Al Jazirah NewsPaper Friday  07/12/2007 G Issue 12853
عزيزتـي الجزيرة
الجمعة 27 ذو القعدة 1428   العدد  12853

السينيتان بين شوقي والبحتري

 

قرأت مقالاً في عدد سابق من جريدتنا الغالية (الجزيرة) حاصدة الجوائز لرئيس نادي الرياض الأدبي سابقاً الشاعر الناثر الشيخ عبدالله بن إدريس بعنوان (سلعتنا وسلعتهم) ينعي فيه على أمريكا وأوروبا استنكارهم لارتفاع أسعار البترول بينما أسعارهم أغلى كثيراً ويستشهد ببيت شعرٍ شهير لأمير الشعراء أحمد شوقي رحمه الله وهو:

أحرامٌ على بلابِلِهِ الدَّوْ

حُ حلالٌ للطيرِ من كل جنسِ

وهذا البيت من قصيدة قالها شوقي وقد نُفي إلى إسبانيا (الأندلس) معارضاً فيها قصيدة (سينية البحتري)، وهي أكثر شهرة من قصيدة شوقي.

فائدة: المعارضة تكون بأن يكتب شاعر ما قصيدة بنفس وزن وقافية قصيدة لشاعر آخر تتفق معها - غالباً - في الغرض، أما إذا خالفتها، بل ناقضتها في الغرض فتسمى النقائض مثل نقائض جرير والفرزدق والأخطل وكل قصيدة ونقيضها بنفس الوزن والقافية.

القصيدتان من البحر الخفيف: (فاعِلاتن مستفعلن فاعلاتن) في كل شطر وسوف أعرض فيما يلي لبعض أبيات القصيدتين:

** سينية شوقي وهي قصيدة طويلة (184) بيتاً أشهرها تداولاً على الألسن البيت الذي استشهد به الشيخ ابن إدريس. وهو شوقي يستن بسنة شعراء العرب القدامى باصطناع صديقين يخاطبهما للوقوف على الأطلال كما قال امرؤ القيس في مطلع معلقته:

قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ

بسقط اللوى بين الدَّخول فَحَوْمَلِ

(البحر الطويل)

وقال الشاهد النحوي:

خليليَّ ما وافٍ بعهديَ أنتما

إذا لم تكونا لي على من أحاربُ

(البحر الطويل)

الشاهد هنا أنتما فاعل لاسم الفاعل (وافٍ).

فائدة: قالوا قد يكون المخاطب واحداً ولكنه (الشاعر) يجعله اثنين من باب التكرار والتوكيد (التكرار للفعل لا للمخاطب). قفا: أي قف قف).

وقال المفسرون في تفسير قوله تعالى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} قالوا إن المخاطب هو خازن جهنم وهو واحد ولكن التثنية للفعل أي (ألقيا: ألقِ ألقِ) للتوكيد والتهديد.

وشوقي في مطلع قصيدته يبكي على أطلال صباه وأيام أنسه - وأكثر الشيوخ أمثال شوقي يبكون الشباب ويذكرون أيام الأنس ويقول الواحد منهم كنتُ وكنتُ ويُسمَّوْن (الكُنْتِيُّون).

يقول شوقي:

1 - اختلافُ النهار والليل يُنْسي

أذكرا لي الصبا وأيامَ أنسِي

2 - وَصِفا لي مُلاوةً من شبابٍ

صُوِّرت من تصوراتٍ ومسِّ

شبابه كان فترة قوية من الأحلام: (خيالات ورؤى وجنون)

3 - عصفت كالصبا اللعوبِ وَمرَّتْ

سنةً حلوةً ولذةَ خَلْسِ

شبهها (فترة شبابه) بريح (الصَّبا) وهي ريح خفيفة تهب من الشرق على نجد وتسمى صبا نجد قال الشاعر عبد الله بن الدُّمَيْنة:

ألا يا صبا نجدٍ متى هِجتِ من نَجدِ؟

لقد زادني مسراك وجداً على وجدِ

البحر الطويل

والقصيدة مغناة باللحن الكويتي.

ومرت فترة شبابه (كقيلولة) خفيفة أو كما يقول العامة في مصر (تعسيلة) أو هكذا اختلسها اختلاساً - والاختلاس فيه سرعة وخفاء.

4 - وسلا مصر هل سلا القلب عنها

أو أسا جرحَها الزمانُ المؤسِّي

وهو منفي بمصر ينفي - أيضاً - أن يكون سلا مصر (سلا - يسلو) بمعنى (نسي أو تناسى)، كما أن جرحها لم يندمل (جرح الفراق) وهنا جناس تام بين سلا بمعنى اسألا وسلا بمعنى نسي: وهو جمال في البلاغة (علم البديع) - تأتي كلمتان بنفس الحروف واختلاف المعنى.

5 - كلما مرتِ الليالي عليه

رقَّ والعهدُ بالليالي يُنَسِّي

شوقه لمصر يزداد بمرّ الأيام بعكس ما هو مألوف من أن مرور الزمن ينسي حوادث الأيام.

6 - مُستطارٌ إذا البواخر رَنَّتْ

أولَ الليل أو عَوتْ بعد جَرْسِ

كلما سمع أجراس البواخر وزعيقها طار قلبه شوقاً إلى مصر.. وشبه صوت منبه الباخرة (البوري) بالرنين أو العواء ويخاطب الباخرة:

7 - يا ابنةَ اليَمِّ ما أبوكِ بخيلٌ

ما له مولعاً بمنع وحبسِ؟

وابنة اليم هي الباخرة وهذا يسمى في البلاغة (علم المعاني) كناية عن موصوف واليمّ البحر أبو الباخرة ولا أكرم من البحر فكيف تبخل ابنته الباخرة على شوقي بأخذه معها إلى مصر ولماذا البحر مولع بحبس شوقي في الأندلس.

فائدة: ما أبوك بخيلٌ.. ما هذه تُسمى التميمية ولا عمل لها وبعدها مبتدأ وخبر بعكس ما الحجازية التي تعمل عمل كان.. وفي سورة يوسف {مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ}.

8 -أحرامٌ على بلابله الدو

حُ حلالٌ للطير من كل جنس

أحرامٌ : حرام هنا مبتدأ ومع أنه نكرة إلا أنه جاز الابتداء به بعد الاستفهام.. قال ابن مالك:

ولا يجوز الابتداء بالنكرة

ما لم تفد كعند زيدٍ تمرة

(البحر الرجز)

ففي مصر يرتع الغرباء ومن كل جنس - على ذمة شوقي - بينما هو ابن مصر محرّم عليه أن يقيم في مصر أو يعود إليها. قال أبو الطيب:

نامت نواطير مصرٍ عن ثعالبها

وقد بشمن وما تفنى العناقيدُ

(البحر البسيط)

(وهذا تشبيه ضمني فهو يشبه مصر بالغابة ذات (الدوح الكثيف) والطير من كل جنس (البوم والغربان) تحوم عليها بينما هو البلبل الصداح محروم.

وهذا البيت هو الذي دفعنا للتعقيب وهو جارٍ مجرى المثل كما استشهد به الشيخ عبدالله بن إدريس.

9 - كل دار أحق بالأهل إلا

في خبيث من المذاهب رجسِ

وهو يقصد المحتل البريطاني آنذاك، والعامة تقول (ما زينة الدار إلا أهلها).

10 - ويبالغ فيقول:

وطني لو شغلت بالخلد عنه

نازعتني إليه في الخلد نفسي

والجنة تنسيك كل ما كان في الدنيا ولكنه خيال الشعراء.

11 - شهد الله لم يغب عن جنوني

شخصه ساعةً ولم يَخْلُ حسي

(الله أعلم)

ويكفي هذا من سينية شوقي لنعرّج على سينية البحتري:

* * *

صنتُ نفسي عمّا يدنس نفسي

وترفَّعت عن جَدا كلِّ جِبسِ

(والبحتري الشاعر وأبو تمام والمتنبي حكيمان - كما قال المتنبي نفسه) وترى في هذه القصيدة شاعرية البحتري وجمال ألفاظه ومعانيه وقوتها وتماسكها.. وقصيدة البحتري (56) بيتاً وسنعرض لبعض أبياتها..

ففي البيت الماضي تحس بعزة نفس البحتري وعدم قبوله عطاء اللئيم (جَدَا كل جبس): كما قال القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني:

وما كلُّ برقٍ لاحَ لي يستفزني

ولا كل من لاقيت أرضاه منعما

إلى أن أرى ما لا أغصُّ بذكره

إذا قلتُ قد أسدى إليَّ وأنعما

البحر الطويل

2 - وتماسكت حين زعزعني الدّهـ

ر التماساً منه لتعسي ونكسي

تلحظ المطابقة بين التماسك والزعزعة.

والدهر لا يزعزع والزمان لا يلتمس ولكن كما قال الشاعر:

نعيب زماننا والعيب فينا

وما لزماننا عيبٌ سوانا

(البحر الوافر)

3 - بُلَغٌ من صُبابة العيش عندي

طففتها الأيام تطفيفَ بخسِ

وهذا كسابقه (بلغ من صبابة العيش) قليلٌ متاعه في الحياة ومع ذلك طفف هذا القليل.

4 - وكأن الزمان أصبح محمو

لاً هواه مع الأخسِّ الأخسِّ

وكل الفقراء يبررون تعسهم ونكسهم بأن الأيام ترفع الخسيس وتخفض الأصيل.

5 - واشترائي العراقَ خطة غَبْنٍ

بعد بيعي الشآمَ بيعة وَكْسِ

(اشتراء وبيع، طباق في البديع). والعراق مفعول به للمصدر اشتراء والشآم مفعول للمصدر بيع.

يعد ذهابه إلى العراق صفقة غبن فيها وتركه الشام بيعة خاسرة.. ولكن لماذا ترك الشام وذهب إلى العراق؟

6 - وقديماً عهدتُّني ذا هَناتٍ

آبياتٍ على الدنيّات شُمسِ

شُمس: جمع شمساء، مثل حُمر جمع حمراء.

7 - ولقد رابني بنوُّ ابن عمي

بعد لينٍ من جانبيه وأنسِ

8 - وإذا ما جُفيتُ كنتُ حرّياً

أن أُرى غير مصبح حيث أمسِي

وباختصار: ابن عمه هو الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك جفاه وهو صاحب صفات ترفض الدنية فلذا رحل فأصبح يمسي في مكان ويصبح في آخر.

** ذهابه إلى المدائن ووصفه إيوان كسرى:

9 - حضرتْ رحليَ الهمومُ فوجهـ

تُ إلى أبيض المدائن عنسِي

والهموم من جفاء الخليفة والمدائن عاصمة الفرس وأبيض المدائن قصر كسرى (إيوان كسرى) وعنسه (ناقته - الإيرباص).

10 - أتسَلى عن الهموم وآسى

بمحلٍّ من آل ساسان درسِ

وعلى عادة الشعراء يتسلّون عن الهموم بركوب الناقة.

قال امرؤ القيس:

سما لك شوقٌ بعدما كان أقصرا

وحلت سليمى بطن ظبيٍ فعرعرا

فدعها وسلِّ الهم عنك بجَسرة

ذمولٍ إذا صام النهار وهَجَّرا

(من البحر الطويل)

اعتراه (امرؤ القيس) الشوق بعد أن كان نسيه وصاحبته سليمى في بطن ظبي وعرعر - عرعر معروفة ولكن أين بطن ظبي؟ - المهم تسلية الهم بالجسرة الذمول (الناقة السريعة) في الصيام والهجير وسط النهار واشتداد الحر.

والمحل من آل ساسان: هو إيوان كسرى، درس: دارس: بالٍ. وآل ساسان هم الأكاسرة.

ويسخر من العرب وأطلالهم نسبة إلى أطلال كسرى فيقول:

حِلَلٌ لم تكن كأطلال سُعدى

في قفارٍ من البسابس ملس

وأطلال سعدى: في أراض قفر وصخور جرداء:

** صور من القصيدة..

ثم يصف الحرب بين الفرس والروم في أنطاكية: شمال سوريا وجنوب تركيا:

11 - وإذا ما رأيت صورة أنطا

كيَّةَ ارتعتَ بين رومٍ وفُرسِ

12 - والمنايا مواثلٌ وأنوشر

وانُ يُزجي الصفوف تحت الدِّرَفْسِ

13 - في اخضرار من اللباس على أص

فَرَ يختال في صبيغة وَرسِ

14 - وعراك الرجالِ بين يديه

في خفوتٍ منهم وإغماضِ جرسِ

15 - تصف العين أنهم جدُّ أحيا

ءٍ لهم بينهم إشارة خُرسِ

16 - يغتلي فيهم ارتيابيَ حتى

تتقراهُمو يَدايَ بلمسِ

وهذا وصف لمعركة أنطاكية بين الروم والفرس، المنايا حاضرة والفرس بقيادة كسرى أنو شروان تحت الدرفس (عَلَمُ الفرس اسمه درافاش كابيان) وملابس كسرى صفراء وخضراء وحمراء، والحرب أمام كسرى بأصوات خافتة وهذه كلها صور مرسومة داخل القصر ولبراعة المصور يشك البحتري في أنهم أحياء فيكاد يمد يده ليتحسسهم، ويكفى هذا.

نزار رفيق بشير-الرياض


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد