إن محادثة الرجال فيها تلقيح لألبابها، وغذاء لعقولها، ومن خلالها تتحقق الاستفادة من التجارب، وتتوثق المعلومة، وتتكرس الخبرة، وتكتسب الرفقة، وعادة ما تتم هذه المحادثات في النوادي والمجالس وعلى هامش المنتديات والمحافل الرسمية، وأحياناً على هيئة مجالسة محضرة أو عابرة، ويتوقف مدى الاستفادة منها على مكانة أطرافها العلمية والأدبية والثقافية، ومقدارها ما يتخللها من مناقشات ومداولات تنسجم مع آداب المجالسة، وما هو مطلوب من المتحدث والمستمع، منتهبة موضوعات الحديث انتهابا بين النثر والشعر، وما يشتمل عليه الحديث ويفضي إليه من الذكر الرباني العطر، والحكمة النافعة، والفكرة الهادفة، والطرفة النادرة، والدعابة المرحة، منطبقاً على ذلك قول الشاعر:
|
وذكرني حلو الزمان وطيبه |
مجالس قوم يملؤون المجالسا |
حديثا وأشعارا وفقها وحكمة |
وبراً ومعروفا وإلفا مؤانسا |
ومحادثة الرجال من خلال المجالسة تلعب دوراً مهماً في حياتهم، وتشغل جزءا كبيرا من وقتهم، ولها مردود مثمر على نمو العلاقات الاجتماعية، وإثراء المحصلة المعرفية والأدبية، بطريقة يتم فيها تلقيح الألباب وتوضيح الآداب في جو يريح النفس ويجلب الأنس، وقد قيل: محادثة الإخوان فيها حياة القلوب، وجلاء النفوس، وتذكير من النسيان وقال الشاعر:
|
وسمحت إلا من لقاء محدث |
حسن الحديث يزيدني تعليما |
وبالطبع فإن هذه المحادثات بقدر ما يتوفر فيها من غذاء العقول، وإشباع الفضول بقدر ما يكون فيها معايشة وتوضيحا لآداب المجالسة، ودعوة إلى أن يكون المتحدث راويا والمستمع واعيا، مع الأخذ في الحسبان ما لهذه المحادثات من دور فاعل في توضيح ما يجب توضيحه، وتصحيح ما يلزم تصحيحه في شتى مجالات الاهتمام التي يهتم بها أصحاب الجيوب الناصحة والعقول الراجحة.
|
وترتيباً على ذلك فإن المتحدث الراوي ينهل من مناهل مترعة، ويرتع في مراتع ممرعة، ويتجول نظرة بين الماضي والحاضر، بحيث تتراءى له ينابيع الماضي وأنهاره وحدائقه وأزهاره، ومعالمه وأسراره بما يترجم صورا حية ومشاهد طبيعية، حافلة بالاخبار والسير، والآثار والأثر يعطرها جميل الأذكار وجوامع الحكم والأفكار، ويؤطرها من العلوم نتفها ومن الآداب طرفها، كما ينتقي هذا المتحدث من البر تبره وجواهره، ومن البحر درّه ودرره، وقد قيل: مقطعات الأدب قراضات الذهب.
|
وحسن الرواية والوعي من الصفات التي يوصف بها العقلاء، إذ إنه من أفضل ما يتحلى به المتحدث أن يكون راويا إذا حدّث، وواعيا إذا حُدّث، والمحادثة مهما كثر أو قل عدد الجلساء تقوم على عدة مقومات تتصدرها هاتان الصفتان، وفي المجالسة عادة ما يكون الحديث متاحا بصورة تلقائية، ضمن حدود آداب المجالسة وقيودها، لمن أراد أن يدلي بدلوه حول موضوع الحديث القائم على هيئة إضافة تعقيبية، أو مداخلة ضرورية، أو يطرح فكرة جديدة، تبعا لطبيعة المجالسة وظروفها وعدد الجلساء، وكذلك موضوع المحادثة وأبعادها، وحيثيات الحديث.
|
ولكل مجالسة، وما يجري فيها من محادثة ظروفها، وطابعها الخاص، فهناك نوع يغلب عليه التشدد في الأخذ بآداب المجالسة تبعا لنوعية الحضور ومكانتهم الاجتماعية. وما يتصف به بعضهم من التزمت، وكذلك موضوع الحديث ومجريات المحادثة، وثمة مجالسة أكثر مرونة في التعاطي مع آداب المجالسة وقيودها وحدودها، دون ان يكون ذلك على حساب المحادثة ومتطلباتها، وسمت المجالس ووقارها، أو ينال من المروءة وثوابتها.
|
ومطلوب من المتحدث أن ينطلق في حديثه من ثقته بنفسه واهتمامه بها، وان يعرف موضوع حديثه، واضعا في اعتباره ان حديثه سوف يجعله في الصورة، متجهة إليه عيون الجالسين، ومصغية نحوه آذانهم بالشكل الذي يكون معه هذا المتحدث في المكان مستشرفا، وبالنقد مستهدفا، مما يتطلب منه أن يتحفظ في كلامه، وينأى به عن الحشو والابتذال، وازنا إياه بميزان العقل، على النحو الذي يمكنه من قول ما يرغب في قوله، حيث إنه لا يحسن الاختيار عند التحدث إلا من يعلم ما لا يحتاج إليه من الكلام، بعيدا عن الاطالة المملة والثرثرة المخلة وما ينجم عن ذلك من سقطات اللسان وعثراته، وقد قيل: المرء مخبوء تحت لسانه، وقيل: دل على عاقل اختياره. وقال الشافعي:
|
لا خير في حشو الكلام |
إذا اهتديت إلى عيونه |
والصمت أجمل بالفتى |
من منطق في غير حينه |
وعلى الفتى لطباعه |
سمة تلوح على جبينه |
|
وزن الكلام إذا نطقت فإنما |
يبدي عقول ذوي العقول المنطق |
وينبغي ألا يغرب عن بال المتحدث ان فهمه لحديثه لا يكفي بل لا غنى له عن مقدرته على افهام الآخرين إذا حدّث، وحسن الفهم إذا حدّث، وترك هامشا للخطأ عند النقاش، وفي ذلك ما يدل على كمال المروءة ونضجها، باذلا كل ما بوسعه لشد انتباه الحضور، وحفزهم على الاصغاء إليه، مخاطبا إياهم بما يفهمونه، مع مراعاة التكيف مع مستواهم، والبعد عن التكلف في الحديث، كما يتعين عليه أن يحترم الوقت، موازنا بين الوقت الذي يتحدث فيه، ومتى يستحسن له السكوت والتحول إلى مستمع، وقد قال المتوكل لأبي العيناء: ما تحسنُ؟ قال: افهمَ وأفهِم.
|
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فقد دخل عبدالملك بن مروان في صغره على معاوية وعنده عمرو بن العاص، فجلس مليا ثم انصرف، فقال معاوية: ما أكمل مروءة هذا الفتى، وأخلقه ان يبلغ، فقال عمرو: يا أمير المؤمنين إن هذا أخذ بخلائق أربع، وترك ثلاثا: أخذ بأحسن الحديث إذا حدث، وبأحسن الاستماع إذا حُدِّث، وبأيسر المؤونة إذا خولف، وبأحسن البشر إذا لقي، وترك مزاح من لا يوثق بعقله، ولا دينه، وتجنب مخالفة لئام الناس، وترك من الكلام مما يعتذر منه، فهذه جملة من آداب المجالسة وشرائع المروءة، لا يستطيع تحمل الحد الأدنى منها إلا ذو العقول الفاضلة والآداب الكاملة.
|
وارتقاء بمستوى الحديث بما يحقق الفائدة ويتفق مع آداب المجالسة فإن المتحدث الحصيف لا يتحدث عن نفسه، ولا يتكلم عن مآثره وأعماله الصالحة، كما يتفادى بقدر الإمكان الخوض فيما لا فائدة فيه من الكلام، مع تجنب التكرار، فالكلام المكرور مدعاة لملل المستمع وانصرافه عن المتحدث، وإذا لابد من الإعادة للتأكيد وزيادة الفهم، فيلزم تغيير العبارة والإبقاء على المعنى، بما يحافظ على إقبال المستمع وحسن استماعه، ويحقق الهدف المطلوب، ومما يدل على نفور المستمع من التكرار، وانه نقيصة من نقائص الكلام، ان أحدهم قد أنكر على متحدث بسبب تكراره لحديثه، فقال المتحدث: إنما أكرره ليفهمه من لم يكن فهمه، فقال له الذي أنكر عليه: إلى أن يفهمه البطيء الفهم يثقل على سمع الذكي، وقد استعيد عبدالله بن عباس- رضي الله عنهما- حديثا فقال: لولا أني أخاف ان أغض من بهائه، وأريق من مائه، وأخلق من جدة روائه لأعدته، وكما قال الشاعر:
|
إذا تحدث في قوم لتؤنسهم |
من الحديث بما يمضي وما يأتي |
فلا تكرر حديثا إن طبعهم |
مُوكل بمعاداة المعادات |
والمتحدث له على جليسه المستمع لحديثه أن يحضر له ذهنه ويصغي إلى حديثه، ويكتم عليه سره، ويبسط له عذره، وينبغي له إذا ما رأى من المستمع أعراضاً، أو انشغالا بأمر آخر أن يتوقف عن الحديث معه، ويحرمه حسن الإقبال عليه ونفع المؤانسة له. وقد قيل: نشاط المحدث على قدر فهم المستمع، وكان عبدالله بن مسعود رضي الله عنه يقول: حدث الناس ما مالوا إليك بأسماعهم، ولحظوك بأبصارهم، فإذا رأيت منهم فتورا فأمسك. وقال أحد الحكماء: من تحدث لمن لا يسمع لحديثه، كان كمن يقدِّم طعامه إلى أهل القبور.س
|
وبالإضافة إلى ما سبق، فإن الجليس المستمع يتحتم عليه أن يحسن الاستماع لمحدثه، وألا يغفل عن نظره، ولا يقاطعه الحديث أو يلهو عنه، بما يكشف عن نقص في مدى اكتراثه به وضعف إقباله عليه، وإذا كان قد سمع الحديث قبلا، فلا يوحي لمحدثه بذلك، بل يتظاهر بأنه يسمعه لأول مرة، ولله در القائل:
|
اسمع مخاطبة الجليس ولا تكن |
عجلا بنطقك قبلما تتفهم |
لم تعط مع أذنيك نطقا واحداً |
إلا لتسمع ضعف ما تتكلم |
والفهم له شعور ينعكس على المستمع طبقا لمجال الكلام وغرضه، والمتحدث اللبيب يدرك هذا الشعور، ويزن حديثه بموجبه من حيث إطالته وتقصيره، كما يجب عليه إدراك الحد الفاصل بين المزاح والطرف والملح، فالمزاح في حكم المرفوض ولا مكان له، أما الدعابة إذا ما سنح له استخدامها في مكانها الصحيح، فيستخدمها بحذر.
|
وإذا ما تحدث هذا الجليس مع جليس آخر، والتفت إليه فلا يكون هو الثالث، ولا يدخل بينهما إلا إذا أشركاه، وطلبا منه المداخلة، ولا يبدر منه ما لا يليق بآداب المجالسة وحسن المعاشرة. فلا يحق لجليس ان يفشي سر جليسه أو أن يقول فيه ما يكره، أو يذكره بسوء، والجلساء شركاء في الهدية، وشر المجالس مجلس لا يجري فيه ذكر الله، ولا يؤمر فيه بمعروف أو ينهى فيه عن منكر.
|
والمراء يشكل آفة من آفات المحادثة، ويؤدي إلى نسف آداب المجالسة الأمر الذي يستدعي من الجلساء الحذر من الانزلاق فيه أثناء سير المداولات والمداخلات، والتحصن منه يكمن في الالتزام بآداب المجالسة، واحترام جو المحادثة والتحلي بأخلاقياتها بما يتحقق مع الوئام والانسجام.
|
ومما تجدر ملاحظته ان ما ورد في هذه المقالة وسابقتها من إعلاء قيمة الحديث في المجالس والرفع من شأن المحادثة، لا يعني تحويل المجالسة إلى مكان للخطابة أو إعطاء المحاضرات، بل المقصود من ذلك إحلال الكلام الهادف محل الغيبة واللغو في مجالسة تستهل آدابها بتحية الإسلام وتنتهي بدعاء كفارة المجلس.
|
سلامة بن هذال بن سعيدان |
|