل عدالته وإنسانيته، وإلمامه بالطبيعة البشرية، وبالتالي اهتمامه بهؤلاء المرؤوسين، ومشاركتهم الآمال والآلام، بالإضافة إلى ما يتصف به من الإخلاص نحو هدفه، وإنكار ذاته في سبيله، ممسكاً بزمام الأمور ومسيطراً على نفسه في جميع الأوقات والظروف.

وينبغي ألا يغيب عن ذهن من يمارس القيادة العسكرية أو المدنية أن يدرك أن من أوجب واجباته، أن يجيد فن التعامل مع الطبيعة البشرية وأن يستغل الطاقات الكامنة في مرؤوسيه، واضعاً كلاً منهم في المكان الذي يتناسب مع ميوله وطبيعته، ليثق كل منهم بنفسه، ويقبل على مهام وظيفته، ومن ثم تنعكس هذه الثقة على عمله ويقطف ثمارها رئيسه، باعتبارها تمثل ضرورة حتمية، لا يستقيم أمر الوظيفة القيادية بشقيها العسكري والمدني في غيابها، فالموظف المدني والعسكري تجمع بينهما قيم المهنة وأعرافها، ومبادئ المواطنة وأهدافها، والاختلاف بين الاثنين يكمن في أن العسكري يتعين عليه أن ينفذ الأوامر الصادرة إليه مهما كان شعوره نحوها مظهراً خضوعه للواجب وطاعته للأمر من خلال الاقتناع دائماً بأن تنفيذ ما يؤمر به أو يطلب منه تنفيذه هو الصواب.

والواقع أن الثقة والمحبة إذا ما هيمن أثرها وتأثيرها على المرؤوسين، وتفيئوا ظلالها، فإن النجاح عادة ما يحالفهم، والهدف يصبح بالمناسبة لهم سهل المنال، وذلك بفضل المردود المثمر الذي ينعكس على علاقتهم برئيسهم من جانب، والحافز المعنوي الذي يحفزهم إلى أداء الواجبات وإنجاز المهام بكفاءة واقتدار من جانب آخر، مع الأخذ في الحسبان أن الثقة في بعض المواقف تطغى على المحبة، ويكون لها اليد الطولى والقدح المعلى من حيث العائد والمردود.

وحكمة الاعتدال تقتضي من الواثق في نفسه أن لا يذهب في هذه الثقة بعيداً إلى الحد الذي يضر بثقته بالآخرين، بل يسلك في ذلك طريقاً وسطاً يجمع فيه بين مزايا عدة، فلا يحجب الثقة عن أهلها، ولا يمنحها جزافاً لمن لا يستحقها، ولا تكون الثقة على حساب المراقبة والمتابعة، وإنما وجودها يتطلب إغماض عين وفتح أخرى، والتوسط في الثقة معناه الاعتدال فيها، ووضعها في مكانها الصحيح، فلا إفراط ولا تفريط.

وبمعنى آخر فإن التطرف في هذا الأمر معناه التحول من الوسط إلى أحد طرفي النقيض وفيه مدعاة لارتكاب الأخطاء، حيث إن زيادة الثقة بالنفس أو المغالاة في الحذر، قد يجر أي منها إلى الوقوع في شيء من هذا، الأمر الذي يجعل الاعتدال في التحلي بهذه الصفة وكذلك عند منحها للآخرين آية من آيات الكمال، في حين أن التطرف في الحالتين يمثل علامة من علامات النقص.

وإذا كان لكل شيء قيود وحدود، فإن هذا القول ينطبق أشد الانطباق على الثقة، لما تخضع له من تغيرات نفسية، وينتابها من تقلبات معنوية، تبعاً لتعاقب المواقف المتكررة، والظروف المتغيرة، وما لها من تأثير على هذا الشعور المتأرجح بين القوة والضعف والزيادة والنقص.

وعلى الطرف المقابل فإن تقويم النفس ووضعها في المكان الذي تستحقه، لا الذي ترغب فيه، والنظر إليها من وجهة نظر الآخرين من الأمور التي تساعد على إصلاح خللها وتعديل خططها، وما يترتب على ذلك من إمكانية التحكم في موازين الثقة بصورة عامة، وضبط وتيرة زيادتها ونقصها، بما يخدم أطرافها ويحقق أهدافها، ومعرفة النفس ونقدها، هو توجيه سؤال لها لتحديد مقاييس الثقة بها، أما الحصول على ثقة الغير، فيكشف هذا الأمر تلقائياً عن معطياته ونتائجه، مقدماً الإفادة والشهادة، وبقدر الجهد المبذول يكون الناتج والمحصول، والسؤال المثار في هذا الجانب تكون إجابته في الغالب عند من أثاره.

والسؤال يكون نعمة في طلب العلم والتعلم، وعند البحث عن الحقيقة، ومن هنا فإن الثقة بالآخرين حتى تتوفر لها المصداقية ويطول عمرها، لا غنى لها عن إضفاء نعمة السؤال عليها وتوثيقها بالتبين والاستيضاح لإثبات الحقيقة وإزالة الشك. والتثبت وتحري الصدق لا يلغي الثقة، بل يدعمها ويحافظ عليها في أحسن حالاتها، طالما حسنت النية وصلح العمل من قبل أطرافها، وقد قال الشاعر:

فسائل إن منيت بأمر شك

فإن الشك يقتله اليقين

وقال الآخر:

فكن سائلاً عما عناك فإنما

دعيت أخا عقل لتبحث بالعقل

ومنح الثقة للغير ينبغي أن يخضع للتجربة والاختبار، وأن ترتكز هذه الثقة على مرتكزاتها، وتقوم على مقوماتها، كما يتم منحها بالتدريج وعن قناعة، مع الأخذ في الاعتبار أن حجبها بعد منحها يدل على ضعف الطالب والمطلوب، إذ إن من أعطي شيئاً صعب عليه استرجاعه منه، وقبل هذا وبعده، فإن وضع الثقة في غير مكانها، وتقليدها لمن لا يستحقها يعتبر نقيصه من النقائص وآفة من الآفات.

والثقة لا تعفي الذي تمنح له من المساءلة، وليست مسوغاً لقبول كل ما يقول، أو عدم تصديق ما يقال فيه، بل يتعين على الذي منحها أن يتبين ويستوضح عن كل ما يعرض عليه من حالة، محدداً مواطن الاستفسار فيها، ثم يوجه الأسئلة حولها، حتى يظهر له الحق ويزهق الباطل على النحو الذي يؤكد الثقة أو يجعلها عرضة للاهتزاز أو النسف.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد