Al Jazirah NewsPaper Wednesday  06/02/2008 G Issue 12914
الاربعاء 29 محرم 1429   العدد  12914
متى يختفي اسم التفضيل (الأفضل) من قاموس مسؤولينا؟
د. خالد بن محمد الصغيّر

(اسمحوا لي أن أبدأ تعليقي بالتأكيد على أمر مهم، وهو أن هذا المشروع الذي تشرفت للتو بافتتاحه يُعدُّ وبكل فخر واعتزاز الأفضل، والأكبر، والأحسن على مستوى منطقة الشرق الأوسط).

هذه العبارة وما شابهها يُلقيها على مسامعنا بعض من مسؤولينا بمجرد انتهاء مراسم تدشينهم لأحد المشاريع التنموية الوطنية، وهي جملة اعتدنا سماعها بعد كل مناسبة يقوم فيها هذا أو ذاك المسؤول بإسدال الستار عن أحد المشاريع، صغيرها وكبيرها، حتى وإن لم يرتقِ فيه إلى مستوى ومكانة تجعله في مقام المنافس على المراتب الأولى من بين المشاريع المماثلة إقليمياً وعالمياً. ومن هنا أضحى تضمين هذا النوع من التصاريح والتعليقات بمثل عبارة (نحن الأفضل)، أو (يوجد لدينا الأفضل من هذا الشيء أو ذاك على مستوى المنطقة بل والعالم) بمثابة لازمة يتفوه بها جمع كبير من مسؤولينا حالما يُطلب منهم التعليق على موضوع ذي مساس بمشروع هنا أو هناك يسند إليهم مهمة تشريف حفل افتتاحه، أو عند الطلب منهم الإفصاح عن رؤيتهم وتقييمهم لمشروع أو منجز تنموي قائم.

وفي كل مرة أسمع أو أقرأ هذه العبارة وما شاكلها ينتابني في آن واحد شعور بالغضب تجاه مَنْ تفوّه بها، وقدر كبير من الحسرة والأسى. ومبعث الغضب يعود إلى أن من يدعي هذا الادعاء لم يحترم عقلي وعقل الملايين من أبناء هذا البلد؛ لأنه قام بتمرير معلومة لا تعكس واقع الأمر الذي نعيشه ونلمسه. نحن أبناء هذه البلد المعطاء سنكون أكثر احتراماً لمن يُصر على قول ذلك صباح مساء، ونعترف له بأن لدينا بنى تحتية ممتازة، وجامعات مرموقة، ومستشفيات بإمكانيات جيدة وعلى مستوى عال، ومطارات جيدة، والقائمة تطول على السارد من صنوف البنى التحتية التي نمتلكها ونفتخر بها، ولكنها بكل حال ليست كما يُزعم الأفضل والأحسن، وأنها لا تتوافر لنظرائنا في دول المنطقة والعالم. ولسنا مثبطين للعزائم راضين بالقصور، ولكننا بتواضع نقول: إننا يمكن أن نصل بما نملك من منجزات، أو ما نحن بصدد القيام به من مشاريع تنموية إلى مرتبة أعلى وأفضل، ولكن تحقُّق ذلك على أرض الواقع يحتاج إلى عمل جاد وطويل مبني على أسس علمية رصينة. ومبعث الحسرة والأسى يعود إلى أن عدداً من المواطنين باتوا يرددون من غير تفكير عبارات الادعاء بالأفضلية التي يُسوّقها لنا في كل حين ومناسبة البعض من مسؤولينا من غير إدراك من بعض أولئك المواطنين بأن هناك العديد من الدول التي يتوافر لها من البُنى التحتية والمشاريع ما يفوق ما لدينا بمراحل كمّاً وكيفاً. وكأني بالانفتاح على العالم من حولنا، وتدفق المعلومات من كل حدب وصوب ومن خلال قنوات ومصادر متعددة لم يؤثرا في تشكيل ذهنيات قادرة على تمحيص ما يرد إليها من معلومات تغالط الحقيقة وتجافيها.

وتواتر سماع وقراءة صيغ التفضيل تلك قاد إلى إحداث ردة فعل مباشرة، وأخرى متأنية طابعها العمق وتأمل ممزوج بمزيد من الروية وإعمال الفكر في هذا التوجه المثير للحنق. وتمثلت ردة الفعل المباشرة في استحضار، أو بالأحرى التفكير في مساءلة من يدعي ذلك بتساؤلات منها: ما الذي جعل أو بالأحرى حدا بمدعي الأفضلية القول بملء فيه ذلك، أو الاعتقاد به؟ وما هو الأساس الذي بُني عليه هذا الادعاء؟. واستقر التأمل بروية إلى المحاجّة بأن على من يسوق لذلك الأخذ في الحسبان مجموعة من المسائل والقضايا حتى يكون لدعواه تلك قبول وتصديق من قِبل الرأي العام. ومن هنا فأدعياء المفاضلة والتميز بحاجة إلى اعتبار المعايير العالمية الخاصة في كل حقل وشأن من شؤون المعيشة، والنظر أين نقف بناء على تلك المعايير الدولية المعتمدة، كما أنهم بحاجة إلى الاحتكام إلى التقييم العالمي السنوي لمستوى المعيشة في دول العالم الذي تقوم به الأمم المتحدة سنوياً، وعندها فقط سنعرف على وجه الدقة هل نحن أفضل الأمم فيما نمتلكه من منجزات ومشاريع تعليمية وصحية وفي غيرها من المجالات. اليوم - كما تشير تقارير الأمم المتحدة - تأتي كندا وللمرة السادسة على التوالي على رأس أفضل الدول، فائقة بذلك 175 دولة.كما أن هناك مقياساً عملياً آخر أكثر دقة معتمداً من قِبل الأمم المتحدة، يجب الاحتكام إليه، وهو مقياس التطور الدولي أو الإنساني، أو ما يشار إليه اختصاراً بمقياس أو مؤشر (HDI) الذي يُحتكم إليه عند الرغبة في قياس أو الحكم على العديد من المجالات التي منها مستوى المعيشة المفترض والمقبول، والإنجازات التعليمية بما في ذلك مستوى التعليم، ونسبة الأمية، وعدد الفرص التعليمية المتاحة للمواطنين في مختلف المراحل التعليمية، والناتج المحلي الإجمالي الحقيقي لكل فرد بالاستناد إلى القدرة الشرائية، ومستوى الأمن، والاستقرار، ونسبة الجرائم، ومدى سيادة النظام والقانون، والمنجزات والخدمات الصحية، ومستوى الحرية الشخصية والإعلامية، وحجم العلاقات الدولية، ومقدار النمو الاقتصادي، وغيرها من الشؤون والمجالات التي يمكن لنا بعد الاحتكام إلى ذلك النوع من المرجعيات الدولية المعتمدة القول بأننا الأفضل من بين الأمم في مختلف مشارب وأوجه الحياة. وهذه الاعتبارات والمرجعيات هي ما تستند إليه أمم الأرض عند تقييمها لمنجزاتها ومشاريعها التنموية؛ ما أكسبها مصداقية وقبولاً عند إعلانها أفضلية وسبق ما تمتلكه من منجزات. ومن هنا أجد أننا بحاجة إلى أن نقتفي أثر بقية دول العالم حين نريد إبراز ما نمتلكه بالاحتكام إلى تلك المرجعيات الدولية مع تقديم أرقام وحقائق تدعم زعمنا بالأفضلية، أو لنقل شهادة دامغة تؤكد علو كعب منجزاتنا أممياً وليس فقط إقليمياً.

وخطورة الاستمرار في الاحتماء خلف أفعل وصيغ التفضيل والتضخيم والتهويل تكمن - في رأيي المتواضع - في أنها تولِّد شعوراً بالاستكانة والدعة، بسبب شعورنا أننا بلغنا القمة، ومن هنا فلسنا بحاجة إلى محاولة حث الخطى لتطوير مستوى معيشتنا وقدراتنا، والتفكير في مشاريع مستقبلية ذات مواصفات عالمية، كما أنها في الوقت نفسه تخلق حالة من الإنكار تجعلنا دوماً نغض الطرف عمداً عن نواحٍ شتى قاصرة هي بحاجة ماسة إلى مزيد من العناية والاهتمام، ومضاعفة الجهد للارتقاء بها مراتب أعلى وأرقى. وخطاب المبالغة هذا أيضاً يجعلنا ضيقي الأفق، بل إنه يخلق فينا شعوراً طاغياً بالغرور والغطرسة والترفع عن التفكير في الاستفادة من التطور السريع الذي يمر به العالم من حولنا، ويُزيد من حجم إحجامنا عن الرغبة للتعلم من تجاربه، والانطلاق من حيث انتهى الآخرون.

الأمنية التي أود أن أختم بها مقالي هذا هي أن يختفي اسم التفضل (الأفضل) من قاموس مسؤولينا الأفاضل، وأن يستعيضوا عن ذلك بتقديم صورة حقيقية لواقع ما نمتلكه؛ فكفانا ادعاءً بأننا الأفضل، وليكن همهم مُنصباً على التفكير بكيفية توظيف قدراتنا البشرية والمالية بشكل علمي مدروس ودقيق يضمن لنا القيام بمنجزات تنموية بمعايير عالمية، وعندها فقط سنصفق بحرارة لهم، وسنقوم نحن بدلاً منهم بالقول وبقدر عال من الزهو والفخر إن لدينا أفضل البُنى التحتية بمواصفات عالمية معتمدة، التي كان خلفها رجال لم يهدأ لهم بال حتى تحقق لنا قدم السبق فيها، وينعم سكان هذا البلد المعطاء مواطنين ومقيمين بمزيد من الرفاهية المنبثقة عن توافر منجزات حضارية نفاخر بها أمم الأرض.



alseghayer@yahoo.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد