Al Jazirah NewsPaper Saturday  26/01/2008 G Issue 12903
السبت 18 محرم 1429   العدد  12903
قبلية (الشعر) أم إباحية (الفن)؟
محمد بن عيسى الكنعان

عاد برنامج المسابقات الجماهيري (شاعر المليون) إلى المشاهد العربي من خلال الفضاء الإعلامي بنسخته الثانية، متسلحاً بعوامل القوة ومقومات النجاح التي اكتسبها من نسخته الأولى، أبرزها أنها تحول إلى (ماركة إعلامية) على مستوى الإنتاج العربي الفضائي.

ما دفع بعض القنوات الفضائية والمجلات الشعبية إلى محاولة استحداث مسابقة شعرية مماثلة، فكانت الماركة الشعرية الجديدة سبباً رئيساً في الإقبال الكبير عليه من قبل شعراء الشعر الشعبي أو النبطي في مرحلة التصفيات الأولية للمشاركة في البرنامج خلال الدورة الجارية، حتى وصل تعداد المتقدمين إلى (12 ألف) متسابق، خاصة أنه حقق القابلية الإعلامية لدى المشاهد العربي، فغدا حديث الناس خاصتهم وعامتهم، مثقفهم وعاميهم، ومن جانب آخر اتسعت الرعاية الإعلامية للبرنامج من قبل العديد من الصحف الخليجية، فضلاً عن أن هذه المسابقة مهدت الطريق لمسابقة شعرية أكثر أهمية منها وهي (أمير الشعراء) التي اختتمت فعالياتها بنجاح يوم الجمعة 25- 10-1428هـ.

ولكن في المقابل يتهم هذا البرنامج أنه يحيي النعرات الجاهلية بإثارة العصبية القبلية، عندما تدور قافية الشعر على محاور التفاخر بالأنساب والتغني بمآثر الأجداد والاعتزاز بالانتماء القبلي، إضافة إلى أنه يعزز حضور (الشعر الشعبي) على حساب (الشعر الفصيح)، الذي يشكل لسان لغة العرب، عندما يكون هذا الشعر مطية للإعلام في شيوع اللهجات المحلية والدارجة على حساب اللغة الأم الجامعة لكل العرب. إذاً المأخذ الوحيد على هذا البرنامج هو في هاتين النقطتين اللتين لا تقفان عند حدود المرفوض الاجتماعي، إنما ربما تنتقل إلى المحظور الشرعي، في تحول البرنامج إلى (سوق عكاظ) معاصرة تحاكي جاهليات قديمة وميتة وتمسخ عقول الأجيال بلهجة عامية مكان العربية الفصحى.

بالنسبة للنقطة الثانية المتعلقة بمسألة تأثير البرنامج على اللغة العربية وجدلية العلاقة بين العامي والفصيح، فيمكن القول إن هناك مسابقة أخرى تهتم بالشعر الفصيح أشرت إليها سلفاً وهي (أمير الشعراء)، وقد أعطيت حظاً من الكعكة الإعلامية الفضائية، والاهتمام الجماهيري بما ينفي التهمة أن الشعر العامي أو الشعبي يتصدر إعلامنا على حساب الشعر الفصيح، على الأقل بالنسبة للقناة الفضائية التي ترعى المسابقتين وتبثهما.

أما النقطة الأخرى المتعلقة بقضية إحياء النعرة الجاهلية عن طريق إثارة العصبية القبلية، كون بعض الشعراء يسلكون طريق التفاخر بالأنساب وذكر الأمجاد والماضي القبلي، فهذا صحيح في تصوره النظري ولكن مختلف في واقعه الفعلي، بمعنى أن هناك شعراء بالفعل تفاخروا وذكروا القبيلة وربما بلغة شعرية عصبية، ولكن لم تكن المسألة مفتوحة أو شاملة لكل الشعراء المتسابقين، بل الغالبية منهم استنكروا ذلك وأكدوا القيم الإسلامية التي لا تجعل الجانب القبلي هو فيصل الأفضلية أو معيار الكرامة بين الناس، كما أن لجنة التحكيم شددت على ذلك، حتى أن شعار هذا البرنامج في دورته الحالية كما أعرف هو: (لا للعصبية القبلية.. نعم للشعر والأخلاق).

ما أريد الوصول إليه ليس نفي التهمة عن مسابقة (شاعر المليون)، أو التقليل من شأنها وتأثيراتها على الوعي الجماهيري، خاصة أني لست من أنصار الشعر الشعبي وإن كنت أسمعه وأطرب له، ولكن أريد الوصول بالقارئ إلى ساحة المقارنة بين هذه المسابقة الشعرية المتقنة، وبين مسابقات (تلفزيون الواقع) التي تطل علينا من قبل قنوات عربية فضائية تستنسخ أفكاراً غربية مستوردة وتدمغها بالنسخة العربية تحت دعاية ضخمة تستنزف الجيوب وتغيب العقول وتميع الأخلاق، فلا نرى في فعالياتها الإعلامية إلا التعري الجسدي تحت الأضواء الكاشفة، ولا نسمع من المشاركين فيها إلا صخب الأستوديوهات المغلقة، ولا نجد في معطياتها إلا سفاسف الثقافة وخواء المعرفة، فضلاً عن دس السم بالعسل، من خلال بث قيم الحرية غير المنضبطة، والصداقة المفتوحة، وتسويق التعليقات الغربية، كما حدث ويحدث في مسابقات سوبر العار، وأكاديمية الشيطان، والوادي السحيق بالأخلاق وغيرها من فوضى (الجسد) الفضائية التي تجتاح إعلام العرب.

نعم تصدر بعض التصرفات العنصرية المغلفة بطابع قبلي مقيت خلال حلقات مسابقة (شاعر المليون) من قبل بعض الشعراء المسكونين بهذا الداء الاجتماعي، لكنها تواجه بالرفض الجلي من قبل لجنة التحكيم في لحظتها، فتتحطم هذه العنصرية على صخرة الوعي الجماهيري العام، سواء داخل المسرح أمام الحاضرين، أو خلف الشاشة من قبل المشاهدين، بينما العكس هو ما يحصل بالنسبة لمسابقات التعري الفني والصخب الغنائي، حيث تقدم هذه أو تلك على أنها الفن الذي ينطق برسالة الشعوب السامية، والحضارة التي سترتقي بالأمة الخالدة، والضحية في كل هذا العبث الأجيال الواعدة من المحيط إلى الخليج، التي فقدت بوصلة الوعي في صحراء الإعلام العربي المجدبة من البرامج الثقافية والمسابقات الهادفة والأفكار الإعلامية النيرة. لهذا نحتفي بمسابقات الشعر والعرب أمة شاعرة، لأنها تصرف عنا (خبث) المسابقات الأخرى.



kanaan999@hotmail.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد