Al Jazirah NewsPaper Sunday  30/12/2007 G Issue 12876
الثقافية
الأحد 21 ذو الحجة 1428   العدد  12876

الحنين والشوق إلى مكة والمدينة
(قراءة في الشعر السعودي)

 

مدخل:

إن علاقة الإنسان بالأرض علاقة أزلية، فلم نسمع شخصاً أظهر أو أضمر الكره للأرض التي نشأ عليها، وقضى فيها أيام الصبا والشباب، فالوطن جميل بحلوه ومره، والبعد عنه معاناة ترجمها الشعراء إلى قصائد مؤثرة تسجل في ذاكرة التاريخ، وفي هذا السياق قال ابن الرومي (ت: 282هـ):

(وَحَبِّبْ أَوْطَانَ الرِّجَالِ إِلَيْهِمْ

مَآرِبُ قَضَاهَا الشَّبَابُ هُنَالِكَا)!

وأعظم مهيجات الحنين والشوق إلى الوطن تذكر أحداث أيام الشباب، فالنفس البشرية عندما تتذكر هذه الأيام تتأجج مشاعر الشوق، ويبلغ الحزن منها مبلغاً عظيماً، فحب الإنسان لوطنه نابع من الاستيطان والإقامة فيه، لا بمجرد الانتماء إليه، وفي هذا السياق قال أبو هلال العسكري (ت: 395هـ):

(إِذا أَنَا لا أَشْتَاقُ أَرْضَ عَشِيْرَتِي

فَلَيْسَ مَكَانٌ فِي النُّهَى بِمَكِيْنِ

مِنَ العَقْلِ أَنْ أَشْتَاقُ أَوَّلَ مَنْزِلٍ

نَمَيْتُ بِخَفْضٍ فِي ذَارِهِ وَلِيْنِ)

استخدم الشاعر في البيتين السابقين صورة عقلية؛ لإبراز شوقه وحنينه لوطنه؛ فالشوق مرتبط بالوطن وبالأحداث التي جرت على مسرحه، والأحداث هي من تعزز غريزة الشوق الفطرية، وبمجرد التذكر تتفجر قنابل الحزن في كوامن المغترب، ليصبح في داخله بركة من المشاعر والأحاسيس والأفكار.

ولنا في رسول الله محمد (صلى الله عليه وسلم) قدوة حسنة، فبعد هجرته إلى المدينة المنورة، كان يحن إلى مسقط رأسه مكة المكرمة التي قضى فيها أيام الصبا والشباب، (وحدث أن أتاه أحد الصحابة، وكان قادماً من مكة، فسأله (صلى الله عليه وسلم) عن مكة، فردّ عليه الصحابي بقوله: تركتهم وقد حيدوا، وتركت الأذخر وقد أغدق، وتركت الثمام وقد خاض، فما كان منه (صلى الله عليه وسلم) إلا أن انهمرت الدموع من عينيه الكريمتين).

ولنا في صحبه الكرام خير اتباع واقتداء، وكان بلال بن رباح (رضي الله عنه) بعدما خرج من مكة المكرمة يحن إليها ويشتاق، ويرفع عقيرته منشداً:

أَلا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيْتَنَّ لَيْلَةً

بِفَخٍّ وَحَوْلِي أَذْخَرٌ وَجَلِيْلُ

وَهَلْ أَرَدْنَ يَوْماً مِيَاهَ مُجَنَّةً

وَهَلْ يَبْدُوْنَ لِي شَامَةٌ وَطَفِيْلٌ

إن حب (مكة) تغلغل في عمق التكوين النفسي للصحابي بلال بن رباح (رضي الله عنه), فأرسل أمنياته وأشواقه إلى (مكة)، وتمنى المبيت ولو ليلة واحدة فيها تكفيه أن يظل حول جبالها التي كلما اقترب منها سر بها، وازداد أنساً، وصورة الشوق والحنين في البيتين السابقين ارتبطت ب(هل) الاستفهامية، وتجلت في معجمه الألفاظ المرتبطة بطبيعة المكان, والصور المستقاة من طبيعته, مما عزز في تكامل الصورة الكلية لهذا الحنين الذي تشكل في مخيلة الشاعر.

إن شعر الغربة والحنين من الأغراض الكثيرة والمشهورة في الشعر العربي، ولقد ألف الجاحظ (ت:255هـ) كتاباً بعنوان (الحنين إلى الأوطان)، وسجل فيه قصصاً وأخباراً عن الشوق والحنين إلى الوطن، (وكانت العرب إذا غزت أو سافرت حملت معها من تربة بلادها رملاً وعفراً تستنشقه عند نزلة، أو زكام أو صداع).

وأشار (ماهر حسن فهمي) في كتابه (الغربة والحنين في الشعر العربي) إلى أن مفهوم الوطن قد تغيّر (فأصبح البقعة الجديدة التي يعيش فيها الإنسان، وترتبط حياته بها، ولهذا كاد يختفي شعر الحنين إلى الجزيرة العربية، وحل محله حنين المدن في أكثر الأحيان).

الحنين والشوق إلى مكة:

نظم الشعراء السعوديون قصائد كثيرة في الحنين والشوق، وشعر الحنين والشوق سمة بارزة في الشعر الحجازي؛ إذ عندما يغيب الشاعر عن مكة المكرمة والمدينة المنورة، يبدأ في نظم القصائد التي ترسم حزنه لفراقه وطنه، وينسج فيها شوقه لهاتين المدينتين.

ومن هؤلاء الشعراء (حسين عرب)، وصف حنينه وشوقه لمكة المكرمة وهو في لبنان، فقال:

ذَكَرْتُكِ فِي لَبْنَانَ وَالسَّهْلُ مُمْرِعٌ

وَفَوْقَ الذُّرَىَ أَسْرَابُ طَيْرٍ مُغَرِّدِ

فَفَاضَتْ دُمُوْعُ العَيْنِ مِنِّي صَبَابَةً

إِلَى كُلِّ مَغْنىً فِي الحِمَىَ مُتَفَرِّدِ

كثف الشاعر من الصور الفنية الاستعارية الجزئية؛ ليصل إلى الصورة الكلية، وهي صورة الحنين والشوق لأرض مكة المكرمة، ومزج بين الصور البصرية (السهل ممرع)، و(دموع العين)، والصورة السمعية (طير مغرد)، مما كشف عن رؤية الشاعر رؤية بصرية لجمال طبيعة لبنان، ويؤكد في هذه الصور أن ما عاشه من أجواء طبيعة، لا يوازي ما فقده من أجواء إيمانية، إلى أن وصل إلى قوله:

تَذَكَّرْتُ فِيْكِ الصَّخْرَ وَالرَّمْلَ وَالثَّرَىَ

وَمَأْوَى الصِّبَا الرَّيَانِ بِالحُبِّ وَالدُّدِ

تَذَكَرْتُ سُوْقَ اللَّيْلِ وَالشِّعْبِ وَالصَّفَا

وَمُنْعَرِجِ الوَادِي البَهِيْجِ المُنْضِدِ

ذَكَرْتُ النَّقَا وَالرَّقْمَتَيْنَ أَطَلَتَا

عَلَيْهِ عَلَى البَطْحَاءِ كَالمُتَوَحِّدِ

وَرَقْرَقَتُ بَيْنَ الوَجْنَتَيْنِ مَشَاعِرِي

تَفِيْضُ بِشَوِقٍ عَارِمٍ مُتَوَقِّدِ

كشف الشاعر اغترابه عن مكة المكرمة، فلقد عانى الغربة المكانية والنفسية والوجدانية، ولفظة (تذكرت) اللازمة المتكررة هي مفردة الاغتراب التي استخدمها الشاعر، وذكر مواضع كثيرة في مكة المكرمة، وهذه الصورة تعكس صورة الشاعر النفسية، وهمومه الداخلية التي حاول من خلالها أن يلملم جراحه، إلى أن قال:

فَعُِدّتُ إِلَيْهَا وَالهَوَى يَسْتَعِيْدَنِي

وَقَبَّلْتُ أَصْحَابِي وَعَانَقْتُ عُوْدِي

وَقُلْتُ لِنَفْسِي حِيْنَ قَرَّبَهَا النَّوَىَ

وَطَابَ لَهَا المَأْوَى مَكَانَكَ تَحْمَدِي

صوّر الشاعر المشهد الأخير، وهو عودة الشاعر إلى وطنه (مكة المكرمة)، ونسج صوراً فنية استعارية متعددة جسمت لقاءه بوطنه، ونلحظ القدرة التركيبية لديه في ختم قصيدته وحسن تخلصه.

وللشاعر (علي زين العابدين) قصيدة في الحنين إلى مكة المكرمة تقترب من قصيدة (حسين عرب) السابقة شكلاً ومضموناً، وما يجمع بينهما هي (التجربة الحياتية) حيث تنقلا بين عدد كبير من بلدان العالم، وأجمعا على أن مكة المكرمة هي الأجمل بين بقاع الأرض، فقال:

هَذِهْ البَلْدَةُ فِيْهَا أَقْرِبَائِي

وَأَبِي مِنْهَا وَخَالِي وَانْتِمَائِي

كَيْفَ أَسْلُوْهَا؟ أَأَسْلُوْ جَنَّتِي

جَنْةً طَابَتْ بِخَيْرِ الأَنْبِيَاءِ

فَتَحْتُ عَيْنِي عَلَى كَعْبَتِهَا

وَارْتَوَت مِنْ مَنْهَلِ النُّوْرِ دِمَائِي

وثق الشاعر علاقته بالمكان (مكة)، وذكر عدداً من العلائق التي جعلته مرغماً بهذا المكان (أبوه)، و(خاله)، و(مولده)، واستخدم أنساق اللغة وجمالياتها وإيحاءاتها؛ لتحريك نوازع الشوق التي اختلجت في أعماقه ووجدانه.

جال الشاعر في عدة دول أوروبية وأمريكية؛ وذلك لطبيعة عمله التي تفرض عليه السفر والترحال، ونقل لنا تجربته الحياتية، وهي أنه لم ير بقعة أجمل من (مكة)، أو حتى تقرب منها في الحسن والجمال، كما في قوله:

طِفْتُ بِالدُّنْيَا فَمَا هَدْهَدَنِي

غَيْرَ دَارِي فِي رُبُوْعِ الأَنْبِيَاءِ

مَا فَرَنْسَا حَيْثُمَا عِشْتُ بِهَا

غَيْرَ سِجْنٍ مَرْفَدٍ مِنْ كُلِّ دَاءٍ

عقد الشاعر في البيتين السابقين مقارنة بين صورتين متقابلتين لمكانين مختلفين؛ فالأول: (مكة) أرض النبوات، ومهد الرسالات، والآخر: (فرنسا) أرض وهبها الله الطبيعة الخلابة. وأراد الشاعر من هاتين الصورتين أن يلبس صورة الحنين والشوق صورة مألوفة، قريبة المأخذ، وعرضها بطريقة رشيقة خفيفة الظل للمتلقي؛ فرأى بلاد الغربة (فرنسا) سجناً كبيراً، ومنبعاً لكل وباء وداء.

ويؤكّد الشاعر (حسن عبدالله القرشي) على أن مكة المكرمة هي البلد الذي يشترك المسلمون في الحنين إليه، وهي الملهمة لكل شاعر ذي حس مرهف، فقال:

(أَمَكَّةُ فِيْكِ انْطِلاقُ الحَنِيْنِ

وَفِيْكِ الشُّعُوْرُ لِمَنْ قَدْ شَعَرَ)

رصد الشاعر نقطة ولادة الحنين والشوق، واتكأ في هذا الرصد على الفاعلية النفسية والوجدانية التي باحت بها لغته الشعرية، ووظفها لتبيان الإحساس بالاغتراب والبعد عن مكة.

وللقرشي قصيدة أخرى صوّر فيها شوقه وحنينه لمكة المكرمة بصورة فنية حية، فقال:

شَاقَنِي مَوْكِبُ الجَلالَِ تَبَدَّى

فِي ظِلالِ التَهْلِيْلِ وَالتَّكْبِيْرِ

اعتمد الشاعر في البيت السابق على الصورة السمعية التي تتمثل في (التهليل)، و(التكبير)، وهذا الصوت القوي اختزل في أعماق الشاعر التي عجت بالحركة والصخب المستمدين من حنينه وشوقه ل(مكة).

وشاق الشاعر (طاهر زمخشري) مرارة البعد، فبكى فراق مكة المكرمة؛ وذلك عندما وجد نفسه في عيد الأضحى من عام 1397هـ في تونس الخضراء، وليس حوله شيء من مظاهر الحج إلا كبش الفداء، فقال):

فِي صَعِيْدٍ بِهِ الأَغَارِيْدُ تَكْبِيْ

رُ وَقِيْثَارَةُ شَفُوْفِ الضِيَاءِ

قَدْ تَنَاءَتْ بِي الظُّرُوْفُ وَأُلْقِي

بَي بَعِيْداً عَنْ المَدَى الوَضَّاءِ

فَإِذَا أَنْتَ فِي الطَرِيْقِ أَمَامِي

تَحْتَوِيْنِي بِنَظْرَةِ اسْتِحْيَاءِ

عكس الشاعر في هذه اللوحة الفنية الملونة أحاسيسه الحزينة في اغترابه عن المشهد الحي في (مكة)، وهذه اللوحة امتزج فيها الصوت (الأغاريد)، والصورة (شفوف الضياء)، وخيّم الحزن على أجواء اللوحة، واستحضر فيها صورتين: الأولى غائبة: مشهد صوت الحجاج في التلبية، والتضرع إلى الله يوم النحر، والأخرى حاضرة: المشهد الذي يعيشه الشاعر في (تونس) بعيداً عن (مكة)، ولم يتبق له من الصورة الأولى الغائبة، إلا كبش الفداء الذي مثل له البقية الحاضرة من ذكريات الماضي التليد.

الحنين والشوق إلى المدينة:

أما شعر الحنين والشوق إلى المدينة المنورة، فلقد حظيت بحظ وافر من الشعر السعودي، ترجم فيها الشعراء حنينهم لمدينة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، واستطاعوا تبيان شوقهم الحار تجاه هذه الأرض المباركة في صور متناثرة تدل على الحب المكين للمدينة المنورة.

من هؤلاء الشعراء (عبدالسلام هاشم حافظ) الذي أفصح عن شوقه وحنينه إلى مسقط رأسه (المدينة)؛ حيث قدر الله تعالى عليه أن بقي في القاهرة فترة زمنية تقدر بعام تحت الإشراف الطبي، وما كان منه إلا أن فجّر شيئاً من الشوق والحنين بقصيدة، قال في مطلعها:

دَارِي وَسِرُّ الهَوَى البَاقِي وَأَوْطَانِي

يَا طَيِّبَةَ النُّوْرِ يَا رُوْحِي وَوِجْدَانِي

الشَّوْقُ يَا مَا أَمَرَّ الشَّوْقِ فِي كَبِدِي

عَلَى مَدِيْنَتِنَا وَالمَسْكَنُ الحَانِي

بثّ الشاعر -في مطلع قصيدته- معززات الشوق والحنين إلى الوطن (المدينة)، وهي عادة درج عليها الشعراء العرب في شعر الشوق والحنين، ونلمس في هذا المطلع حرارة الشوق التي التهبت في لواعجه؛ وذلك من خلال الصور الفنية البصرية التي وظفها في تبيان حزنه لبعده عنها، وبلغت القصيدة ذروتها حين استرسل في وصف الأماكن المقدّسة فيها, وأسرته، وفي تذكر مسجد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فقال:

هُنَاكَ مَسْقَطُ رَأْسِي حَيْثُ أُسْرَتُنَا

مِنْ آلِ حَافِظٍ مِنْ أَحْفَادِ عَدْنَانَ

لَنَا بِطِيْبَةَ أَمْجَادٌ يُعَزِّزُهَا

جِهَادُنَا وَالبَقَاءُ الحَقُّ لِلْبَيَّانِي

وَفِي المَدِيْنَةِ أَحْلامِي وَعَاطِفَتِي

وَذِكْرَيَاتُ الصِّبَا وَالمَأمَلِ الدَّانِي

بِمَشْهَدِ المُصْطَفَى خَيْرُ الجِوَارِ بِهِ

يَا عَزّهُ مِنْ جِوَارٍ فِيْهِ تَلْقَانِي

أظهر الشاعر معززات الحنين والشوق: (الأسرة)، و(الأمجاد)، و(التاريخ المضيء)، و(الأحلام)، و(الهوى)، و(الذكريات)، ومسجد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، كلها اجتمعت في المدينة المنورة، وهذه العلائق والروابط المتينة ذكرها في صور استعارية فنية بصرية، وأوقف معه المتلقي؛ ليشاركه في الشوق والحنين لها، فهي أسباب اجتمعت وكونت في كوامن الشاعر قوة إضافية لمشاعره وأحاسيسه وفلسفته الفكرية.

وزاد شوقه للمسجد النبوي الشريف، وللجو الروحاني الذي عاشه في المدينة المنورة، والذي فقده إبان غربته، فاتجه إلى الاستذكار مخاطباً زوجته قائلاً:

أَيْنَ العَبِيْرَ يُغَذِّيْنِي إِذَا خَشِعْتْ

جَوَارِحِي فِي مُنَاجَاتِي بِإِيْمَانِي

فِي المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ عِنْدَ الرَّسُوْلِ أَرَى

نَوْرُ الهُدَى مَاحِياً هَمِّي وَأَشْجَانِي

زَوْجِي تَقُوْلُ - وَفِي أَضْلاعِهَا لَهَبٌ -

مَتَى نَعُوْدُ لِجَوِ العِزَّةِ الهَانِي

استخدم الشاعر عدداً من الصور الفنية السمعية والبصرية؛ لإرسال شوقه وحنينه إلى المدينة المنورة، فتذكر رائحة العبير الإيماني الذي تفوح به ساحات المسجد النبوي وجنباته فشمّها بأنفه، وتذكر مشهد المسجد النبوي وقبر المصطفى (صلى الله عليه وسلم) الذي زاده نوراً وهدى، ثم اتجه إلى زوجته وهي تخاطبه وتشاركه الشوق واللهفة للعودة (متى نعود لجو العزة الهاني) في (مونولوج) داخلي معبّر.

واختتم قصيدته مؤكداً تعلقه الشديد بالمدينة المنورة، كتعلق الأم بطفلها، داعياً ربه أن يحقق له العودة، قائلاً:

أَوَاهُ مِنْ شَوْقِي المَحْمُوْمِ يُشْغِلُنِي

عَنْ كُلِّ أَمْرٍ سِوَى دَارِي وَأَوْطَانِي

رِبَّاهُ حَقَّقَ لَنَا عُوْداً نَقَرُّ بِهِ

لا شَيءَ عَنْ وَطَنِي يَدْعُو لِسُلْوَانِي

نلحظ في البيتين السابقين تعلق الشاعر بالمكان المقدَّس وسكونه فيه، مع مسحة حنين ظاهرة برزت من خلال تعلقه بوطنه (المدينة) الذي جعله يدور في قالب المكان وعشقه الأبدي له.

ووصف الشاعر (عبدالحق نقشبندي) شوقه للمكان المقدَّس (المدينة المنورة)، فنظم قصائد كثيرة، وهو في بلاد الهند، ومنها قصيدته هذه التي صرح فيها بالشوق إلى الوطن، قال فيها:

خَلِيْلِي عِوَجَاً نَحْوَ طَيِّبَةٍ أَنْ لِي

فُؤَاداً بِهَا قَدْ ضَلَّ مِنِّي بِلا عَمَدٍ

تَهِيْجُ بِي الذِّكْرَى إِذَا مَا اسْتَعَدْتُهَا

فَأَقُضِي اللَّيَالِي بِالنَّحِيْبِ وَبِالسُّهْدِ

وَكَيْفَ وُصُوْلِي نَحْوَكُمْ سَادَةُ الحِمَى

وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ المَدِيْنَةِ وَالهِنْدِ

أظهرت -هذه الأبيات- الحالة النفسية الكئيبة للشاعر، حيث بدا عليه القلق والتوتر نتيجة للاغتراب والحنين للوطن الأم، وتوجه إلى صاحبيه بالسؤال عن قلبه، وهي عادة درج عليها الشعراء القدامى عندما وقفوا على الأطلال والديار الخاوية.

والشعراء عندما فارقوا الديار الطاهرة لا نسمع في شعرهم غير مسحة من الحزن والألم والشكوى، ووصفت (سعاد محجوب) حال الشعراء عندما فارقوا هذه الديار المقدَّسة فقالت: (...ولا يستطيع مقاومة الشوق إذا حنّت روحه وتاقت إلى رؤية الأماكن المقدَّسة، فلا يهنأ له بال حتى يمتع ناظريه برؤية هذه الديار المقدَّسة، وإذا تعذر عليه الذهاب، أو لم يتمكن من الوصول، فنجد الحسرة والألم تغلف نفسه، وتلون شعره، وقد يتمكن منه الهم والغم، ويصبح عرضة للمثيرات الخارجية...) (24).

وخلاصة القول إن شعر الشوق والحنين إلى هاتين المدينتين المقدستين -مكة المكرمة والمدينة المنورة- كان له حضور واسع في الشعر العربي، إلا أن حضوره في شعر الشعراء السعوديين يعد الأكثر والأميز؛ نتيجة للعامل المكاني، وقربهم منهما، فما تشرق شمس يوم ولا تغرب إلا وهم بجوارهما؛ ولذلك كان من الطبيعي أن يكون الشاعر السعودي من الحجاز الأكثر شعراً تجاه مكة المكرمة والمدينة المنورة، والأكثر تشوقاً إليهما حين فارقهما لسببين هما:

أ - إنه يقطن هذه الأرض المباركة.

ب - إن أرض الحجاز منارة العلم والحضارة، ومنها بزغ نور الإسلام، وهذا التقدم العلمي والحضاري جعل الشعراء السعوديين من الحجاز يتفوقون على غيرهم من شعراء المملكة العربية السعودية.

لقد أظهر غرض الحنين والشوق التصاق الشاعر السعودي بالمكان المقدَّس -مكة المكرمة والمدينة المنورة- ، والتحامه به روحياً ونفسياً ووجدانياً، مما أحدث اللذة الفنية والإثارة الشجونية لدى القارئ المتذوق؛ نظراً لارتباط المبدع والقارئ بالمشاعر نفسها ووحدة الأفكار والعواطف.

زهير بن حسن العَمري

ناقد وأكاديمي سعودي


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد