Al Jazirah NewsPaper Thursday  22/11/2007 G Issue 12838
مقـالات
الخميس 12 ذو القعدة 1428   العدد  12838
قبلة المسلمين
أ.د. أحمد بن عبدالله الباتلي

من خصائص بيت الله الحرام أن جعله الله قبلة للمسلمين كلما صلوا في أي مكان من العالم حيث تتجه ملايين المصلين كل يوم نحو البيت العتيق.

ولقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه يصلون في أول الإسلام جهة بيت المقدس فمكث لما هاجر،،

إلى المدينة ستة عشر شهراً يصلي نحو بيت المقدس ثم أمره الله تعالى بالتوجه شطر المسجد الحرام.

ويدل على ذلك قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان أول ما نسخ من القرآن القبلة، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- لما هاجر إلى المدينة - وكان أكثر أهلها اليهود- أمره الله أن يستقبل بيت المقدس ففرح اليهود فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهراً وكان يحب قبلة إبراهيم، فكان يدعو الله وينظر إلى السماء فأنزل الله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء}إلى قوله: {فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ}.

وروى مالك عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آتٍ فقال: إن رسول الله قد أنزل عليه الليلة قرآنٌ، وقد أُمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة).

وأخرج البخاري في صحيحه عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهراً، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يحب أن يوجه إلى الكعبة، فأنزل الله -عز وجل- (قد نرى تقلب وجهك في السماء)، فتوجه نحو الكعبة، وقال السفهاء من الناس وهم اليهود: {مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم رجل ثم خرج بعدما صلى فمرّ على قومٍ من الأنصار في صلاة العصر يُصلون نحو بيت المقدس فقال: هو يشهد أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه توجه نحو الكعبة، فتحرف القومُ حتى توجهوا نحو الكعبة).

فأفادنا حديث البراء أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه مكثوا يصلون نحو بيت المقدس وهم بالمدينة ستة عشر أو سبعة عشر شهراً، فالشك من البراء رضي الله عنه ورجح النووي أنها ستة عشر شهراً بينما نص القاضي عياض على صحة سبعة عشر شهراً وجمع بينهما بعض أهل العلم فقالوا: من جزم بستة عشر أخذ من شهر القدوم وشهر التحويل شهراً، وألغى الأيام الزائدة فيه، ومن جزم بسبعة عشر عدهما معاً، ومن شك تردد فيهما فذكرهما معاً.

أما وقت تحويل القبلة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة في شهر ربيع الأول بلا خلاف، وكان التحويل في نصف شهر رجب في السنة الثانية على الصحيح وبه جزم الجمهور.

وقال سعيد بن المسيب: إن تحويلها كان قبل غزوة بدر بشهرين.

وقال أبو حاتم ابن حبان البستي: صلى المسلمون إلى بيت المقدس سبعة عشر شهراً وثلاثة أيام سواء، وذلك أن قدومه كان يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول. وأمره الله عز وجل باستقبال الكعبة يوم الثلاثاء للنصف من شعبان.

وأما الرجل الذي صلى مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم خرج يخبر الأنصار بتحويل القبلة فهو عبّادُ بن بشرٍ رضي الله عنه وقيل هو: عبّادُ بن نَهِيك.

وقد حُولت القبلة في المدينة في صلاة العصر، ووصل الخبرُ إلى أهل قباء وهم في صلاة الصبح لليوم الثاني لأنهم كانوا خارج المدينة فاستداروا نحو الكعبة وهم يصلون.

ومن لطيف ما ذُكر في كتب التراجم والسير أن الصحابي أبا سعيد بن المُعلَّى كان أول من صلى إلى الكعبة حين صرفت القبلة عن بيت المقدس، وذلك لأنه كان مجتازاً على المسجد فسمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطب الناس بتحويل القبلة على المنبر وهو يقرأ قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ} فقام فصلى ركعتين قبل أن ينزل الرسول -صلى الله عليه وسلم- من المنبر. وتوجه نحو الكعبة.

وذكروا أن مسجد بني سلمة كان يُصلي فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- صلاة الظهر، وبعد ركعتين منها تحول نحو المسجد الحرام وأتم الصلاة ولذا يُسمى ذلك المسجد (مسجد القبلتين).

ولقد أشكل على بعض الصحابة رضي الله عنهم بيان حال الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس قبل تحويل القبلة، والدليل على ذلك ما رواه الترمذي من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: لما وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الكعبة قالوا: يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يُصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} قال الترمذي حديث صحيح.

فدلت الآية على أن الله تعالى ما كان يُضيع ثواب صلاتهم تلك. وسمى الصلاة إيماناً لاشتمالها على النية والقول والعمل، وكان الإمام مالك يستدل بهذه الآية في الرد على المرجئة الذين يقولون: إن الصلاة ليست من الإيمان. ذكره القرطبي في تفسيره 2-106.

هذا فيما يتعلق بتحويل القبلة، ولا يخفى على الجميع أن استقبال القبلة شرط لصحة الصلاة، ولا فرق بين الفريضة والنافلة؛ لعموم قوله تعالى:{وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ}.

وذكر الفقهاء -رحمهم الله تعالى- أن من صلى معايناً مشاهداً للكعبة ففرض عليه استقبال عين الكعبة حيث يتوجه في صلاته مقابلاً لها بيقين.

أما من صلى خارج البيت الحرام في أي مكان فيجب عليه استقبال جهة الكعبة دون إصابة العين لقوله صلى الله عليه وسلم: (ما بين المشرق والمغرب قبلة). رواه الترمذي وقال حسن صحيح.

ومعنى الحديث: أن الجميع ما بين المشرق والمغرب فهو قبلة. وهو دليل على أن الواجب استقبال الجهة لا العين في حق من تعذرت عليه العين وهو مذهب جمهور الفقهاء وعلى المصلي أن يحرص على تحري القبلة ولاسيما إذا كان مسافراً بسؤاله لأهل البلاد التي يمر عليها، فإن كان في البر أو على طريق ولم يجد من يسأله أو لم يرَ مسجداً يستنير بقبلته أو محرابه نحو القبلة اجتهد وذلك بمعرفة الجهات وتتبع منازل الشمس والقمر وحركتهما.

ومن صلى باجتهاده إلى جهة ثم بان له أنه صلى إلى غير جهة الكعبة يقيناً، لم تلزمه الإعادة ومن علم يقيناً جهة القبلة وهو في الصلاة استدار جهة الكعبة، وأتم صلاته لأن ما مضى يعد صحيحاً أداه باجتهاده. ذكر ذلك كله الإمام الموفق ابن قدامة في المغني 2-111.

والله الموفق.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد