المتأمّل في مرور الليالي والأيام وتصرم الشهور والأعوام، يعلم حقاً أنّ الدنيا زائلة لا محالة وأنّها مزرعة للآخرة، فينبغي للمسلم أن يتزوّد فيها من الحسنات ويحذَر السيئات قبل أن يدركه الأجل وهو مُصرٌّ على المعاصي فيندم حينذاك، ويكون كأولئك الذين قال عنهم الله تعالى {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ}.
وإنّ المسلم اللبيب إذا رأى تعاقب فصول السنة واحداً بعد الآخر حتى تنقضي وتأتي بعدها سنة أخرى، حاسب نفسه ورجع إلى ربه ليغفر ذنبه كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسَبوا)، فحينما نعيش هذه الأيام (فصل الشتاء) فيجدر بنا أن نكون على بيِّنة مما ورد في فضله من سنّة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأن نستفيد منه من الإكثار من الطاعات، لأنّه كما روى الإمام أحمد من حديث أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الشتاء ربيع المؤمن) أخرجه البيهقي وغيره وزاد فيه (طال ليله فقامه وقصر نهاره فصامه) إنما كان الشتاء ربيع المؤمن لأنّه يرتع فيه في بساتين الطاعات ويسرح في ميادين العبادات وينزه قلبه في رياض الأعمال الميسرة فيه، كما ترتع البهائم في مرعى الربيع فتسمن وتصلح أجسادها، فكذلك يصلح دين المؤمن في الشتاء بما يسّر الله فيه من الطاعات فإنّ المؤمن يقدر في الشتاء على صيام نهاره من غير مشقة ولا كلفة تحصل له من جوع ولا عطش فإنّ نهاره قصير بارد فلا يحس فيه بمشقة الصيام، وفي المسند والترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصيام في الشتاء الغنيمة الباردة) وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: ألا أدلكم على الغنيمة الباردة قالوا: بلى، فيقول الصيام في الشتاء، ومعنى كونها غنيمة باردة أنها غنيمة حصلت بغير قتال ولا تعب ولا مشقة فصاحبها يحوز هذه الغنيمة بغير كلفة.
وأما قيام ليل الشتاء فلطوله يمكن أن تأخذ النفس حظها من النوم ثم تقوم بعد ذلك إلى الصلاة فيقرأ المصلي ورده كله من القرآن، وقد أخذت نفسه حظها من النوم، فيجتمع له فيه نومه المحتاج إليه مع إدراك ورده من القرآن فيكمل له مصلحة دينه وراحة بدنه، ويروى عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: مرحباً بالشتاء تنزل فيه البركة ويطول فيه الليل للقيام ويقصر فيه النهار للصيام. وعن الحسن قال: (نعم زمان المؤمن الشتاء ليله طويل يقومه، ونهاره قصير يصومه) وعن عُبيد بن عمير أنّه كان إذا جاء الشتاء قال: يا أهل القرآن طال ليلكم لقراءتكم فاقرأوا وقصر النهار لصيامكم فصوموا. وهذا الكلام موجه إلى المؤمنين بالله وباليوم الآخر الذين يتأدبون بآداب النبوة ويعملون بالقرآن والسنّة، وقد مدح الله المؤمنين القائمين المتهجدين في الليل بقوله {كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}وبقوله {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}وبقوله {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}. وأخبر - صلى الله عليه وسلم - أنّ صلاة الرجل في جوف الليل تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وإن الله تعالى ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: (من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له حتى يطلع الفجر) وهذه الفضائل محروم منها أكثر الناس اليوم الذين يسهرون إلى نصف الليل ثم ينامون عن صلاة الفجر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكره النوم قبل صلاة العشاء والحديث بعدها إلاّ في خير، وقيام ليل الشتاء يعدل صيام نهار الصيف في الفضل العظيم والثواب الجسيم، ولهذا بكى معاذ بن جبل عند موته وقال: (إنما أبكي على ظمأ الهواجر وقيام ليل الشتاء ومزاحمة العلماء بالرُّكب عند حِلَق الذِّكر).
وإسباغ الوضوء في شدة البرد من أفضل الأعمال لما في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات. قالوا: (بلى يا رسول الله قال: إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط). وفي حديث معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى ربه عز وجل - يعني في المنام - فقال له: يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى قال في الدرجات والكفارات. قال: والكفارات اسباغ الوضوء في الكريهات ونقل الأقدام إلى الجمعات وفي رواية الجماعات وانتظار الصلاة بعد الصلاة من فعل ذلك عاش بخير ومات بخير وكان من ذنوبه كيوم ولدته أمه. والدرجات: إطعام الطعام وإفشاء السلام والصلاة بالليل والناس نيام.
ولما كان المسلم يشعر في الشتاء بالبرد، فقد امتنّ الله على عباده بأن خلق لهم من أصواف بهيمة الأنعام وأوبارها وأشعارها ما فيه دفء لهم من البرد. قال تعالى {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}وقال تعالى {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ}وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا حضر الشتاء كتب إلى الجُند بالوصية: إن الشتاء قد حضر وهو عدوٌّ فتأهبوا له أهبته من الصوف والخفاف والجوارب واتخذوا الصوف شعاراً ودثاراً، فإن البرد عدوٌّ سريع دخوله بعيد خروجه، وذلك من تمام نصيحته وحسن نظره وشفقته وحياطته لرعيته - رضي الله عنه - ومما يؤمر به في الشتاء وغيره مواساة الفقراء والمساكين بما يدفع عنهم البرد، وفي ذلك فضل عظيم، خرج الترمذي من حديث أبي سعيد مرفوعاً: من أطعم مؤمناً على جوع أطعمه الله يوم القيامة من ثمار الجنة ومن سقاه على ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم ومن كساه على عري كساه الله من خضر الجنة أي من حلل الجنة الخضراء). وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن ابن مسعود قال: (يحشر الناس يوم القيامة أعرى ما كانوا قط وأجوعَ ما كانوا قط وأظمأَ ما كانوا قط فمن كسا لله عزّ وجل كساه الله ومن أطعم لله أطعمه الله ومن سقا لله سقاه الله ومن عفا لله أعفاه الله).
ومن فضائل الشتاء أنه يُذَكِّر بزمهرير جهنم ويوجب الاستعاذة منها وتجنب الأعمال الموصلة إليها من ترك الواجبات وعمل المحرمات، وفي حديث أبي هريرة وأبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كان يوم شديد البرد فليقل العبد: لا إله إلاّ الله ما أشد برد هذا اليوم اللهم أجرني من زمهرير جهنم) قال الله تعالى لجهنم ( إن عبداً من عبادي استجار بي من زمهريرك وأني أشهدك أني قد أجرته) قالوا وما زمهرير جهنم قال: بيت يلقى فيه الكافر فيتميز من شدة برده) أخرجه الدرامي، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اشتكت النار إلى ربها فقالت يا رب أكل بعضي بعضاً فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف فأشد ما تجدون من الحر من سموم جهنم وأشد ما تجدون من البرد من زمهرير جهنم). ورُوي عن ابن عباس قال: يستغيث أهل النار من الحر فيغاثون بريح باردة يصدع العظام بردها فيسألون الحر. وعن مجاهد قال: يهربون إلى الزمهرير فإذا وقعوا فيه حطم عظامهم حتى يسمع لها نقيض. وقد قال الله عز وجل {لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا جَزَاء وِفَاقًا}وقال الله تعالى {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ}قال ابن عباس الغساق الزمهرير البارد الذي يحرق من برده وقال مجاهد هو الذي لا يستطيعون أن يذوقوه من برده. وقيل: إنّ الغساق البارد المنتن. أجارنا الله تعالى من جهنم بفضله وكرمه.
وهناك بعض الأحكام الفقهية التي تتأكد معرفتها في فصل الشتاء ومنها أحكام المسح على الخفين والجوربين فإنه من يُسر الشريعة الإسلامية وسماحتها أن أباح لنا الرسول صلى الله عليه وسلم المسح على الجوارب، لما في غسل الرجلين من المشقة في وقت الشتاء البارد، والمسح على الخفين ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتواتر، قال الحسن البصري (حدثني سبعون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مسح على الخفين)، وقال الإمام أحمد: ليس في نفسي من المسح شيء، فيه أربعون حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ويُشترط لبس الجوربين على طهارة، وتتوقت مدة المسح للمقيم بيوم وليلة وللمفاسر ثلاثة أيام بلياليهن.
وأيضاً يُباح جمع صلاتي الظهر مع العصر والمغرب مع العشاء عند نزول المطر الغزير الذي توجد معه مشقة في الحضور للمسجد كل وقت، فقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء في ليلة مطيرة، وفعله أبو بكر وعمر، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: يجوز الجمع للوحل الشديد والريح الشديدة الباردة في الليلة الظلماء ونحو ذلك وإن لم يكن المطر نازلاً في أصح قولي العلماء.