|
لم يكن حفل وداع الأستاذ عبدالله الناصر الملحق الثقافي في العاصمة البريطانية لفترة تزيد عن عقدين من الزمن، فضلاً عن شغله مواقع أخرى في الولايات المتحدة والجزائر.. لم يكن حفل التوديع هذا احتفالاً بل احتفاءٌ بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى.. احتفاءٌ تجاوز في حجمه الاحتفاء والتكريم وفاض في دلالته عن هذا وذاك.
|
فعندما يصبح النشاط الرسمي عفوياً، والموضوعي ذاتياً، يتجاوز المضمون آنذاك الشَّكلَ المُسْبَقَ الصنع والذي تتسم به المناسبات عادة وتتعزز الدلالة وينتصر المعنى الحقيقي على
|
|
هذا هو الانطباع الذي خرج منه الذين حضروا الحفل الوداعي الذي نظمته أندية الطلبة السعوديين المبتعثين في بريطانيا برعاية سمو الأمير محمد بن نواف سفير المملكة في بلاط سانت جيمس وذلك عشية انتقال الملحق الثقافي الأستاذ عبدالله الناصر إلى موقعه الجديد في وزارة التعليم العالي بعد خدمة دؤوبة في الخارج امتدت إلى نحو ربع قرن.
|
وقد تحدث سمو الأمير في هذه المناسبة التي حضرها المئات من المبتعثين والمثقفين والرسميين فأشاد بالناصر وبالدور الذي لعبه في تنظيم عملية الابتعاث في بريطانيا، ورعاية المبتعثين والاستجابة الواعية للمسؤولية الكبرى التي ألقيت على عاتقه، فضلاً عن نجاحه عبر الأيام السعودية التي أقيمت في مختلف الجامعات البريطانية بتعريف الجمهور البريطاني بالتقدم الذي أحرزته المملكة بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز حفظه الله.
|
بدأ الحفل التكريمي بآيات من القرآن الكريم رتلها أحد المبتعثين، ثم استهل فقراته الدكتور أحمد بن صالح الزهراني الذي ألقى كلمة الأندية والمدارس السعودية في المملكة المتحدة، فعبر عن مدى تقدير المبتعثين ووفائهم للملحق الثقافي.. الرمز الاستثنائي في فعاليته من رموز التربية في الخارج. ولكنه لم يكتف بالتعبير عن مشاعر الطلبة والمندوبين الرسميين الذين جاؤوا بالمئات من شتى الأصقاع للمشاركة في تكريم الناصر، فضلاً عن الأصدقاء من المثقفين العرب والسعوديين الذين حرصوا على الأ تفوتهم هذه المناسبة.. لم يكتف الدكتور الزهراني بالعواطف والأحاسيس وإنما قدم معادلها الموضوعي المعبر عن مواقف المكرم ودوره في تنظيم وتطوير عملية الابتعاث. كما أن الموقع الذي يشغله كمثقف وأديب بالغ التأثير من خلال كتاباته الصحافية والإبداعية لم يغب عن كلمة المتحدث. وأكثر من ذلك فإن دور عبدالله الناصر الإداري المتميز الذي كان يضع نفسه في موضع المبتعث صاحب الحاجة قبل أن يتصرف كصاحب قرار شغل جانباً آخر من جوانب الحديث.
|
ولا شك انه في استعراضه لشتى الجوانب في شخصية المحتفى به كان ? مثله في ذلك مثل متحدثين آخرين أعقبوه- كان يصوغ المعاني والدلالات نفسها التي قرأها المبتعثون وسواهم من قراء (الثقافية) الذين طالعوا كلمة الناصر التي نشرت في تلك المجلة اللافتة التي استطاع أن يبرز فيها ما بلغه المبتعثون من تمكن في المواد العلمية والأدبية التي تخصصوا فيها خلال دراستهم الأكاديمية في الجامعات البريطانية.
|
فتحت عنوان: (وداعاً) أشار الملحق الثقافي في معرض شرحه للبعد الإداري الذي اضطلع به خلال تجربته الطويلة في بريطانيا، وبالتحديد لدى مواجهته للمشكلات والعقبات التي كان المبتعث يقف أمامها وجهاً لوجه، أشار إلى انه كان يحس أمام المشكلة بأنه هو صاحبها لا الناظر فيها، ومن ثم فإنه يتحول إلى صاحب المعاناة نفسه أو يتمثل انه صاحبها لكي يجد لها مخرجاً.. وكانت تقف أمامه عقبات وصعوبات وبيروقراطيات وتعقيدات يحار فيها العقل أحياناً، فيبحث عن المخارج والحلول ويحاول التحايل على النظام ومغالبته والاجتهاد في تفسيره بما يخدم مصلحة الطالب وإن استدعى الأمر لجأ إلى ليِّه لا كسره... كل ذلك من أجل أن يرضي الله ثم ضميره وأن يعمل صالحاً للمبتعثين الذين يواجهون أحياناً حالات صعبة وعسيرة وربما مؤلمة..
|
تلك هي بعض المحاور التي يمكن استخلاصها من هذا الحفل التكريمي الذي فاض عن إطاره الرسمي كما أسلفنا.. وهي محاور عبر عنها المتحدثون بشكل أو بآخر، ولكن جوهرها كان يربط باستمرار بين مختلف نشاطات عبدالله الناصر ويختلط فيها التقييم الرسمي والموضوعي بالتقييم الذاتي.
|
وقد كانت كلمة معالي وزير التعليم العالي الدكتور خالد بن محمد العنقري التي ألقاها بالنيابة عنه الدكتور عبدالله الموسى.. كلمة لافتة أثنى فيها معالي الوزير على جهود الناصر وثَمَّنَها مؤكداً على إشادته بالجهود التي بذلها عبر مسيرته الطويلة والمثمرة، بدءاً من دوره في تعزيز صلات المبتعثين بجامعاتهم والمشرفين عليهم وانتهاءً بالأنشطة التي قاموا بها وأشرف عليها الملحق الثقافي.. وهي أنشطة نظمت في داخل الجامعات والمدن البريطانية على مر السنوات الطويلة وعرضت خلالها صور وكتب وأقلام تبرز نهضة المملكة.. هذا بالإضافة إلى الندوات العلمية التي حضرها مديري المدن البريطانية وعمداؤها.
|
وأما كلمة الملحقية الثقافية في بريطانيا فقد ألقاها الدكتور فوزي البخاري الذي قدم كشفاً تفصيلياً بالإنجازات التي كسبها الطلبة والتي أشار إلى أنها تحققت من خلال جهد فردي بذله الناصر دون كلل حتى تحولت من أفكار عائمة يحلم بها المبتعثون إلى حقائق عينية صارت من قبيل المكتسبات المادية والمعنوية.
|
وتحت عنوان (حديث عن الصقر العائد) ألقى الدكتور خلدون الشمعة كلمة المثقفين العرب فنوه بمختلف الجوانب التي تتسم بها شخصية عبدالله الناصر الأديب والمثقف والتربوي والإداري. كما بين أن هذه الشخصية تنطبق عليها ما تدعوه نظرية القيادة في علم الاجتماع بالشخصية (الكاريزمية). ومن المعروف أن عالم الاجتماع (ماكس فيبر) هو الذي ابتكر مصطلح (كاريزما) للدلالة على ما دعاه ب(الخصائص الاستثنائية) التي تجعل صاحبها صانع قرارٍ فعالاً ومؤثراً بامتياز.
|
وتطرق الدكتور الشمعة في حديثه عن الناصر الذي امتدت معرفته به إلى ما ينوف على عقد كامل من الزمن، تطرق إلى بعض خصائص الناصر الكاتب والمبدع وطبيعة التزامه بأمته العربية مؤكداً على أن الالتزام المعني هنا هو التزامٌ بمحمولٍ نقدي طوعي جديد. فهو ليس إلزاماً مفروضاً بل التزامٌ ذاتي وطوعي.
|
كما أشار إلى أن هذا الضرب من الالتزام الطوعي الذي يختلف عن الالتزام الأيديولوجي الذي شاع في الخمسينات والستينات ظاهرة جديدة لفتت انتباه الكاتب البريطاني الدكتور (كريستوفر تنغلي) الذي أسَرَّ له لدى اطلاعه على قصص الناصر التي ظهرت بالإنجليزية بأنها أثارت إعجابه بأدائها البعيد عن الافتعال وقدرتها الفائقة على نقل البيئة البشرية والمكانية في المملكة وحداثيتها النابعة من واقع محلي. وكان حديث الكاتب البريطاني بمثابة تعقيب على حوار حول انزلاق بعض سرديات الحداثة العربية إلى نماذج مفرطة في ألعابها الشكلية غير القادرة على الإقناع.
|
وكان من بين المتحدثين الضيوف الأديب الدكتور مرزوق بن تنباك الذي تطرق إلى مختلف جوانب شخصية الأستاذ الناصر مشيداً بالدور الثقافي الذي لعبه على وجه الخصوص. كما تحدث الأديب عبدالله الماجد فقدم لمحات نقدية تفصيلية حاول فيها أن يسبر خصائص الكتابة لديه.
|
وعندما تحدث الشاعر والباحث الأكاديمي الدكتور عبدالله المعطاني عن المحتفى به، اختتم كلماته بأبيات شعرية جميلة.
|
وكان الدكتور عبدالرحمن العشماوي قد ألقى قصيدة ربط فيها بين الهم القومي والوطني والوجداني وبين الأستاذ الناصر. كما ألقت الشاعرة الدكتورة أشجان هندي قصيدة لافتة بهذه المناسبة.
|
ومن الجدير بالذكر أن هذه القصائد قدمت باعتبارها فواصل موسيقية تفصل بين الأحاديث التي ألقيت. ولهذا فإن الأمسية تضمنت إيقاعات مختلفة. فالأستاذ صالح الشيحي على سبيل المثال، تحدث دون أن تكون كلماته مدونة على الورق، وكان ارتجاله في هذه المناسبة طبيعياً ومعبراً عن عفوية وصدق لافت.
|
وتبقى أخيرا كلمات المبتعثين التي ألقاها كل من الأستاذ قينان الغامدي والدكتور معجب العدواني والأستاذ منيف الملافخ والدكتورة إلهام قطان والأستاذ ناصر الدوسري والأستاذ محمد الحسون. ويمكن القول أن هذه الكلمات لم تكن صادرة عن القلب فقط وإنما قدمت للحاضرين سلسلة من التجارب الغنية والمؤثرة التي مر بها المبتعثون من خلال علاقتهم بالملحق الثقافي وتجاوبه مع المشكلات والعقبات التي صادفتهم خلال مسيرتهم الأكاديمية. وقد تكررت لدى هؤلاء جميعاً (ثيمة) شبه مشتركة بينهم. فقد كانت الصعوبات تدفع ببعض المبتعثين إلى حزم أمتعتهم والعودة إلى الوطن فوراً.. إما لأسباب تتعلق بأوضاع شخصية، وإما لأسباب موضوعية تتعلق بمشكلة دراسية ظهرت على حين غرة وتطلبت حلاً عاجلاً.
|
ولا شك أن شهادة الدكتورة قطان تقدم مثالاً نموذجياً على تلك اللحظات الحرجة في حياة الكثيرين من المبتعثين والمبتعثات.
|
اختتم الحفل التكريمي بقصيدة للشاعر عبداللطيف أطيمش تحدث فيها عن صداقة استمرت بينه وبين الأستاذ عبدالله الناصر قرابة عشرين عاماً بين الجزائر ولندن، معرباً عن عواطف الحزن والأسى بعد سنين جمعت بينهما في ديار الاغتراب. وقد استهلها بقوله:
|
أقول سلاماً، لا أقول وداعا |
وصبراً إذا داعي الحنين تداعى |
فياصحبة العشرين عاماً تسارعت |
ومرت بنا أيامهن سراعا |
قضينا بها حلو الليالي ومرها |
توالى علينا همهن تباعا |
قضينا سنين العمر في دار غربة |
ولم ندر أن العمر كان ضياعا |
|
لك الخير محفوفاً بوجهك أينما |
حللت مكاناً أو سكنت بقاعا |
وعندما اعتلى الأستاذ عبدالله الناصر المنبر ليعقب على ذلك الفيض الجارف والهادر من المشاعر والعواطف الجياشة الذي ملأ المكان، كان يبدو للوهلة الأولى كمن عقدت المفاجأة لسانه وسيطرت على كيانه.. فترقرقت الدموع في عينيه قبل أن يرتجل كلمة شكر مؤثرة سرت بين جموع الحاضرين كتيار كهربائي وأعادت إلى ذاكرة السامعين صورة شخصيته (الكاريزمية) الآسرة بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى.
|
ومع انتهاء المهرجان الذي تداخل فيه البعد الرسمي بالبعد العاطفي قدمت الدروع والهدايا، بدءاً من الدرع الذي قدمته الأندية السعودية إلى صاحب السمو الأمير محمد بن نواف سفير المملكة في بريطانيا وايرلندا. ثم قدم الدكتور محمد العوهلي وكيل الشؤون التعليمية في وزارة التعليم العالي درع الوزارة إلى المحتفى به الأستاذ عبدالله الناصر، ودرع الهيئة الإدارية لأندية الطلاب السعوديين في المملكة المتحدة الذي قدمه رئيسها الدكتور احمد الزهراني، ودرع إدارة المدارس لأندية الطلاب السعوديين في بريطانيا الذي قدمه الأستاذ عابد المزمومي مدير عام المدارس، وهدية نائب رئيس الأندية الأستاذ احمد بن مسفر الغامدي، وهدية المدير المالي في الهيئة الإدارية لأندية الطلبة السعوديين قدمها المهندس علي بن مسفر اليامي، وهي عبارة عن كتيب أنيق يعبر عن شعور المبتعثين والمبتعثات والضيوف تجاه المحتفى به.
|
كما قدم الملحق الثقافي السعودي بفرنسا الدكتور عبدالله الخطيب درعاً خاصاً، وتبعه المهندس نايف الشمري فقدم هدية للأستاذ الناصر أعقبها تناول طعام العشاء وتوديع الضيوف.
|
ومن الجدير بالتنويه أن الكتيب الآنف الذكر اشتمل على عدد من الكتابات النثرية والشعرية التي تدور حول العنوان التالي: (عبدالله محمد الناصر: زرعت العطاء فحصدت الوفاء)، وهو عنوان أجمع الحاضرون على انه كان خير معبر عن تجربة الملحق الثقافي وعلاقته بالمبتعثين خلال العشرين عاماً الماضية.
|
كما تضمن الكتيب صوراً ومعلومات عن خلفية الناصر التاريخية والتربوية والثقافية.
|
واستهل الأستاذ إبراهيم بن عبدالرحمن التركي (صحيفة الجزيرة) الكتيب بكلمة عنوانها (سنسعد ولو حزنتم) اختتمها بقوله: (أبا عبدالعزيز لن تغادرهم مثلما لم تغادرنا: فأنت هناك كما أنت هنا، وأنت لهم مثلما أنت لنا..).
|
وكتب الأستاذ احمد أبودهمان (صحيفة الرياض) يقول: (بين عبدالله الناصر وبيننا في المملكة تاريخ من الكتابة المسؤولة.. الكتابة الملتزمة، الملهمة، المتسائلة، المؤرخة. عرفته كاتباً قبل كل شيء، وسيظل عبدالله الناصر ذلك الفلاح الذي يرعى حروفه مثلما يرعى تخيله. ذلك الفلاح الذي اخترع السنين والأشهر والأيام ويولد في كل يوم).
|
كما عبر عدد من المبتعثين عن مشاعرهم تجاه المحتفى به. فكتب الدكتور الطاهر بن عبدالسلام حافظ (الملحقية الثقافية): (كلمات احتفاء.. برجل ترجل للمكارم)، والأستاذ حمد بن عبدالله القاضي عضو مجلس الشورى الكلمة التي اختيرت عنواناً للكتيب: (زرعت العطاء فحصدت الوفاء).
|
وكتب الدكتور عبدالله المعطاني (جامعة الملك عبدالعزيز) قصيدة أشرنا إليها في معرض استعراض حفل التكريم، وجاء فيها:
|
(ياراكب البحر أشجيت المحبينا |
شابت لياليك أم شابت ليالينا |
تزهو بك الريح والأضلاع خافقة |
كأنها راية في شهر تشرينا |
رجعت تحمل أشواقاً وحمحمة |
بعزف قيثارة الأمجاد تشجينا |
سهوت عن مركب الأيام في زمن |
تجاوزت من سني العمر عشرينا) |
|